(إلى الأجيال المعاصرة والأجيال القادمة أهدي هذه السيرة الذاتية التي تعتبر ليست وقائع لحياة كاتبها فحسب، ولكن فيها وقائع من حياة شعبنا اليمني وصدى لبعض ما كان يجري من حولنا في أقطارنا العربية الشقيقة. فإلى هؤلاء أقدِّم سيرتي الذاتية لعلهم يجدون فيها ما يفيدهم في حياتهم القادمة التي لاشك أنها ستكون أحسن من حياتنا الماضية) مكثت في حضرموت بعد الاستقلال حتى أواخر شهر مارس 1968م وفي أوائل ابريل وصلت عدن واصطحبت معي مخطوطة مجموعتي الثانية “ثورة البركان” وهي تحتوي على مجموعة قصص قصيرة وكنت حينها قد توقفت عن كتابة المسرحيات القصيرة وما إن وصلت عدن واستلمت عملي بمتجر “رويال” حتى سلمت المخطوطة إلى الأستاذ علي محمد الصبان لطبعها ولكنه لسبب ما لم يرسلها إلى بيروت في حينها وبقيت في حوزته حتى شهر أكتوبر 68م عندما أرسلها إلى دار المكتب التجاري ببيروت وهي نفس الدار التي طبعت فيها مجموعتي الأولى “الرمال الذهبية” وبعد حوالي عشرين يوماً وصلت بعض النسخ وهي مطبوعة وشحنت البقية عن طريق البحر، وللتقدير الذي اكنه للرئيس جمال عبدالناصر ولمصر الثورة آنذاك حملت نسخة من المجموعة مع رسالة قصيرة وسلمتها لأول سفير للجمهورية العربية المتحدةبعدن الأستاذ سمير عباسي وفي اليوم الثاني تلقيت رداً على رسالتي تلك مع مجموعة من الكتب المتنوعة مهداة إلي من السفارة وتحمل الرسالة النص التالي: السيد عبدالله سالم باوزير تحية طيبة وبعد تلقيت خطابكم الرقيق المؤرخ 6 /11 /1968م وأشكرك على شعورك الطيب النبيل وعلى الكتاب القيم الذي بعثت به إلي وأرجو لكم كل نجاح وتوفيق. كما أرفق لسيادتك مع هذا بعض الكتب الثقافية وختاماً تقبل أطيب تمنياتي ووافر تحياتي السفير سمير عباسي بعد وصول المجموعة كاملة من بيروت ألفي نسخة قمت بتوزيعها بنفسي على المكتبات والأكشاك، وعلى الرغم من إقبال القراء عليها ونفاد طبعتها الأولى خلال السنوات الأولى لصدورها إلا أنها ظلت حبيسة أذهان القراء وذكرياتهم ولم تنل حقها من النقد حتى ظهر كتاب الدكتور عبدالحميد إبراهيم “القصة اليمنية المعاصرة” الذي أشرت إليه في الحديث عن مجموعة “الرمال الذهبية” فقد أفرد حيزاً من بين صفحاته لمجموعة “ثورة البركان” فذكر عن قصص “ثورة البركان” و”سلام كثير” و”الزائر” قائلاً: “والرجل يصدر أساساً من روح الفنان الذي يتخفى وراء أعماله فيحميها من الملل إنه خبير بنفسية القارئ وينوع العرض أمامه حين يحس أن الموقف يحتاج إلى جديد حتى في قصصه السياسية تبدو خفة روحه فالموضوع السياسي الذي يعرضه غيره بصورة زاعقة ومثيرة يتنوع عنده وتلطفه مواقف فنية فقصته “ثورة البركان” تتخذ طابعاً شعبياً إذ يجلس القاص في عصر كل يوم من رمضان ويتحلق حوله الناس ويقص عليهم أخبار تلك الثورة.. وقصته “سلام كثير” تتعرض للتعنت الانجليزي بطريقة فكهة فقد أصيب بحكة في رأسه جعلته يضطر لرفع يده كل حين وكان الناس في الطريق يظنونه يلقي التحية فيرفعون أيديهم للسلام، وفي يوم اعتقله الانجليز لقد ظنوا أن له صلة بأحد الثوار الذي كان يلقي عليه السلام.. وفي قصة “الزائر” أصيب بزكام شديد أصابه بالضيق ويصف جو الضيق والملل في البحث عن طبيب تمهيداً للقائه بدورية انجليزية اعتقلته فرأى أن يطلق عليهم ملايين الميكروبات التي تعشعش في أنفه فأخذ يعطس في وجوههم فاضطروا إلى إخلائه وقد التهبت عيونهم واحمرت أنوفهم”. وقال في موضع آخر عن قصص “الأصلع” و”الزائر” و”سلام كثير”: هو يشبه المازني في كثير من أعماله فقصصه “الأصلع الزائر سلام كثير” تنساب فيها خفة الروح كتلك التي نجدها عند المازني إلا أن المازني يرتفع بها إلى سخرية مريرة من نفسه ومن واقعه بل ومن الكون والحياة حتى أنه في “إبراهيم الكاتب” يكاد يقترب من قصة وجودية. إن ظروف الرجلين تتشابه وكذلك تركيبهما النفسي ومن هنا تشابها في كثير من المواقف فالحلم وسيلة فنية مفضلة نراها عند المازني في “عود على بدء” حين عاش في جو من الغرائب برره في النهاية بأنه كان يحلم ونراها عند باوزير في “ليلة من عمري” حين عربد كيف شاء في عالم الاحلام”. وكتب في مكان آخر قائلاً: ولكن لايعني هذا أن باوزير تقليد للمازني فلديه من روح الابتكار والطرافة مايحول دون ذلك، إن كثرة الكتابة عند المازني والانشغال بالصحافة وروح الطفولة أصاب قصته بالذهول وأسلوبها بالضحالة وكثرة الألفاظ الدارجة أما باوزير فإن أسلوبه لم يهبط وأحياناً له مواقف شاعرية وأجواء رومانسية تخفف من ضراوة الواقع”. وفي نهاية ما كتبه الدكتور عبدالحميد عن أقاصيص مجموعة “ثورة البركان” نختتم الحديث بما أورده عن قصة “الكافر” حيث يقول: “وكذلك صديقه في قصة “الكافر” يحب حباً مخلصاً أودى به إلى المستشفى وحينما رأى أن هذا الإخلاص لايقدر، كفر بالحب وعزم على أن يحب بالطريقة الحديثة المبنية على المصلحة والمادة ولكن روح الفنان عند المؤلف تدرك خطورة هذا الكفر فقد نظر من النافذة، كانت الشمس قد اختفت تماماً. وكان الظلام قد أخذ يزحف على الكون زحفاً حثيثاً، وبتلك النهاية الموحية إشارة إلى قيمة الحب الذي بدونه يصبح الكون ظلاماً وشراً،إنه صادق في تعبيره ورومانسيته ومن هنا تنبه إلى أوصاف وصور بكر وإلى استخدام للطبيعة يعبر عن عاطفته لا تقليد ولا صور مستهلكة ولا كلشيهات مستخدمة كأن كل شيء قد خرج من المنسك تواً “مجموعة ثورة البركان،الطبعة الثانية،ص 66 71. وفي عام 1982م ومع تأسيس دار الهمداني للنشر الذي كان يديرها الأستاذ أحمد سالم الحنكي سلمت له آخر نسخة معي من المجموعة في طبعتها الأولى التي نفدت من السوق ليقوم بطباعتها طبعة ثانية وكان بجانبه حينها عندما سلمته النسخة الشاعر الكبير “ سعدي يوسف” الذي كان يعمل بالدار ويشرف على مجلة المسار التي كانت تصدر عن تلك الدار، وبمجرد ما سلمت الحنكي النسخة سلمها بدوره ومن فوره إلى الشاعر سعدي يوسف ليبدي رأيه فيها وبعد ذلك بحوالي شهر واحد استدعيت من قبل الدار وإذا بهم يخبرونني بأن المجموعة جاهزة ولم يبق إلا الغلاف الذي طلب من الشاعر “ زكي عمر” أن يقوم بتصميمه ثم طلبوا مني صورة للغلاف الأخير للكتاب وكنت حتى ذلك التاريخ غير معروف في الوسط الثقافي الرسمي لكن ظهور ذلك الكتاب سلط الأنظار علي وبدأت أنا نفسي أتعرف على بعض الرموز الأدبية والثقافية بعد أن انفك عني طوق العمل المجهد السابق وبدأت أجد لي بعض الفراغ الذي أخذت أتحرك فيه بحرية وأستغله في حضور بعض الفعاليات الثقافية التي تقام خارج حدود اتحاد الأدباء وذلك في بعض المنتديات الثقافية كمنتدى الأستاذ الصديق حسين باصديق الذي تعرفت عليه في ذلك العام 1982م وعن طريقه تعرفت على الأستاذ الصديق عبدالمجيد القاضي ثم الأستاذ القاص والصديق أحمد محفوظ عمر هؤلاء إلى جانب معرفتي سابقاً بالأستاذ عمر الجاوي والقرشي عبدالرحيم سلام والشاعر الكبير محمد سعيد جرادة وبعدما يقرب من عشرين عاماً من صدور مجموعة “ثورة البركان” في طبعتها الأولى 1968م أقيمت لها ندوة ثقافية بمبنى الاتحاد للاحتفاء بالمجموعة ولتسليط الضوء عليها ونقدها وقد شارك في تلك الندوة كل من الأساتذة الدكتور سالم عمر بكير وأحمد محفوظ عمر ومبارك حسن خليفة وحسين سالم باصديق وعبدالمجيد القاضي وحسين السيد وعبدالفتاح الحكيمي،وقد قام الشاعر الأستاذ شوقي شفيق بنشر تغطية لها نشرها في صحيفة 14 أكتوبر العدد “ 7089” بتاريخ 16 مايو 1987م حيث كتب مايلي : “تعددت الآراء وتمايزت وجهات النظر في الندوة التي نظمها فرع عدن لاتحاد الأدباء والكُتاب اليمنيين لمناقشة مجموعة القاص الرائد عبدالله سالم باوزير “ثورة البركان” وبعد افتتاح الندوة من قبل الأستاذ أحمد محفوظة عمر بدأ الأستاذ الناقد والشاعر مبارك حسن خليفة ملاحظاته وآراءه حول المجموعة. وسوف أقتطع بعض الآراء التي دارت للمشاركين في تلك الندوة وما أبدوه من ملاحظات عن تلك المجموعة. “يحدد الأستاذ مبارك الخليفة بعضاً من الملامح التي تنبني عليها المجموعة وهي روح الفكاهة بعد ملمح الحلم ويمكن معاينتها في قصص “سلام كثير، والزائر ،والأصلع” وتأتي المفارقات لتشكل ملمحاً ثالثاً. إنها جاءت بسيطة وعادية ومألوفة حيث لم يشأ القاص أن يزج بشخوصه في بطولات خارقة أو مزيفة ولم يفتعل الأحداث والوقائع ولذا فإنها عبرت بحق عن تلك المرحلة وكانت شاهداً على عصرها أما اللغة فقد تفاوتت بين المباشرة والشاعرية بيد أنها عموماً لغة سليمة أوصلت ما أراد الكاتب التعبير عنه.. الدكتور سالم بكير ثاني المتحدثين اختلف بعض الشيء مع الأستاذ مبارك في موضوع الحلم خاصة فيما يتعلق بقصة “لم يكن مجنوناً” إذ يرى الدكتور بكير أن البطولة في القصة حقيقية وليست حلماً مشيراً في ذلك إلى تلك الدلائل التي أوردها القاص حول شخصية “عنتر” والمآسي التي تعرض لها. ثم تحدث الأستاذ باصديق فأكد على المضامين الإنسانية التي زخرت بها المجموعة ولاحظ بساطتها ودقتها وسلاسة الأسلوب القصصي وجودة الحوار. أما الأستاذ عبدالمجيد القاضي فقد قرر القيمة التاريخية للوقائع والأحداث في المجموعة هذه التاريخية التي ستفيد الجيل الجديد في الاطلاع على حياة الشعب في مرحلة مهمة من مراحل نضاله. الأستاذ حسين السيد ارتأى ضرورة أن يكشف النقد مكامن السلب والإيجاب في العمل المنقود وعدم الاكتفاء بالكشف عن جماليات هذا العمل، لكن الدكتور بكير ارتأى غير ذلك حيث أكد على أن وظيفة النقد هي كشف الجوانب الجمالية المضيئة وليس تهشيم وتفكيك قيمه الجمالية والفنية أما العمل الميت فإننا لا ينبغي أن نتناوله بمعنى أن الكتابة الخالية من الإبداع لا تستحق النقد. وفي كلمته الأخيرة خلص الدكتور سالم بكير إلى القول إن مجموعة ثورة البركان استطاعت أن تمتلك الريادة في مجموعة الحركة الأدبية اليمنية الحديثة.