ظله ساقط بين قدميه، وحيثما يستطيع النظر أن يصل لم يكن هناك ظل، والشمس تسكب كل صفرتها على تلال الغفير ومقابره، والفراغ الرطب فى قلبه يجعل أعوامه الأربعين شيئا لا معنى له كمحطة الأتوبيس الوحيدة الحية وسط هذا الجلال الميت. وفاجأته هبة من التراب فنفذت لأنفه قبل أن يشيح بوجهه.. ما هذا؟.. أيمكن أن ينطوي مثل هذا المكان على رائحة عطر.. ملأته الدهشة، وأحس بما يشبه الإلهام أن لهذا التراب طعم عيون إنسانية كانت تومض بالفرح وتمتلئ بالدموع وتعرف الحب، ثم ماتت صاحبة العيون التي تومض. لا. ليس هذا التراب لرجل، تلك هبة رقيقة لم يعد باقيا من صاحبتها غير قطرة العطر، التي اشترك ذهنه فى خلقها ولم ينفذ إلى حلقه منها غير ذرات التراب، وحاول أن يتصور كيف كانت الفتاة تنظر، طريقتها فى الابتسام.. لون عينيها.. عالمها الصغير.. هل كانت طيبة، وخيل إليه أنه أصبح يعرفها، ليست غريبة تماما عنه، لم تعد غريبة عنه من اللحظات التي أقبلت فيها هبة التراب وهي تحمل عطرها الغريب، وخيَّل إليه أنها تصافحه وتسلم عليه وتسأله عن أحواله، وقال لها وطعم التراب فى فمه إنه ولله الحمد بخير، ولم يقل لها ما به لأن الشكوى لغير الله مذلة. وأقبلت قافلة أخرى من التراب، فأشاح عنها وحاول أن ينظم تنفسه، وأدهشه اكتشافه أنه يتنفس، وراقب أنفاسه وحاول أن يعدها، لم يكمل العشرة وشرد ذهنه، ونسي أنه يتنفس، وضاع منه فى ذات اللحظة أحد أسرار الخليقة، وعاد الخمول يغرقه، وتأمل الأتوبيس، كان الأتوبيس بلونه الأحمر وضوضائه والتراب يثيره يبعث على الغرابة، وأحس بحزن غامر كثيف يغمره. كم انتظر عبثا أن يلتهب شيء ويشع فى داخله، ثم تقادم العهد على انتظاره فنسي ما كان ينتظره، بات ينسى كثيرا هذه الأيام، أطراف القميص بليت ونسي أن يلاحظ ذلك منذ شهر. وصل الأتوبيس فصعد. كان الأتوبيس شبه فارغ، فالساعة الثانية عشرة وناس قلائل يجلسون، وتصفح وجوه الجالسين فى الأتوبيس، وغمره شعور بأنه متشرد مثل كلب أضاع فى الليل سيده، ونسى شعوره وجلس فى مقعده، ثنى يده وأخرجها من شباك الأتوبيس، تأمل وجه الفتاة التي تجلس أمامه، كان وجهها جامدا لا يوحي بشيء، ونظر فى وجهها وفكر فى مئات الأشياء دفعة واحدة. فكر أنه قبل أن يرخي عينيه عن وجهها ستقع ملايين الأشياء فى الدنيا، سيصرخ آلاف الأطفال وهم يولدون، وستعطي فتاة نفسها لرجل يبتسم فى وجهها ويكذب، وسينتهي شاعر هناك من آخر بيت محزن فى قصيدته، وسيقذف رجل فى حانة بكأس من النسيان فى جوفه، وسيصرخ قرد فى الغابة ونمر يلطمه تهيئة لالتهامه، وفى البحر تتسابق الدرافيل جوار المراكب لكي تلتهم ما يلقي من الطعام لكن أحدا لا يلقي شيئا، ويسأل الدرفيل الصغير والده أين الطعام الذي وعده به؟ فينهره الأب ويفهمه أنهما خرجا يتعلمان السباحة، وفى الأرض تسقط أوراق كثيرة من الشجر وتتحرك من بطن الأرض ملايين النباتات بحنين إلهي لا يقاوم نحو الشمس.. وسيجلس هو ساكنا لا يفعل شيئا سوى ازدراد ريقه وقراءة اللافتات والاستلقاء بنظراته فوق المقاعد الخالية، ثم وقع الحادث فجأة. شىء لا يمكن أن يحدث له أبدا. انتفضت الفتاة الجالسة أمامه ومدت يدها وأمسكت يده، كانت أصابعها باردة ومثلجة رغم قطرات العرق التي انعقدت عند منابت شعرها، وشدت الفتاة يده إلى الداخل بسرعة وعنف، ومرق فى نفس اللحظة أتوبيس ثان جوار الأتوبيس الذي يجلس فيه، واندفع جواره كالسهم، وكانت المسافة بين السيارتين تقل كثيرا عن المسافة التي كانت يده الممدودة تحتلها. مش تحاسب. أنا... إنها تتحدث إليه، وهو يرد عليها، وها هي تفتح فمها مرة ثانية لتقول شيئا لا تلبث أن تعدل عنه فتسكت. ونظر فى عينيها، كان وجهها غاضبا وجادا ورقيقا فى نفس الوقت، وخيَّل إليه أنه لمح مع ظلال الغضب ظلا رفيعا من الحب، لعله يبالغ قليلا. ليس الحب.. لعله الود.. ليس الود تماما، إنما هو الإشفاق. لا. لم يكن إشفاقا مشوبا بالسخرية، لم يكن هذا اللطف المهين الذى اعتادت الفتيات أن يرمقنه به، كان هذا عطفا يمتزج بالود، إنه مضطرب قليلا والأولى به أن يكف عن تحليل نظرة عينيها ويرجئ ذلك لوقت ينفرد فيه بنفسه وعاد ينظر فى وجهها، ويحس بالضعف، وأشاحت الفتاة بوجهها عنه، وعاد للوجه جموده، وخيِّل إليه وهى تستدير عنه أن وجهها خرج عن جموده وأضاء كالشمس وابتسم، لكنه يعرف أنه هو الذي ابتسم وليست هي، لم تبتسم هى، وظل على وجهها طابع الجد العذب الذي يتميز به وجه قاض لا يمكن شراء ضميره. ونزلت الفتاة بعد محطتين، فكر أن يلقى بنفسه خلفها ويسألها ألا تتركه، لكنه ظل جامدا فى مكانه واكتفى بتأمل ظهرها، ووقف الأتوبيس أخيرا عند بيته، ونزل بتكاسل، لم يكن يملأ وجوده غير هذه اللمحة السريعة من الود الذي سطع فى عين الفتاة وهي تسحب يده. وفكر وهو يعطى الأتوبيس ظهره أن هذا قد يكون كل حظه من الحب، وأنة ليس حظا رديئا على أي حال.