السينما الوثائقية شكل تعبيري جاء حضوره مبكرا مع بداية الفن السينمائي عبّر من خلاله الرواد الأوائل عن رصدهم لجوانب وصور من الحياة اليومية، فكان هذا النمط الفني في مقولاته الجمالية متصدياً للواقع المعاش بكل صوره المرئية. وباتت الأفلام الأولى التي تم إنتاجها على يد عدد محدود جدا من المغامرين أمثال فيرتوف وثائق تاريخية تضاف إلى بقية أشكال الوثائق الأخرى كالصحيفة والكتاب والمخطوطة عادة ما يعود إليها الدارسون من اجل قراءة جوانب معينة لفترة زمنية محددة. وباتت تتعاظم أهمية الأفلام الوثائقية يوما بعد آخر لدى عموم المتفرجين إضافة إلى أهميتها لدى الدارسين عن هذا الشكل السينمائي جاء الإصدار الجديد “سينما الواقع دراسة تحليلية في السينما الوثائقية “ للناقد السينمائي العراقي كاظم مرشد السّلوم، وقد صدر في نهاية العام 2012 عن دار ميزوبوتاميا بالاشتراك مع مكتبة عدنان للطباعة النشر والتوزيع ودار أفكار للدراسات والنشر. . تقديم الكتاب جاء بكلمة تحت عنوان (الفكرة لا الحبكة) كتبها د. عقيل مهدي عميد كلية الفنون الجميلة جامعة بغداد، يقول فيها: بخلاف الحبكة الروائية، والعالم الموازي التخيلي، الذي يمكث فيه الفلم الروائي إزاء الواقع تنتظم عناصر الفلم الوثائقي بصورة موثقة للواقع الموضوعي المعاش نفسه بمنهجية علمية تنشد الجمال بطريقتها الخاصة في التعبير الفني من خلال الفلم بوصفه خطابا عن أفكار المخرج المتفاعلة مع العصر وإعلاء اللحظة اليومية المعاشة إلى مستوى تأريخي مستقبلي ببراعة صنعته التقنية، فالمخرج يوظف ثقافته الخاصة بإطارها الاجتماعي والحضاري والمادي بعد أن امتلك الحرفة السينمائية ولغتها المميزة ومادتها الواقعية في فلمه الوثائقي. فهرس الكتاب تضمن أربعة فصول سبقها مقدمة قصيرة بأربع صفحات بقلم المؤلف قدم فيها فكرة موجزة عن طبيعة هذا الجنس السينمائي مع ما جاء من تعريفات مختلفة على لسان أبرز من قدم هذا النوع من الأفلام مثل جريرسون رائد السينما الوثائقية الذي يقول عن الفلم الوثائقي بأنه: “معالجة الأحداث الواقعية الجارية بأسلوب فيه خلق فني. كما لا يفوت المؤلف أن يذكر تعريفات أخرى وردت على لسان نقاد آخرين مثل هيلا كولمان ومنى الحديدي، ليصل بالنتيجة إلى تثبيت فهمه الخاص للفيلم الوثائقي يؤطره في تعريف محدد :” شكل متميز من النتاج السينمائي يعتمد بشكل أساسي على العلاقة بين صانع الفيلم والواقع الحقيقي، من خلال رؤيته وتحليله للواقع باعتماده شكلا فنيا في تناوله لهذا الواقع “. ويتوقف السَّلوم أمام التعريف اللغوي لكلمة الواقع المشتقة من الفعل (وقع ) الشيء، ومنه يقع وقعاً ووقوعاً.. الخ ليصل هو إلى التعريف الأقرب كما يتصور في إطار موضوع الكتاب هو:”المادة الأساس المتوافرة في المعطى الحياتي والذي يتم توظيفه بكيفيات وآليات متنوعة داخل بنية الفيلم الوثائقي ليصبح الواقع بمظاهره الفيزياوية انعكاسا فنياً وتمثلا لصوره الفيزيائية. فلسفة الحقيقة والواقع في الأفلام الوثائقية الفصل الأول يبدأ من صفحة ( 15 43 ) وقد جاء تحت عنوان “فلسفة الحقيقة والواقع في الأفلام الوثائقية”. هذا الفصل يتناول مفهومي الحقيقة والواقع في اطار الفلسفة على اعتبار أن صانع الفلم هنا عندما يتناول الواقع يقصد إظهار أو الوصول إلى الحقيقة وفقاً لقناعة فلسفية ينطلق من خلالها في رؤيته لهذا الواقع الذي هو “مرجع الحقيقة، فكل ما هو واقعي هو حقيقي “ . ويشير السلوم في هذا الاطار إلى أن “السينما الوثائقية من حيث المبدأ هي وثيقة عن الحياة والواقع تتجسد مادتها عن طريق العكس أو التصوير المباشر لهما. كان من المنطقي أن يمر مسار السينما الوثائقية بتحولات مهمة في المفاهيم في ما يتعلق بعلاقتها وتعاملها مع الواقع فيذكر المؤلف في هذا الفصل اتجاهان حكما هذا التطور في المفهوم:” الاتجاه الأول يرى أن “السينما التسجيلية مرآة تعكس الواقع من دون تدخل المخرج أو الممثل وعبّر عن هذا الاتجاه منظرون كبار مثل الألماني (زيغفريد كراكاور والفرنسي انريه بازان) والاتجاه الثاني ينظر إلى الواقع لا بوصفه هدفاً بل كطريق للوصول إلى الهدف وهو التعبير الفني عن الواقع من قبل الفنان ولكن من خلال مادة الواقع نفسه التي تُستخدم كوسيلة وليس كغاية بحد ذاتها وابرز منظري هذا الاتجاه هو المخرج دزيغا فيرتوف “. وهنا يذكر المؤلف مثالا مهما عندما قامت احدى الشركات السينمائية بتكليف 11 مخرجا من 11 بلدا لعمل فيلم من 11 دقيقة عن حادثة الحادي عشر من سبتمبر كل بمفرده وبحسب رؤيته للحدث تاركة لهم حرية الاختيار وبحسب تجربة وحس وخلفية المخرج الثقافية والتاريخية والفنية. الفصل الثاني من الكتاب جاء بعنوان “الأنواع الفلمية للسينما الوثائقية وأشكال تناولها للواقع “.وفي هذا الموضوع يورد الكتاب تصنيفياً نوعيا متنوعاً ومتعددا ومختلفا لعدد من المخرجين الكبار في عالم الفلم الوثائقي، ولكن على الرغم من هذا التنوع في التصنيف لكن هنالك مشتركات واضحة كما حددها رائد السينما الوثائقية جون جيريرسون وهي:”المستوى الأول وهو مستوى ادنى ويشمل الجرائد والمجلات السينمائية والأفلام التعليمية والعلمية وهي تفتقر إلى البناء الدرامي وتعتمد على الوصف والعرض حيث تعتمد على الاستطراد. والمستوى الثاني وهو مستوى أعلى يُطلق عليه الأفلام الوثائقية وتقدم خلقا فنيا يمكن أن يبلغ مراحل الفن العليا وإبراز المغزى الذي ينطوي عليه خلق هذه الأشياء “. ويستعرض الكتاب في هذا الفصل الأسس التي يقوم عليها الفيلم الوثائقي في تناوله للواقع وهي : المقابلات الشخصية، الأرشيف، استخدام الممثلين، الصور الفوتوغرافية ، الرسائل والمذكرات، استخدام براجيات الحاسوب. .كما يتطرق أيضاً في هذا الفصل إلى عناصر تناول الواقع في الفيلم الوثائقي والتي هي: 1 السرد الفلمي ( موضوعي وذاتي) وتكون آلة التصوير هي الأداة الرئيسية في السرد. ويقول المؤلف هنا: “السرد في الفلم الوثائقي يعتمد على النقل المباشر ومتابعة الفعل في فضاء المكان وهذا ما يجعله حريصا على اعتماد الحاضر في نقل الأحداث من دون الغور في ارتدادات ذاتية قد تمثل وجهة نظر صانع العمل أكثر من الشخصيات المشاركة في الفيلم. 2 التصوير. 3 المونتاج. 4 المكان. 5 الزمان. 6 الصوت (المؤثرات الصوتية +الحوار واللقاءات +الموسيقى +الصمت ). 7 الشخصيات. كما يستعرض هذا الفصل صورة أو شكل البطل في الفلم الوثائقي وهو بالضرورة “ ليس شرطاً أن يكون شخصية بل من الممكن أن يكون المكان والدافع بكامل شخوصه “. وهنا يشير المؤلف إلى النقاط الثلاثة التي حددها كارباج لاختيار البطل في الفيلم الوثائقي وهي: 1 وضوح الحالة إذ يتوجب على صانع الفلم أن يتمكن من توضيح القضية وأفهامها للبطل ليعرف من أين يبدأ 2 العلاقة الحميمة، فكلما كانت العلاقة اكثر حميمية مع البطل نتج عن ذلك بوح بخفايا الموضوع ،3- الصّبر ،ويعني أن يمتلك صانع العمل الصبر في الاستماع والتوغل في عينة البحث. ويتطرق هذا الفصل أيضا إلى اتجاهات الفيلم الوثائقي وهي: الاتجاه الواقعي ، الرومانسي، السمفوني، أتجاه السينما عين..ويصل المؤلف في هذا الفصل إلى التطرق لموضوعة الأشكال الأساسية التي يتم من خلالها تناول الواقع فنيا في بناء الفلم الوثائقي وهي: الشكل الأول: إعادة بناء الوثيقة (إعادة بناء الحدث). الشكل الثاني: الملاحظة الطويلة في متابعة جميع ما يحدث أمام الكاميرا من دون انقطاع . لمدة طويلة من الزمن. الشكل الثالث: المعايشة والتخطيط قبل الشروع في عملية التصوير. الشكل الرابع: السينما عين ،وقد ارتبط هذا الشكل الأخير بتجربة (دزيغا فيرتوف). يأتي الفصل الرابع تحت عنوان (السمات الجمالية للأفلام الوثائقية ) ليشير إلى حقيقة أساسية تؤكد” امتلاك السينما للتأثير الجمالي منذ لحظة ولادتها وقد ضمن لها هذا التوجه الجمالي القدرة على التأثير لأن النتاج الفني الخالي من التأثير الجمالي يبقى في حدود المنفعة المباشرة. وبعد أن يستعرض الكتاب مفهوم الجمال فلسفيا ونفسيا يتطرق إلى طبيعة ماجاء به المؤسسون الأوائل للفلم الوثائقي من مفاهيم جمالية حيث عدّ البعض منهم أن التعامل مع بعض عناصر اللغة السينمائية إنما هو تدخل في الواقع الذي تشتغل الأفلام الوثائقية عليه خاصة بعد التوصل إلى مفاهيم ثورية في فن المونتاج الذي منح اللقطات معنى آخر عند ترابطها مع بعضها إضافة إلى الإفادة الكبرى من التطور الحاصل في الآت ومعدات التصوير والذي أضاف كما يشير الكتاب إلى الأفلام الوثائقية الكثير من السمات الجمالية لذا لم تعد وظيفة الفلم الوثائقي نقل الواقع بقدر ما تعدى ذلك إلى خلق عالم جديد إنساني حقاً. ثم يتعرض الكتاب إلى الفروقات الجمالية ما بين الفلم الوثائقي المنتج للتلفزيون والفلم الوثائقي المنتج للسينما فمنها ماله صلة بالفرق بين حجم شاشة العرض ومنها ما يتعلق بخصوصية العرض في صالات السينما عنه في البيت ومنها ما يتعلق باهتزازات الكاميرا في الفلم الوثائقي والتشوهات في الصورة والتي تعد سمات جمالية خاصة به تأتي من طبيعة الإثارة التي تحدثها لدى المتلقي بسبب من مصداقية ما يجري أمامه كما إن عدم الاهتمام بالموازنة داخل الفيلم يعد أيضاً سمة جمالية وفارقا كبيرا بينه وبين الفلم الروائي. كما أن المؤثرات الصوتية الطبيعية والحقيقية هي أيضاً سمة وخاصية جمالية للفيلم الوثائقي، وهنا لا يفوت المؤلف الإشارة إلى الفلم الوثائقي الذي يستخدم الممثل ويطلق عليه (الدوكودراما) وبداية ظهور هذا النوع في فيلم (ألمانيا تحت الرقابة) للمخرج البريطاني روبرت بار، والذي يرى أن :”استخدام الممثل في السينما التسجيلية يمثل نوعاً من الأثراء للأفلام التسجيلية. عموماً الكتاب إضافة مهمة للمكتبة السينمائية التي تفتقر إلى دراسات تتسم بالجهد البحثي الذي تتوفر فيه الاشتراطات العلمية، والسلوم ناقد سينمائي من مواليد بغداد يحمل شهادة ماجستير سينما من جامعة بغداد كلية الفنون الجميلة وعضو في اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين ونقابة الفنانين واتحاد السينمائيين ونقابة الصحفيين ورئيس ملتقى الخميس الإبداعي في اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين ويكتب النقد السينمائي في العديد من الصحف والمجلات العراقية والعربية وفي مسيرته الفنية ثلاثة أفلام تولى إخراجها وهو الآن يعمل معداً للبرامج الثقافية في القنوات الفضائية.