في ظل التغيرات السريعة والكبيرة لم يعد التخطيط الاستراتيجي كافياً للتنبؤ بالمستقبل، فالأمور لم تعد تحدث في علاقة خطية كما كانت في السابق, فالتطور السريع لتقنية المعلومات على سبيل المثال أدى إلى تداخل المصالح بين الدول والتأثير المتبادل فيما بينها ولم يعد أي مجتمع بمنأى عما يحدث في المجتمعات الأخرى. هذا الوضع العالمي المعقد يجعل من الصعب الاعتماد على الخطط الاستراتيجية والاعتقاد أنها كافية لمواجهة هذه المتغيرات، فليس باستطاعة أي تنظيم في أي مجتمع أن يتحكم ويسيطر بنسبة كبيرة على مجريات الأمور وأن يحقق أهدافه التي رسمها.. فكلما كانت الأهداف بعيدة المدى، كان ذلك أدعى إلى أن تعترض الخطة إلى تغيرات كثيرة لم تكن في الحسبان. هل هذا يعني إلغاء التخطيط الاستراتيجي؟ لا بطبيعة الحال ولكن القصد هنا عدم الاعتماد الكلي على الخطط الاستراتيجية وافتراض أن ما وضع من أهداف وآليات سيتحقق لأن البيئة غير مستقرة وينتابها التغيير.. وإذا كانت الاستراتيجيات تصاغ على أساس فرضيات فإن هذه الفرضيات قد لا تصح في كل الأحوال، وبالتالي يتطلب الأمر التعديل في النهج المتبع والتحول إلى ما يتفق مع الأوضاع الجديدة, إلا أنه يفوت على كثير من المنظمات هذه الحقيقية وتركن إلى الاطمئنان للاستراتيجيات وتطبيقها دونما النظر في المستجدات والتغيرات التي تحدث وتستوجب أخذها بعين الاعتبار والتكيف معها. ذلك أن عملية التكيف والمواءمة تتطلب جهداً كبيراً وقدرة ورغبة في مراقبة البيئة وملاحظة المتغيرات بشكل مستمر، وهذا ما لا تستطيعه التنظيمات البيروقراطية الكبيرة التي تستهلكها الإجراءات المطولة ويتلبس مسئوليها شعور خادع بأن الأمور تسير وفق الخطة، وربما لم يكن باستطاعتهم إدراك التغيرات خاصة تلك التي تبدو صغيرة من بعيد، ولكنها تكبر مع مرور الزمن تماماً كالسفينة التي تبدو صغيرة في الأفق البعيد إلا أنها في واقع الأمر كبيرة ويتأكد ذلك كلما اقتربت إلى الساحل. ولذا تحتاج المنظمات خاصة الحكومية إلى فهم التغيرات ووضعها في حجمها الصحيح والتعامل معها في الوقت المناسب دون تأخير. لقد أصبح من الضروري تطبيق ما يسمى باليقظة الاستراتيجية، وهو أن تقوم المنظمة بشكل مستمر بمراقبة التغيرات والمبادرة بإجراء ما يلزم للإعداد وربما استباق الأحداث للتقليل من آثارها أو عند مستوى أعلى من التفكير والتطور التنظيمي استحداث أسلوب أو خدمة أو منتج جديد يغير نمط الاستهلاك وأسلوب الحياة. وإذا كان التخطيط الاستراتيجي يبدو منطقياً باعتماده على تحليل ما هو ممكن وغير ممكن ومن ثم تحديد الأهداف ووضع الخطوات لتنفيذها والنتائج المتوخاه لنقل المنظمة من حيث هي إلى الوضع المرغوب، إلا أن العيب في ذلك هو افتراض أن العالم مستقر ويمكن التنبؤ به إلى حد كبير.. ولذا تعني اليقظة الاستراتيجية افتراض أن بقاء الحال من المحال وأن التغيرات وإن بدت صغيرة إلا أنها مهمة ومؤثرة.. ولكن كيف للمنظمة إدراك هذه التغيرات؟ إن اليقظة الاستراتيجية تعني أن يكون هناك تفكير استراتيجي استباقي كجزء من العمل يمارس من قبل جميع الموظفين في جميع المستويات الإدارية, وهذا يعني في جوهره أن تكون المنظمة متعلمة لتبقى ناجحة، فالمنظمة المتعلمة التي تستهدف بناء الخبرة والوقوف على جميع المستجدات في بيئتها هي أفضل من تلك المنظمات التي لا تتعلم حتى وإن كانت لديها استراتيجية أفضل صياغة. فالمهم ليس ما تعرفه ولكن ما تستطيع أن تعلمه!! وهو ما يعني القدرة على فهم ما يدور حولك وإحداث التغيير المطلوب في التوقيت المناسب، ما يقود إلى التكيف مع المستجدات، فالمخلوقات الأقدر على الاستمرارية والبقاء ليست الأقوى أو الأذكى وإنما تلك القادرة على التكيف مع بيئتها. فالديناصورات القوية الكبيرة انقرضت وبقيت البعوضة الصغيرة الضعيفة لأنها كانت أقدر على التكيف بما وهبها الله من صفات عضوية تمكنها من الاستجابة للمتغيرات البيئية. ولذا فتعلم المنظمات يقتضي بالضرورة مراجعة الاستراتيجيات وعدم أخذها كمسلمات والوقوع في شرك الافتراض الخاطئ بأن الأشياء ثابتة لا تتغير. هذا هو جوهر مفهوم اليقظة الاستراتيجية في أن تقوم المنظمة بالتحرك من المراجعة والتعديل في الاستراتيجية إلى التنفيذ كعملية مستمرة بالنظر إلى المتغيرات البيئية. تقتضي بالضرورة تطبيق المشاركة واللامركزية في صنع القرار على أساس من الثقة والشفافية التي تقود في نهاية المطاف إلى استجلاب الأفكار الإبداعية والحلول المبتكرة من جميع منسوبي المنظمة وتقاسم المعلومات وإطلاق طاقاتهم الإبداعية. وتطبيق ذلك يتطلب نهجاً إدارياً مبنياً على التيسير والتهيئة وليس التحكم والرقابة. ولذا فالتنظيم البيروقراطي بإجراءاته المطولة والتوجيه والرقابة من أعلى إلى أسفل لم يعد مجدياً في الاستجابة للمتغيرات السريعة والمتنامية. فحتى في ظل تطبيق إدارة التغيير كآلية للتطوير التنظيمي فهي لا تعدو أداة لإجبار الموظفين على الانصياع لتوجيهات من هم في أعلى الهرم الإداري, وهي آلية غير فاعلة لأن التغيير الحقيقي ينبغي أن يكون من داخل الإنسان ذاته بحيث يكون الإنسان هو التغيير الذي يرغبه، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم». إن إحداث التغيير من داخل الذات يتطلب تطبيق نهج المشاركة في عملية صنع القرار، وهو توجه يتسق مع الدعوة نحو التحول من الاقتصاد المعرفي إلى الاقتصاد التشاركي الذي يمثل فرصة للتعرف على البيئة والعمل معها ومن خلالها وليس مواجهتها، إلا أنه في الوقت ذاته هو تحد كبير يتمثل في عجز التنظيمات الإدارية في هيكلها الحالي وأسلوبها الإداري في التعامل مع التغيرات البيئية السريعة. المنظمات اليقظة التي لا تنام ولا تركن للمألوف ولا تطمئن إلى منطقة الراحة وتسترخي وتردد مقولة «ليس بالإمكان أكثر مما كان»، وإنما تكون في بحث مستمر عن الأفضل واستباق الأحداث. وبالتالي يتعين على المنظمات وحتى المجتمعات مراجعة أسلوب صنع القرار والتحول إلى نهج المشاركة، فذلك أدعى إلى تحفيز التفكير الاستراتيجي الذي يجعلها أكثر استعداداً ليس لمواجهة المجهول وحسب، وإنما صناعة المستقبل!! ومن هنا يقترح إنشاء مركز وطني للتفكير الاستراتيجي وتقديم الرأي والمشورة وضمان أن تكون مهمته استطلاع الأحداث والمتغيرات، متيقظين لما يدور حولنا، وأن نرسم مستقبلنا اعتماداً على فهمنا لحاضرنا وليس فقط أمنياتنا. [email protected]