أخطأ المفكرون حينما اعتبروا تاريخ الأمة خطاً متصلاً إما متخلفاً أو متطوراً، وهذا ما لم يحصل بسبب التنوع، وأخطأ المفكرون المؤتمرون بالندوة لتحليلهم معطى الماضي كحقبة زمنية ممتدة منذ قيام الخلافتين الأموية بدمشق والعباسية ببغداد، وما تلاهما من مراحل تاريخية تخللتها عوارض عديدة، وظواهر ونشاطات مختلفة، يمكن تقسيمها لحالتين إيجابية وسلبية. والسلبية منها تم تناولها في عصورها الماضيات مما يدل على وجود الحس النقدي القديم، سواء نقد التاريخ أو اللغة أو الشعر أو الخطاب الفلسفي والعملي والفتري، فكانت ظاهرة المتنبي وأبي تمام والمعري في الشعب كثلاثة من كبار فطاحلة الشعر، وكان ظهور عبدالحميد الكاتب، وابن النديم، والجاحظ كثلاثة لهم أثرهم في ثراء خطاب النثر، وكان ظهور الحسن ابن الهيثم، وابن سيناءس وابن النفيس، كرواد في العلم والطب، وكانت شهرة ابن رشد، وابن عربي، والغزالي، كفلاسفة تجوب الآفاق، وفي التاريخ ظهر ابن كثير وابن خلدون بعلم الاجتماع والتاريخ، وابن خلكان في معجم البلدان، والبيروني، والجبرتي، وابن الأثير، والفيلسوف ابن الرومي، والحسن الهمداني من اليمن وابن الديبع كمؤرخ أيضاً، أما في النقد، فكان عبدالقاهر الجرجاني وعلي الجرجاني، وابو الحسن العسكري وابن جني والخليل ابن أحمد الفراهيدي كأساطين في النقد الأدبي، والعروض كأحد علوم الشعر وموازينه، وقواعد العربية إعراباً وصرفاً وبياناً وبديعاً وبلاغة كل هؤلاء وأمثالهم الكثير كانوا إضاءات من إضاءات ماضي الأمة العربية المتخلّف!! وهؤلاء وغيرهم هل يمكننا تقييمهم تراثياً من أسباب التخلف؟ أم ممن كانوا يحملون موقفاً مضاداً للتخلف بكل مظاهره؟ وقد قيل: الخطوط مهما كانت مستقيمة فلابد من وجود تعرجات فيها، غير أن البعض قد يتناسى هذه الحقيقة! وحسب هذا القول يمكن تصنيف ماضي الأمة لجانبين متضادين، مُظلمين، ومشرقين، الأول: مظلم بظلمه، ومظلم بفكره(عقليته المتخلفة). والثاني: مشرق بعلمه ومعرفته، ومشرق بتفانيه وعطائه( ومكابدته). ولايمكننا الخلط بين معطى تاريخي أسهم في نشر العلم وسائر فنون المعرفة، ومعطى رسخ لبقاء الجهل والتخلف، فشتان بين المعادلتين المتضادتين شكلاً ومضموناً، وكلاهما مثلا بوقت واحد ما نسميه اصطلاحاً ثقافياً تاريخ الأمة أو تراثها، ولا يصح منطقياً إطلاق حكم منصف له معنى واحد، فنقول: الظالم والمظلوم سواء، إننا هنا نبخس المظلوم حقه حينما نساويه بالظالم، تحت توصيف واحد، أي يجب تسمية الأشياء بمسمياتها، حتى نتمكن من معرفة وتمييز كل ظاهرة على حدة، وبشكل مستقل، فالسهل والجبل مختلفان، شكلاً ومعنى حتى وإن كانا ضمن جغرافية متقاربة واحدة، وحتى إن توفرت فيها عناصر واحدة، فنسمي كل واحد باسمه ونصفه بصفته. أما المفكرون العرب بندوة الكويت عام 74م فقد خلطوا الجوانب المضيئة من الماضي بالقائمة، وأطلقوا أحكامهم على أنها /فترة الماضي العربي من تاريخ الأمة/ظلامية كلها وهذا استنتاج غيرموضوعي يخلو من العلمية.. هذه الأحكام الجاهزة لا تصلح في تقويم الأشياء ودراسة وبحث الظواهر بغية إثرائها، أو نقدها، أو الإضافة إليها من منظور التحاكم الفكري والعلمي والمعرفي، أو تحليلها لاستكناه بواطنها، والمنطق الصائب لا يكون إلا تقولنا: التراث الخاص بأمتنا العربية، يحتمل بطياته، المنير والمظلم، الحسن والرديء، والحكم عليهما بمنظار واحد فيه بخس كبير لما هو إيجابي، في مقابل تغليب السلبي على كل شيء، حتى ما هو نافع في الحياة، وكان الأجدر بمفكرينا تحاشي هذه الهفوات، التي اقترفوها بحسن نية / قاصدين نقد التخلف/ أو قاصدين التبرم من التخلف/ القديم الجديد/معاً/ما جعلهم يطلقون أحكاماً جزافية ساوت بين الصحراء الجرداء من كل عشب، والواحة الغناء بثمارها وظلالها.. مما أبعدهم عن المنطقية، والموضوعية، والعلمية، والإنصاف، والنظرة الحيادية للقضايا القديمة والمعاصرة.. وهذا ما كان يجب أن يتسموا به، حتى لا يذهب جهدهم، ويغدو عبثاً لا طائل منه، إن الأخطاء العلمية لا يمكن تصويبها إلا بالنظرة العلمية، التي تذهب بالخطأ إلى الصواب، أو تحويل وجهته الخاطئة إلى الاتجاه الصائب والصحيح، ولكننا برغم ذلك نقدر مجهودهم الذي جانبه، في كثير من أبحاثه النجاح المرجو له، ومنه. لكن ذلك سيشكل دافعاً لاستكمال المسيرة الحضارية بفهم جديد، وعقلية جديدة، ورؤية جديدة، وإصرار جديد بعد معرفة ما كان حقاً، وما كان باطلاً. وما كان موضوعياً أو غير موضوعي، (فقانون العلم دائماً هو قانون الخطأ). أي أن تطورات العلم ما بين الماضي والمستقبل تكشف كل يوم جديداً، نظراً لتطورات الحياة، وسرعة متغيراتها، ومسلماتها، ولن يتطور الفكرالعربي إلا إذا حقق شيئين ضروريين هما: أ تحرره ب استقلاليته. فبدونهما لا يمكنه الإمساك بزمام الفكر العلمي الذي يوصلنا إلى الحضارة.