أنا .. من أنا ، أأنا هذا الذي أحمل صورته وأعرف تحركاته وأحفظ حديثه عن ظهر قلب. أم أنا ذلك الآخر الذي أهرب من لقائه وأتوجس خيفة من الحديث عنه..عندما ولدت عرفت بالخداع أن الحياة بدأت من مولدي ولم أجهد نفسي بمعرفة الحياة قبل وجودي فتلك حياة لا شأن لي بها فهي لا تهمني كالحياة التي أحياها الآن. أقنعني والداي بالخطأ أنني إنسان - ككل الناس – له كيانه الخاص وتفكيره المستقل وروحه الغامضة التي بفطرته يفهمها جيداً. الطفولة كانت مسرحاً لذيذاً لعبثية الكبار ومهازل الحقائق والوقائع وللأشياء الأخرى السخيفة التي لم يكتب لها النجاح قبل الآن مع مخلفات الماضي. وحدها الطفولة البريئة التي استطاعت أن تمتص رحيقها القاسي دون تردد. مراهقتي لم تكن أحسن حالا من طفولتي ، إحساس عنيف ومشاعر ملتهبة تشعلني بالأمل والحياة معاً لكنها لم تشعرني بيقين ذاتي ودفء العالم الذي يضمني بضجر إليه لأرى فيه (أنا) الذي يسكنني بوحشية التساؤل المثقل في رأسي بصراع دائم متروك لحروب سقطت منها معاني التبرير دون جواب . كنت أؤمن بعمق الحياة والناس وكل الأشياء الجميلة التي تزين هذا الكون ببريق منحتها له ضياءات عيوننا الملونة بالطيف . الموت وحده هو الذي كان يرعبني هربت منه بكل فوران الحياة حيث ظل يطاردني في المرتفعات وطرق السيارات حتى كرهته بقدر الأشياء الجميلة التي أحببتها وتمنيتها. هذه الحياة ما أروعها أعشق غموضها المثير بحرارة الدم الذي يسقيني الأمل كل يوم .. إلى الأمام .. إلى الأمام وتكون لنا أمنياتنا وأحلامنا النبيلة التي أدمنا عليها منذ الصغر . حين كبرت أدركت سهولة الحياة وتفاهة الأشياء المزخرفة ، أدركت كم أنا وضيع وحقير في هذا الكون لست أقصد (أناي) التي أعرفها بل ذلك الشخص الذي أسكن جسده , فقد أخذ مني كل شيء وأعطاني إطاره الرث وأطرافه الهزيلة ووجهه الشاحب لم أعرف أنه مختلف عني إلا في وقت متأخر. خاصمته بعد معرفة حقيقته القبيحة ، لم أعد أستطيع أن أتحكم في ذلك الجسد المتحرر المتمرد عن صاحبه لأني لم أعد أمتلكه لقد أسره شخص آخر لا أعرفه سلبه فجأة دون شعور مني ومن يومها بدأت أشعر بالفزع من ذلك الجسد ومن روحه المتحولة المتقلبة بين جمر وبرد. أصبح يصدر أحكاماً لم أعرفها من قبل وتصرفات أجهلها. وكل يوم يزداد خوفي من ذلك الجسد الذي يسجنني في داخله ويمنع روحي من فيضانها المستمر تغيرت نظرتي للحياة وللأشخاص حينها لم أعد أرى فيها ألوانها البراقة ولم أعد أشعر بدورانها المعتاد للخلق والتحويل وكأنها ملت من مهنتها الأبدية. فالناس ينظرون شزراً لدورانها السريع بتكاسل شديد. فهم لا يريدون لها الحركة ، الجمود أفضل بكثير من الضوضاء والصخب ليظلوا في الأغوار ينشدون أغانيهم الهشة دون العناء لتغيير ألحانها الخالدة. بحثت عن وسائل شتى لتنقذني من هذا القفص الأسود الذي أظلم الدنيا في عيني..لم يعد يخيفني أي شيء أبداً حتى الموت أصبح بالنسبة لي مخلوقاً ظريفاً فلا بد لي من لقياه لكي نتصالح بعد فترة عداء طويلة، فبالموت وحده أستطيع دون شك أن أتخلص من هذا الجسد العفن.