الموسيقى من أرقى أنواع الفنون التي عرفها الإنسان، فهي لغة الروح والمشاعر والأحاسيس. وهي ذلك الشيء اللامحسوس الذي يعايش الإنسان في ساعات الحزن والفرح والتكدر والهياج والثورة. والموسيقى قديمة قدم التاريخ، حيث ضربات القلب موسيقى، وتغريد الطيور موسيقى.. أي أنها رافقت الإنسان من بدء التكوين، وكانت في مرحلة من المراحل وسيلة من وسائل التخاطب عند بعض القبائل القديمة وذلك من خلال نقرات معينة على الأخشاب أو الطبول أو النفخ بأبواق مصنوعة يدوياً.. ثمّ تطوّرت بعد ذلك رويداً رويداً مع تطوّر المسيرة الإنسانية، وزاد نضجها وبانت معالمها ووضحت أساليبها وتنوعت آلاتها، حتى أصبح لكل إقليم موسيقى خاصة به تميزه عن أي إقليم آخر في العالم، وهذا التميّز أتى من ارتباط الموسيقى بالإنسان بأرضه والمتأثر بها وبمناخها والمتفاعل مع مجتمعه.. وهكذا أصبح هناك موسيقى يونانية وبيزنطية وشرقية وشرق أوسطية وغربية. وقد قطعت الموسيقى الغربية شوطاً كبيراً في مسيرة تطوّرها وظهر فيها تيارات عديدة ومدارس كثيرة، ونبغ فيها عدد كبير من الموسيقيين أمثال بيتهوفن، باخ، تشايكوفسكي، هايدن، موزارت وآخرين كثر. وقد أضاف الموسيقيون الغربيون الكثير من النظريات الموسيقية والقوالب الموسيقية والغنائية، ووضعت قواعد وأسس ومناهج لأصول تعليم الموسيقى والعزف والغناء والرقص وكل ما يمت للموسيقى بصلة، الأمر الذي أغنى الموسيقي الغربية وزاد انتشارها حتى في الشرق وعلى حساب الموسيقى الشرقية. أمّا الموسيقى الشرقية والتي هي أغنى بالكثير الكثير من مثيلتها الغربية فنرى أنها مازالت ترزح تحت وطأة التقليد والإعادة وتكرار الذات والنهب الصريح من الموسيقات الأخرى رغم غناها وتنوعها، فكما هو معروف للموسيقى الشرقية والعربية بالذات طابع خاص بها وأسلوبية فريدة في التعامل معها مع تنوع كبير في النغمات “المقامات” والقوالب الموسيقية والغنائية وموروث موسيقي هائل هو ثمرة جهود عمالقة الفن العربي الأوائل، ولكن مع هذا بقيت متقهقرة، وهذه ظاهرة نراها في معظم الأقطار العربية وهناك أسباب عديدة لها منها قلة المعاهد الموسيقية التي تدرس الموسيقى والغناء والفنون على نحو علمي أكاديمي والموجودة في بعض الأقطار العربية، بالإضافة إلى ندرة المناهج التي تخص الموسيقى الشرقية والآلات الموسيقية الشرقية، حيث يقوم معظم الطلاب باستعمال مناهج غير اختصاصية، أو حتى مناهج غريبة، كما أن عدم وجود صيغة مشتركة وموحدة للمادة الموسيقية العربية. “أن نرى مقاماً واحداً له في كل قطر عربي اسم مغاير أو نرى مقاماً يعزف في كل قطر بشكل مختلف عن الآخر”، أدى إلى تشتت فكر الموسيقى العربية وضياعه وسهولة تحوله إلى الموسيقى الغربية وآلاتها، كذلك أدى ضعف الثقافة الموسيقية والثقافة العامة لدى الموسيقي العربي إلى ابتعاده عن الابتكار والتطوير الإيجابي الذي يخدم موسيقاه ويساعد على انتشارها، وتقصيره في استصدار الكتب التي تخص الآلات الشرقية وتبين تفاصيلها ودقائقها وإمكان تطويرها بطرائق علمية مدروسة، إضافة إلى أن عدم توافر الدعم المادي والمعنوي للباحثين الموسيقيين أدى إلى التقليل من إنتاجهم وكذلك اندثار الكثير من الأعمال الموسيقية القديمة لعدم توثيقها وتدوينها موسيقياً وحفظها في مكتبات خاصة لسهولة الرجوع إليها، حيث بقيت محفوظة في الذاكرة الشعبية حتى اندثرت، ومنها الكثير من الأدوار والموشحات والمقطوعات الموسيقية. كذلك فإنّ الاستغناء عن الكثير من الآلات الموسيقية سار بهذه الآلات إلى الانقراض، حيث يجري الاستعاضة عنها بآلات حديثة إلكترونية، وأيضاً تباعد المؤتمرات الموسيقية العربية التي تضع الأسس لهذه الموسيقى وتقدم المقترحات اللازمة لتطويرها كان عنصراً مهماً في تأخرها. لذلك فقد توجهت الموسيقى في السنوات القليلة الماضية نحو الاستهلاكية لما تدره من ربح سريع، وذلك بمساعدة الأقنية التلفزيونية الأرضية والفضائية وما تقدمه من تسهيلات وسرعة في الوصول إلى الجمهور، مما أدى إلى انتشار موضة الألبومات والألحان الإيقاعية السريعة والراقصة وابتعاد الموسيقيين عن التأليف الموسيقي الصرف (من دون غناء) الذي يكاد ينقرض في الوطن العربي لولا محاولات نادرة لبعض الأساتذة. كل هذه الأسباب ساعدت برأيي في فقر الموسيقى العربية والحد من تطوّرها وبالتالي ابتعاد الناس عنها، مما جعلها تتخبط مع التحديث تارة ومع التقليد تارة أخرى. طبعاً لن ينسى فضل الكثير من العمالقة الكبار الذين جعلوا الموسيقى هدفهم فأبدعوا وألفوا وقدموا الكثير الكثير، مثل أبي خليل القباني، سيد درويش، كميل شامبير، محمد القصبجي، السنباطي، محمد عبدالوهاب، والرحابنة وغيرهم الكثير ممن أغنوا الموسيقى العربية. وأخيراً يبقى الأمل في تدارك هذه الأسباب من قبل الجهات المختصة للنهوض بالأغنية العربية لتبقى كما كانت مرآة الشعب العربي وخلاصة روحه.