شاء حظه أن يخرج من حنبة إلى حنبة.. كانت الحنبة الأولى في محناب مجموع الثانوية العامة الذي لم يسمح له بالالتحاق بالتعليم المجاني, فيخرج منها إلى محناب التعليم الموازي, الذي أثقل كاهل والده الحانب في مصاريف البيت, فيعاتبه ليل نهار على حصوله على ذلك المجموع, فهو الحانب في العتاب, الحانب في التعليم الموازي.. يخرج من محناب الموازي, ومن عتاب والده إلى محناب البطالة.. رفع والده يده إلى السماء ثم قال: - خلاص ياولدي علمتك, وصرفت عليك حتى تخرجت من الجامعة, والآن شق طريقك.. يريده أن يشق طريقه, وهو عالق في محناب البطالة, محناب بوسع المدينة كلها.. يبحث هنا, وهناك في الدولة, والقطاع الخاص, ويعود إلى بيته عند الغداء وينصرف للبحث بعد الغداء.. شقه لطريقه لايعني حرمانه من مد يده إلى المائدة.. يذكر, كان يناجي حبيبته(بعد أن فشل في إرضائها بكل الوسائل لينال منها).. قائلاً: ياحبيب ياحبيب حنبت لك بالمحانيب بين سكر وطيب وكل شيء بالمكاتيب قول عفوي قديم أسقطه على نفسه في الثانوية, ويذكره وهو في محناب البطالة.. لم يذكره وهو في محناب الموازي, فقد كان في محناب العتاب, فلم يتسع وقته لتذكرحبيبته, وفي محناب البطالة, الوقت يتسع للتفكر, والتذكر. ذكر فقال(لنفسه): أردت أن أوقعها في المحناب, فوقعت لاحقاً, لاأخرج من حنبه إلا إلى حنبه, وقال لنفسه: - أنا من برج المحناب. - ردعه الأمل, فشعر بأنه ظلم نفسه, فلم العجلة, ليس وحده في محناب البطالة.. وكاد أن يطير من الفرح, أبلغ والده بأنه حصل على وظيفة حكومية.. نظر إليه مشفقاً, لايريد أن يجرح فرحته, ثم أطرق مفكراً, يبحث عن الرد المناسب, فهو من قال شق طريقك, رفع رأسه.. وقال: - مبروك ياولدي, والمهم أن الغاية تبرر الوسيلة.. حرضه والده, لكنه يكتشف بعد عدة أشهر بأنه وقع في محناب الوظيفة, مرتبها لايغني ولايسمن من جوع.. عاد للتشاؤم, قال لنفسه: أنا من برج المحناب: أخرج من حنبه إلى حنبه قال والده بعد مضي ستة أشهر: ها.. كم قد وفرت؟.. سأله مدركاً بأن مرتبه لايكفي إلا للمواصلات ومصاريف الجيب.. لم يجب تناثرت بقع حمراء على وجهه .. تغلبت شفقة الأب فلم يكرر السؤال , لكنها أوقعته في محناب العروسة.. واصل (مشفقاً): ولايهمك.. عسى الله كم لك موظف الإحباط والأمل وهو في سباق مع الأيام.. يسبق الإحباط حيناً ,ويسبق الأمل حيناً آخر , فلم يستطع الإحباط أن يجهز عليه ,حتى وهو في محناب الوظيفة التي مر عليها ثلاث سنوات.. قرأ التاريخ في الجريدة متمماً للسنة الثالثة.. أطلق تنهيدة طويلة ثم قال بصوت مرتفع: أنا من برج المحناب.. أخرج من جنبه إلى حنبه.. كان يقول لنفسه ويقول الآن ولمن حوله فقد طالت حنبة المرتب , والمحناب المؤجل يلح اللحظة فيستعيد ذكرياته معها.. أراد أن يوقعها بالمحناب بكلامه المعسول , ووعوده التي اتسعت لكل الكلمات التي يتضح من بين حروفها كل جميل ففشل , وغايته معروفة.. فشلت الوسيلة , فلم يصل إلى غايته وفشل ثانية , فلم يصل إلى غايته .. في الأول صنع الوسيلة وفي الثانية هناك من صنع له الوسيلة.. الوظيفة محناب لكنها تختلف , فلكل وظيفة محناب.. محناب يسمن ويغني قرناً من الزمن , ومحناب يسمن ويغني نصف قرن ,ومحناب يسمن ويغنياً عقداً من الزمن ومحناب لايسمن ولايغني شهر من الزمن .. أفكار تقوده إلى سؤال: من الذي يصنع هكذا محانيب , وهم يتسابقون إليها , وأنا قد حاولت وفشلت؟.. يعيده السؤال إلى حقيقته.. صنع وفشل لأنها كانت حرة وسيدة نفسها وصنع الثانية , ونجح لأنه ليس مثلها .. صمت كأنه صوتها , كما هو قبل سنوات لم يكبر صوتها.. قال صوتها: فشلت لأنك لم تعرفني .. فليتك لم تفعل (كبر صوتها قليلاً وهي تواصل قائلة: لأنك لو لم تفعل ,لكنت لك ولو كنت لك لما كنت هكذا.. تخرج من حنبه إلى حنبه (يكبر صوتها , وهي تواصل): صنعوا لكم هكذا محانيب , لأنهم يعرفون من أنتم.. مساكين أجبرتكم.. فهل تعرف لماذا أجبرتكم؟ كان دهشاً , وعينه قد زاغت عما حوله , لايرى إلا غيماً.. يعيده السؤال إلى من حوله فيطرق هرباً من الإجابة .. تواصل: أنت لاتعرف كما كنت.. مسكين فمتى ستعرف؟.. جلس على ركبته ,وقع في محناب السؤال.. تواصل (وقد اقترب صوتها من صوت هو صوتها الآن): كم اشفق عليك ,وأنت هكذا ,وهم يصنعون لكم هكذا محانيب .. حسناً سأرد على اسئلتي: ستعرفون عندما تعرفون.. (تضحك).. لقد أطلت وسؤال واحد لن أطرحه فقد طرحته ولكني سأجيب عليه.. كم أنا مشفقة عليك.. صمتت للحظات ثم قالت: أجبرتكم لأنكم لستم مثلي , وستعرفون عندما تكونون مثلي , فمتى ستكونون مثلي؟.. سقط رأسه على الأرض ,وكأن المحناب قد أطبق عليه.. تواصل (ضاحكة): برجك المحناب.. تخرج من حنبه إلى حنبه ولن تخرج من حنبتك الأخيرة إلا إذا... (*) يقول الأستاذ مطهر علي الإرياني في المعجم اليمني حنب نشب وعلق وتورط هذه هي المادة الأساسية التي نستعملها للتعبير عن هذه المعاني المتقاربة ففي اللازم منها نقول حنب يحنب حنبة فهو جانب والمحانيب: الشراك والفخاخ) ومفرده محناب. والمكاتيب: القسمة والنصيب.