الوسطية منهج يقوم على الاعتدال دون إفراط أو تفريط ودون غلو أو مغالاة، إن على المرء أن يأخذ من كل شيء بقدره دون مبالغة أو مزايدة في جانب على حساب آخر« وكذلك جعلنكم أمة وسطا» البقرة: 341 أمة تؤمن بالله وتتوكل عليه حق توكله لكنها لا تتوكل عليه.. أمة تعمل بجهدها البشري لتحقيق غاية الوجود الإنساني في هذه الحياة.. تعمل بهذه المعطيات وتلك الخصائص التي أودعها الله في جنباتها تتفاعل مع الأحياء والأشياء من حولها تؤثر وتتأثر وتحرك هذه المقومات من ضميرها المكنون لتصبح واقعاً حركياً في أصقاع هذه الكون الفسيح يجالد ويكابد ذاته ولذاته ليخلق لها موقعاً متميزاً في عالم لا يخلع قبعته إلا للتميز والتفرد.. إن الوسطية في ميزان الاعتدال داخل النفس البشرية وهي المقوم التربوي في عُمق الضمير الإنساني ترده إذا أخطأ وتحاسبه أيما حساب إذا تباطأ ولا تكيل له مدائح وثناء إذا أحدث تقدماً.. حتى لا يتسرب للنفس البشرية من الإعجاب ما يهدم كيانها.. إن أي عمل بشري نرنو ونتطلع إلى نجاحه ونتوق إلى أن يأتينا بأكله يلزمه عاملان أساسيان الأول هو إخلاص النية لله والتوكل عليه حق التوكل والإيمان الأبدي السرمدي المطلق أن ما أخطأ المرء لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه.. وأن مقاليد الأمور كلها بيد الله سبحانه يصرفها كيفما يشاء وأن تصريف الأمور دائماً على النحو الذي أراده الله هو الأنفع والأصوب والأكرم لكل نفس بشرية.. والثاني هو إعمال الجهد البشري بكل طاقاته وبكل ما وهبه الله من مقومات وعوامل مساعدة لتحقيق غايته ومبتغاه، وفي القول المأثور عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه «إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة» كشف للخيط الرفيع بين التوكل والتواكل. إن قدر الله نافذ في هذا الكون وماض في تلك الحياة لا محال في ذلك ولكن يتحقق ذلك بتحرك العنصر البشري ذاته والذي يتحرك هو الآخر بمشيئة الله وقدره وإرادته التي تفوق كل شيء وتتعدى كل حد.. وفي النص النبوي الشريف «قل آمنت بالله ثم استقم» إيمان وعمل وتوكل وسعي والنص القرآني قال: «ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون» المائدة: 32 مجرد الحركة والعمل ودخول الباب بل طرق الباب كان كفيلاً بتحقيق الانتصار والمجد على هذه الأرض وفي السموات العلا انتصاراً يشرف الجنس البشري كله لأنه ثمرة الإيمان الكامل والتوكل المطلق والعمل الدؤوب والاستنفار الدائم لتحقيق المغانم.. وقد يقول قائل قرعت الأبواب كثيراً ولكن لا تزال تلك الأبواب مغلقة فأقول إن التوكل الكامل على الله والعمل الطموح قد تتأخر نتائجه أو قد لا يأتي بنتائجه أصلاً في هذه الحياة الدنيا.. إن حكمة الله تخط لنا خطوطاً عميقة لتنبثق منها خاصية إنسانية عريقة تتمركز في الصبر قد تقدم جهداً بشرياً خالصاً في أتم صورة على الإطلاق وتعمل وتكدح ولا تصل إلى شيء.. عندئذ عليك أن تتذكر أن هذه الحياة الدنيا ليست مقراً ولكنها ممر إلى الدار الآخرة التي يوفيك الله فيها أضعاف ما كنت تنتظره في هذه الحياة الدنيا.. ولنطالع مشهداً من القصص القرآني في سورة البروج «أصحاب الأخدود» لقد أوقد الطغاة نار الجحيم للفئة المؤمنة أوقدوها بالحجارة والجثث البشرية في جوف الأخدود والنار ذات الوقود.. وهم عليها قعود.. يتلذذون بالصراخ الآدمي الذي يقطع أنياط القلوب صراخ الأطفال والشيب والشبان والنساء الثكالى.. إنه مشهد دموي يصور لنا منتهى الخسة وغلظة القلوب المتحجرة في جانب الفئة الباغية المتعطشة للدماء الآكلة للحوم البشر تلاشت منهم إنسانيتهم إلى هذا الحد البغيض.. أما عند الفئة المؤمنة الموحدة فيصور لنا منتهى الألم وأجسادهم تتلقى ألسنة النار المشتعلة تأكل الصغار والكبار والشيوخ العجائز تتحدى الإيمان والتوحيد وتخنق الشهقات في تخوم الأنفس الطاهرة التي زكتها هذه النيران المتأججة.. ارتفعت الأرواح على آلام الأجساد، راحت تحلق في الأفق الرحيب وتجوب.