تتعدد الفرضيات التي تقوم عليها الهندسة النفسية( البرمجة اللغوية العصبية NLP) بتعدد المجالات في الحياة الإنسانية,وقد تناولنا في حلقات سابقة افتراضين هما أن الخريطة ليست بالضرورة هي الموقع وكذلك ليس هناك فشل وإنما خبرات وتجارب..وفي هذه الحلقة سنتحدث عن فرضية جديدة من فرضيات الهندسة النفسية وهي (( وراء كل سلوك قصد إيجابي)) . الأمير والصقر يحكى أن احد الأمراء كان لديه صقر قوي وكان عزيزاً عليه ولا يفارقه في كل أوقاته وفي أحد الأيام كان الأمير في رحلة صيد وتوغل في احد الأودية وافتقد الماء واخذ يبحث عنه حتى اشتد به العطش وبعد البحث الطويل وجد صخرة مرتفعة تنزل منها قطرات من الماء فأخرج الأمير كوباً ليجمع قطرات الماء وانتظر لوقت طويل حتى امتلأ الكوب ثم رفعه لكي يشرب ..وهنا انقض الصقر على يد الأمير واسقط الكوب...غضب الأمير وحاول مرة أخرى ان يجمع قطرات الماء وقبل أن يشرب الماء حدث نفس الأمر من الصقر وأسقط الكوب وفي المرة الثالثة سقط الكوب من يد الأمير ووقع في الوادي السحيق فغضب الأمير بشدة وأخذ السيف وقتل الصقر..لم يجد الأمير حلاً سوى أن يصعد إلى الصخرة لكي يشرب من نبع الماء وعندما وصل إلى أعلى الصخرة وجد حية ميتة وقطرات السم تسقط من فمها وتختلط بقطرات الماء.هنا أدرك الأمير ان الصقر كان يحاول إنقاذ حياته. معركة الجسر كانت معركة الجسر المشهورة بين الفرس والمسلمين في منطقة مرتفعة بين جبلين يربطهما جسر وتحته وادٍ سحيق ..وكان في جيش الفرس عدد من الفيلة والتي أخافت خيول المسلمين فتقهقرت وتراجعت للخلف فأراد الجيش ان ينسحب الى الضفة الثانية ويعبر الجسر ليعيد ترتيب صفوفه..وهنا خاف أحد المسلمين من الهزيمة وأراد ان يمنع الناس من الانسحاب ويحمسهم على القتال فقام بقطع الجسر ...وهنا حدثت الكارثة وسقط كثير من المسلمين في الوادي وكانت الهزيمة المرة. وراء السلوك قصد ايجابي ويقصد بهذا الافتراض أن السلوك الذي يصدر عن الإنسان مهما كان خاطئاً إلا أن وراءه بالضرورة مقصداً حسناً ونية ايجابية يجب علينا ان نبحث عنها ونتعامل مع هذا الإنسان بناء على هذا المقصد وهذه النية وكما رأينا في القصتين السابقتين.. فان سلوك الصقر الخاطئ بنظر الأمير كان وراؤه قصداً ايجابياً وهو إنقاذ حياته وسلوك الرجل المسلم في قطع الجسر كان خاطئا وأدى إلى نتائج وخيمة الا ان النية من وراء السلوك كانت ايجابية وهي منع الانسحاب وتحفيز المقاتلين على الصمود والانتصار على الأعداء.. هذا الافتراض من أهم الافتراضات للتواصل مع النفس و الآخرين...فأي سلوك (مهما كان نوعه) يصدر من أي شخص فإن وراءه نية إيجابية (هدف ايجابي) لهذا الشخص... فكل عمل يقوم به أي فرد فإنه يقصد من وراءه نية إيجابية(فائدة) سواء هذه الفائدة له شخصياً أو للآخرين أو للبيئة. فمثلاً: هذا جيسي جيمس ذلك اللص الذي طبقت شهرته الآفاق يقول عن نفسه انه كان يجاهد من اجل الفقراء وكان يعرض نفسه للقتل فى سطوه على القطارات والمصارف لكي يعطي المال المسلوب للمزارعين الفقراء ليسددوا ديونهم ، تماماً كما كان روبن هود يفعل مع أثرياء إنجلترا ، وهذا شخص قتل آخر ليحقق نية إيجابية بالنسبة له. وتراه يقول مفتخراً: (لقد انتقمت منه ، ولماذا تنتقم ؟ لأشعر بالراحة من أنني أخذت حقي كاملاً) ! لقد تخلصت منه ....ولماذا تخلصت منه؟ لكي لا يضر الآخرين كما ضرني. عندما قام بالقتل كانت نيته الانتقام لكي يرتاح نفسياً..في تلك اللحظة كانت نية الراحة كافية له للتحرك و تحقيق رغبته في الانتقام بالقتل.. و لو وجد سلوكاً آخر يحقق له هذه النية غير القتل ربما فعله . وهذا الطفل يبكي بكاء مستمراً يثير ضيق الأم التي تنهره وتزجره وهو في الحقيقة لا يبغي من وراء بكائه إلا الاستحواذ على اهتمام الأم وفي تلك اللحظة كانت نية (أريد من يهتم بي) كافية ليواصل الصراخ لساعات ، وهذا الابن الذى يصر على أن يكون فاشلا في دراسته بجدارة ليتحدث عنه الجميع ويصبح مشهورا في المدرسة.. إن هذا الكلام لا يعني إسقاط الحدود في الجرائم ولا اختلاق المبررات لارتكابها ولكن المقصود أن نتأنى قليلاً قبل الحكم على الأمور ونبحث جاهدين في المقاصد الايجابية للأشخاص وراء سلوكهم غير المقبول... الذي سيسهل علينا كثيراً التعامل مع حالات مشابهة بشكل أفضل . مبدأ إسلامي وهذه الفرضية لها أصل قوي في ديننا الإسلامي وهي تشير الى إحسان الظن بالآخرين والتماس الاعذار لهم ، فسوء الظن من خصال الشر التي حذر منها القرآن والسنة. قال تعالى: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ “ [الحجرات: من الآية12] وضرب لنا الرسول المعلم عليه الصلاة والسلام مثلاً رائعاً في الحلم والأناة والنفس الطيبة للتحقق من القصد وراء سلوك الناس ، كما حدث في قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه حيث كتب كتاباً إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر فتح مكة ، و أعطاه امرأة وقال لها: خذي هذا الكتاب واذهبي به ليلاً. فجعلته في رأسها وفتلت عليه شعرها ، فحين كشف الله لنبيه الأمر ، ولحق علي والزبير رضي الله عنهما بالمرأة وعادا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دعا حاطبا فقال : يا حاطب ما حملك على هذا ؟ فقال : يا رسول الله : أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله ما غيرت و ما بدلت ، ولكني كنت امرءاً ليس لي في القوم أصل ولا عشيرة ، وكان لي بين أظهرهم ولد و أهل ، فصانعتهم عليه . إن هذا في نظرنا القاصر (خيانة عظمى) عقوبتها الإعدام ، و قد كانت كذلك في نظر عمر رضي الله عنه الذي استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضرب عنق حاطب ، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم تيقن أن نية حاطب إيجابية سليمة رغم خطأ سلوكه فعفا عنه وقبل اعتذاره . كما يظهر حسن الظن في تعامله عليه الصلاة والسلام، ففي مقولة الصحابة يوم الحديبية: “خلأت القصواء” وقوله عليه السلام دفاعاً عنها : (ما خلأت وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل) أكبر دليل على ذلك. قال العلماء: “ وفي ذلك جواز الحكم على الشيء بما عُرف من عادته وإن جاز أن يطرأ عليه غيره، فإذا وقع من شخص هفوة لا يُعهد منه مثلها لا ينسب إليها، ويرد على من نسبه إليها، ومعذرة من نسبه إليها ممن لا يعرف صورة حاله [فتح الباري 5/335]. إن هذا المنهج هو الذي سار عليه السلف وامتثلوه في حياتهم العملية راسمين لنا صورة مشرفة في التعامل مع الآخرين، فهذا الربيع بن سليمان أحد تلاميذ الإمام الشافعي يدخل على الإمام الشافعي ذات مرة يعوده من مرض ألم به فقال له الربيع: «قوَّى الله ضعفك»، فقال الشافعي: «لو قوَّى ضعفي لقتلني»، فقال الربيع: «والله ما أردت إلا الخير»، فقال الشافعي: أعلم أنك لو شتمتني لم ترد إلا خيراً.. وهذا أبو إسحاق الشيرازي نزع عمامته ذات مرة وكانت بعشرين ديناراً، وتوضأ في دجلة فجاء لص فأخذها وترك عمامة رديئة بدلها، فطلع الشيخ فلبسها وما شعر حتى سألوه وهو يدَّرس فقال: لعل الذي أخذها محتاج. [سر أعلام النبلاء 18/459]. إن معرفتنا بالمقاصد الإيجابية وراء السلوكيات تساعدنا كثيراً على فهم الآخرين وتقويم تصرفاتهم وعلاج سلوكياتهم . توجيهات اسلامية لتطبيق الفرضية هناك العديد من الأسباب التي تعين الإنسان على إحسان الظن بالآخرين، ومن هذه الأسباب: (1) الدعاء: فإنه باب كل خير، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه أن يرزقه قلبًا سليمًا. (2) إنزال النفس منزلة الغير : فلو أن كل واحد منا عند صدور فعل أو قول من أخيه وضع نفسه مكانه، لحَمَلَه ذلك على إحسان الظن بالآخرين، وقد وجه الله عباده لهذا المعنى حين قال سبحانه : (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) [النور:12]. وأشعر الله عباده المؤمنين أنهم كيان واحد ، حتى إن الواحد حين يلقى أخاه ويسلم عليه فكأنما يسلم على نفسه : (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) [النور:61]. (3) حمل الكلام على أحسن المحامل: هكذا كان دأب السلف رضي الله عنهم. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : “لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا، وأنت تجد لها في الخير محملاً”. فعند صدور قول أو فعل يسبب لك ضيقاً أو حزنًا حاول التماس الأعذار، واستحضر حال الصالحين الذين كانوا يحسنون الظن ويلتمسون المعاذير حتى قال الامام الشافعي: التمس لأخيك سبعين عذراً.. وقال ابن سيرين رحمه الله: « إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذراً ، فإن لم تجد فقل: لعل له عذرًا لا أعرفه».. إنك حين تجتهد في التماس الأعذار ستريح نفسك من عناء الظن السيئ وستتجنب الإكثار من اللوم لإخوانك: تأن ولا تعجل بلومك صاحبًا لعل له عذرًا وأنت تلوم. (4) تجنب الحكم على النيات: وهذا من أعظم أسباب حسن الظن؛ حيث يترك العبد السرائر إلى الذي يعلمها وحده سبحانه، والله لم يأمرنا بشق الصدور، ولنتجنب الظن السيئ. (5) استحضار آفات سوء الظن: فمن ساء ظنه بالناس كان في تعب وهم لا ينقضي فضلاً عن خسارته لكل من يخالطه حتى أقرب الناس إليه ؛ إذ من عادة الناس الخطأ ولو من غير قصد ، ثم إن من آفات سوء الظن أنه يحمل صاحبه على اتهام الآخرين ،مع إحسان الظن بنفسه،وهو نوع من تزكية النفس التي نهى الله عنها في كتابه : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) [النجم:32]. . وأنكر سبحانه على اليهود هذا المسلك (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [النساء:49]. اشراقة يقول ابن القيم رحمه الله: “ والكلمة الواحدة يقولها اثنان يريد بها أحدهم أعظم الباطل، ويريد بها الآخر محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه وما يدعو إليه ويناظر عنه “ [مدارج السالكين 3/521]. * خبير تدريب إداري وأسري