عُثر عليها صباحاً طريحة الفراش، دون حراك، نقلها الأقارب للمستشفى.. سرعان ما اتضحت المسألة، فارقت الحياة إثر تعاطيها جرعة مميتة من سم مخصص للفئران..حكاية كغيرها من حكايات شباب، دفعته بعض التجارب المريرة لإختيار مثل هذه النهايات التي فوق أنها إزهاق لروح بشرية دون وجه حق،فهي جريمة مغلظة توقع بصاحبها أشد العقوبة في الدار الآخرة ،أما كان عليه قبلها أن يؤمن بموقف الشرع وتجريمه لها واعتبارها من كبائر الذنوب التي تغمس بمرتكبها في حفرة من حُفر النار..يظل الانتحار من المواضيع التي لاتُطرح إلا في النادر ،كونه ارتبط بوقائع لم تحدث إلا بصورة نادرة في أوساط مجتمعنا المحافظ الذي يدرك عقوبة ارتكاب هذه المعصية..وما يثير الاهتمام أن هذا الموضوع بدأ يسلك مسلكاً خطيراً في الأعوام الأخيرة حيث تزايدت حالات الانتحار الناتجة عن ضُعف وغياب الوازع الديني بدرجة أساسية وافتقار أصحابها لفضيلة الصبر على المكاره والمواقف الدنيوية.. وفي أبرز تقرير صادر عن قطاع الأمن بوزارة الداخلية والذي رصد فيه الجرائم المتنوعة التي كان السلاح طرفاً فيها طوال الأعوام الثلاثة الأخيرة 2004 20052006م والذي بدا مواكباً ومتناغماً مع الحملة الضخمة التي دشنتها الوزارة أواخر اغسطس الفائت بتطبيقها لقرار منع حمل السلاح في مُدن البلاد،رصد التقرير عدد حالات الانتحار والشروع فيها التي حدثت خلال الأعوام الثلاثة وبلغت رقماً لايستهان به «1401»حالة منها«950» حالة انتحار كان السلاح طرفاً فيها ونجم عنها مصرع «624»شخصاً،فيما كانت حصيلة حالات الانتحار التي ارتكبت عبر أدوات أخرى غير الأسلحة الشخصية حوالي «451»نتج عنها مقتل «141»شخصاً،وهؤلاء تقريباً استخدموا طرقاً شتى لوداع الحياة..إما قتلاً بالسم أو شنقاً بالحبال الملفوفة أو الارتماء من شاهق أو العوم في برك عميقة أو تصويب المطاوي والآلات الحادة إلى مناطق حيوية بالجسد وربما اللجوء إلى قطع الشرايين في الأطراف والنزف حتى الموت انتهاء بصب النفط والاحتراق بالنار والذي لايساوي شيئاً أمام سعير الآخرة.. أتذكر امرأة قتلت نفسها حرقاً لمجرد سماعها بقصة زوجها الذي تزوج من امرأة أخرى نكاية بأهلها الذين أقاموا الحواجز والعراقيل أمامهما وأجبروها على مغادرة بيت الزوجية إمعاناً في إذلال الزوج،المفاجأة أن المرأة التي توفيت بالمستشفى متأثرة بحروقها،اكتشفت قبل موتها بلحظات أن الأمر لم يخرج عن كونه إشاعة وجاء على لسان زوجها الذي هرع إليها هلعاً إلى المستشفى لرؤيتها والاطمئنان عليها، تحادثا ولم يلبث أن أخبرها بأن ماسمعته من أمر الزواج كان مجرد كذبة قبل توديعها للحياة بين ذراعيه..وهي مأساة تقترب كثيراً من مصاب احدى الزوجات التي ناصبها عمها«أبوالزوج» العداء منذ اقترنت بإبنه الذي آثر السفر إلى بلاد الغربة خلاصاً من المشاكل الأسرية التي عكرت صفو حياته الزوجية،وثمة وسواس شيطاني دفع بأبيه إلى ترويج إشاعة بزواج ابنه في الغربة من امرأة أخرى موهماً أهل قريته الواقعة في إحدى مديريات محافظة ذمار بأن الخبر فاح من آخر خطاب تلقاه من الابن في الغربة،أما الزوجة التي كانت وقتها تحتطب على سفح قمة شاهقة تطل على القرية فقد وصلها الخبر الكاذب في تلك اللحظة فكان أن تهاوت وألقت بنفسها من تلك الهاوية لتبلغ القعر جثة هامدة.. على النقيض قد يكون الرجل أو الزوج تحديداً هو ضحية يديه،كما في واقعة الزوج الأربعيني العمر الذي خطه الشيب وامتلأت ملامحه بالأخاديد والتضاريس جراء عراكه المستمر مع زوجته سليطة اللسان،قاده عدم تحمل أحد المواقف شديدة السخونة مع زوجته إلى تناول قنبلة روسية الصنع من صندوق قديم يحتفظ به في أحد أرجاء المنزل ولم يلبث أن فجرّ نفسه واستحال إلى بركة دماء فيما نجت الزوجة من الحادث لبعد المسافة بينها وزوجها وقت تفجيره للقنبلة القاتلة.. بعض العبث قد تكون عواقبه وخيمة،فهذا أحدهم اصطحب صديقاً له في نزهة صوب الحقول الخضراء في قريتهم الريفية بمحافظة إب، وبالمناسبة أراد استعراض مهارته في القنص عبر مسدس جديد اشتراه ورغب في تجريبه،بدأ يتفقد أجزاء السلاح بشكل مبالغ وعابث، انطلقت فجأة الرصاصة واستقرت في جسد صديقه الذي بدا وكأنه أشبه بالميت،..جن جنون الشاب لهول المشهد ثم على طريقة الأفلام الغربية صوب المسدس إلى رأسه وضغط على الزناد منهياً حياته ..انتحر هو فيما اتضح بعدها أن صديقه لم يمت بالطلقة العابثة وتم إنقاذها ليكتب له النجاة.. حتماً الظروف والدوافع تتغير،لكن يبقى الانتحار هو الانتحار كجرم كبير ومهلكة لأصحابه،..هل كان على طالب الثانوية الذي صدمته النتيجة الختامية بالفشل في تجاوز هذه المرحلة الدراسية ،أن يصبر ويجتهد في العام اللاحق فقد يصل إلى أكثر مما يبتغيه بدلاً من إزهاق حياته وإهلاك نفسه بيديه..وهل على ذلك الشاب الذي دفعه عدم إيجاد فرصة عمل أن يختار الانتحار مسلكاً للابتعاد عن ضائقته، مثل هذا الذي استولى على خلايا عقله إبليس الرجيم لم يدرك بأن المرء مُبتلى في هذه الحياة،وأن الفرج هو النهاية الطبيعية التي تعقب اشتداد الضوائق.. ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فُرجت وكنت أظنها لاتفرج في هذه العجالة،لايفوتني الحديث عما تلعبه الوسيلة الإعلامية من دور في التوعية وتبيان خطر مثل هذه الظواهر الخارجة عن قيمنا الدينية والتي تأباها النفس البشرية فالوسيلة الإعلامية قد تؤدي لنتائج عكسية من حيث لاتدري كما في إعادة مشاهد إعدام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين شنقاً على شاشات الفضائيات..وهي مشاهد ارتبطت بأذهان بعض الأطفال الذين أرادوا تقليد هذه العملية فكان أن شهدنا أكثر من واقعة انتحار ارتكبها أطفال تمثيلاً لتلك الواقعة التي كان من الحصافة أن يجنب أولياء الأمور أطفالهم من مشاهدتها على هذا النحو وكأنه لايكفينا فداحة تلك الواقعة التي هزت الضمير العربي والإنساني حتى نشاهد أطفالاً في عمر الزهور يسقطون ضحية تقليدهم لمشهد مؤلم يصعب أن يمحى بسهولة من الذاكرة.