للمرة الرابعة ..اليمن يستهدف عمق الكيان مجددا    بن بريك والملفات العاجلة    92 ألف طالب وطالبة يتقدمون لاختبارات الثانوية العامة في المحافظات المحررة    الجوع يفتك بغزة وجيش الاحتلال يستدعي الاحتياط    هدف قاتل من لايبزيغ يؤجل احتفالات البايرن بلقب "البوندسليغا"    يفتقد لكل المرافق الخدمية ..السعودية تتعمد اذلال اليمنيين في الوديعة    ترحيل 1343 مهاجرا أفريقيا من صعدة    لاعب في الدوري الإنجليزي يوقف المباراة بسبب إصابة الحكم    السعودية تستضيف كأس آسيا تحت 17 عاماً للنسخ الثلاث المقبلة 2026، 2027 و2028.    النائب العليمي يبارك لرئيس الحكومة الجديد ويؤكد وقوف مجلس القيادة إلى جانبه    الأهلي السعودي يتوج بطلاً لكأس النخبة الآسيوية الأولى    التركيبة الخاطئة للرئاسي    وادي حضرموت على نار هادئة.. قريبا انفجاره    أين أنت يا أردوغان..؟؟    مع المعبقي وبن بريك.. عظم الله اجرك يا وطن    حكومة بن بريك غير شرعية لمخالفة تكليفها المادة 130 من الدستور    العدوان الأمريكي يشن 18 غارة على محافظات مأرب وصعدة والحديدة    اعتبرني مرتزق    المعهد الثقافي الفرنسي في القاهرة حاضنة للإبداع    المعهد الثقافي الفرنسي في القاهرة حاضنة للإبداع    رسائل حملتها استقالة ابن مبارك من رئاسة الحكومة    نقابة الصحفيين اليمنيين تطلق تقرير حول وضع الحريات الصحفية وتكشف حجم انتهاكات السلطات خلال 10 سنوات    3 عمليات خلال ساعات.. لا مكان آمن للصهاينة    - اعلامية يمنية تكشف عن قصة رجل تزوج باختين خلال شهرين ولم يطلق احدهما    - حكومة صنعاء تحذير من شراء الأراضي بمناطق معينة وإجراءات صارمة بحق المخالفين! اقرا ماهي المناطق ؟    بدعم كويتي وتنفيذ "التواصل للتنمية الإنسانية".. تدشين توزيع 100 حراثة يدوية لصغار المزارعين في سقطرى    قرار جمهوري بتعيين سالم بن بريك رئيساً لمجلس الوزراء خلفا لبن مبارك    "ألغام غرفة الأخبار".. كتاب إعلامي "مثير" للصحفي آلجي حسين    مقاومة الحوثي انتصار للحق و الحرية    مقاومة الحوثي انتصار للحق و الحرية    إنتر ميلان يعلن طبيعة إصابة مارتينيز قبل موقعة برشلونة    اجتماع برئاسة الرباعي يناقش الإجراءات التنفيذية لمقاطعة البضائع الأمريكية والإسرائيلية    وزير الخارجية يلتقي رئيس بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر    مصر.. اكتشافات أثرية في سيناء تظهر أسرار حصون الشرق العسكرية    اليمن حاضرة في معرض مسقط للكتاب والبروفيسور الترب يؤكد: هيبة السلاح الأمريكي أصبحت من الماضي    تدشين التنسيق والقبول بكليات المجتمع والمعاهد الفنية والتقنية الحكومية والأهلية للعام الجامعي 1447ه    أزمة جديدة تواجه ريال مدريد في ضم أرنولد وليفربول يضع شرطين لانتقاله مبكرا    الحقيقة لا غير    القاعدة الأساسية للأكل الصحي    أسوأ الأطعمة لوجبة الفطور    سيراليون تسجل أكثر من ألف حالة إصابة بجدري القردة    - رئيسةأطباء بلاحدود الفرنسية تصل صنعاء وتلتقي بوزيري الخارجية والصحة واتفاق على ازالة العوائق لها!،    الفرعون الصهيوأمريكي والفيتو على القرآن    الجنوب يُنهش حتى العظم.. وعدن تلفظ أنفاسها الأخيرة    اسعار الذهب في صنعاء وعدن السبت 3 مايو/آيار2025    صنعاء تصدر قرار بحظر تصدير وإعادة تصدير النفط الخام الأمريكي    إصلاح الحديدة ينعى قائد المقاومة التهامية الشيخ الحجري ويشيد بأدواره الوطنية    مانشستر سيتي يقترب من حسم التأهل لدوري أبطال أوروبا    غارات اسرائيلية تستهدف بنى تحتية عسكرية في 4 محافظات سورية    احباط محاولة تهريب 2 كيلو حشيش وكمية من الشبو في عتق    سنتكوم تنشر تسجيلات من على متن فينسون وترومان للتزود بالامدادات والاقلاع لقصف مناطق في اليمن    الفريق السامعي يكشف حجم الاضرار التي تعرض لها ميناء رأس عيسى بعد تجدد القصف الامريكي ويدين استمرار الاستهداف    الكوليرا تدق ناقوس الخطر في عدن ومحافظات مجاورة    الإصلاحيين أستغلوه: بائع الأسكريم آذى سكان قرية اللصب وتم منعه ولم يمتثل (خريطة)    من يصلح فساد الملح!    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سؤال النهضة: لماذا تأخَّر المسلمون، ولماذا تقدَّم غيرهم..؟!
نشر في الجمهورية يوم 09 - 01 - 2015


سؤال النهضة.. الأهمية والقيمة
لعل أبلغ سؤال طُرح في ساحة عصر النهضة في المجال العربي الحديث هو سؤال شكيب أرسلان «1286-1366ه/ 1869-1946م»: لماذا تأخَّر المسلمون، ولماذا تقدَّم غيرهم..؟! الذي اختاره عنواناً لكتابه الوجيز الصادر سنة 1930م، وبفضل هذا السؤال اكتسب هذا الكتاب شهرة واسعة بقي محتفظاً بها على طول الخط، ولولا هذا السؤال وبلاغته وحكمته ما عُرف هذا الكتاب وما اكتسب كل هذه المعرفة وهذه الشهرة المتقادمة والعابرة بين الأزمنة، فالكتاب عُرف بهذا السؤال، وبقي ومازال يُعرف به، ولو كان له عنوان آخر لما عُرف هذا الكتاب، ولكانت شهرته بالتأكيد أقل حظوة..
ومن هذه الجهة، فإن هذا الكتاب يُعد من نمط الكتب التي عرفت بعنوانها، وبلاغة سؤالها، ليس هذا فحسب، بل إن عنوان الكتاب وسؤاله، بات أكثر شهرة وتداولاً من الكتاب نفسه نصاً وموضوعاً، فهناك الكثيرون في المجال العربي الذين يعرفون عنوان الكتاب ويتعاملون معه في مجالهم التداولي جدلاً ونقاشاً، لكنهم لم يطالعوا الكتاب ولم يتعرَّفوا إلى محتوياته ومواضيعه وطبيعة إشكاليته الفكرية والبنيوية.
وتتكشَّف هذه الملاحظة عند معرفة أن مستويات العودة إلى الكتاب والاقتباس منه، وتداول نصوصه، هي أقل بكثير مقارنة بالعودة إلى عنوانه، والتوقُّف عند سؤاله، وبشكل لا يكاد يقارن، ومن هذه الجهة يتفوّق عنوان الكتاب وسؤاله على الكتاب نفسه نصّاً وموضوعاً.
وأمام هذا السؤال، طبيعته وماهيته وبلاغته وحكمته، وقبل البحث في الإجابات الناظرة إليه؛ هناك ثلاث ملاحظات يمكن التوقف عندها، وهي:
أولاً: مع هذا السؤال أصبح لخطاب النهضة العربي والإسلامي سؤال عرف ب«سؤال النهضة» وتحدَّد بهذه الصفة من ناحية المعنى، وبهذه المنزلة من ناحية الاعتبار، وجاء هذا السؤال ولبَّى حاجة حقيقية، هي حاجة البحث عن سؤال النهضة؛ لكونه يقع في طريق البحث عمَّا هو سؤال النهضة..!!.
السؤال الذي كان لابد أن يُطرح، ومآله أن يُطرح في يوم من الأيام، وفي زمن من الأزمنة، وذلك لأن كل خطاب نهضوي بحاجة إلى سؤال نهضوي ينبثق منه، ويعبّر عنه وعن طبيعة إشكاليته ويختزل مطلبه ومطالبه ويشع بفلسفته وحكمته.
ولو لم يُطرح هذا السؤال، ويتبوأ منزلته بصفته سؤال النهضة وسؤال الخطاب النهضوي؛ لكنا في حالة تساؤل من الأمس إلى اليوم عن سؤال يحمل هذه الصفة، وتكون له مثل هذه المنزلة.
والذي أكسب هذا السؤال هذه الصفة وهذه المنزلة ليست البلاغة والبيان التي عُرف بهما وعُدَّتا من ملامحه البيانية والأسلوبية، وإنما لكون أن هذا السؤال انبثق من داخل الخطاب النهضوي، من قلبه وصميمه، من ساحته وحركته، ولم يأتِ من خارجه، أو من هامشه، كما أنه لم يأتِ من فراغ أو من ترف وخيال، ولم يأتِ كذلك من جدل وسجال، ولا من تأمُّلات ذهنية غارقة في التنظير أو التجريد، وإنما جاء من رجل له اسمه ووزنه وأثره في حركة النهضة والإصلاح، أمضى حياته في هذا الطريق، وعلى هذا الدرب، وعُرف بهذا الهم النهضوي والإصلاحي الذي بقي معه ولم يفارقه، وكان أشبه الرجال بالسيد جمال الدين الأفغاني (1254-1314ه/ 1838-1897م) في حركته وهجرته وتعدّد أماكن إقامته وفي الدفاع المستميت عن قضايا الأمة، وهكذا في الروح التي كانت تسري بداخله.
واللافت في هذا السؤال أنه ما إن عُرف حتى أخذ طريقه إلى المجال التداولي، بصفته معبّراً عن «سؤال النهضة» وكل من تعرَّف إليه أعطاه هذه الصفة، وقد وجد فيه هؤلاء سؤالاً له بلاغته وحكمته من هذه الجهة، ومن شدة بلاغته وحكمته بقي محتفظاً بهذه الصفة، ولم يتزحزح عن مكانته، ولم ينازعه أي سؤال آخر على هذه المكانة، وأصبح سؤالاً يؤرَّخ له في تاريخ تطوّر الفكر الإسلامي الحديث، وتاريخ تطوّر أدب النهضة في المجال العربي والإسلامي الحديث، وينتسب إلى مطلع ثلاثينيات القرن العشرين.
وهناك الكثيرون في المجال العربي المعاصر الذين نظروا إلى هذا السؤال من جهة علاقته بخطاب النهضة، ومعّبراً عن سؤالها وإشكاليتها، فحين توقَّف مالك بن نبي (1323-1392ه/ 1905-1973م)، أمام هذا السؤال، قال عنه: «هذا هو السؤال الذي يتردّد في كل مناسبة إسلامية» في إشارة منه إلى جدّية هذا السؤال وكثافة حضوره.
والسياق الذي جعل ابن نبي يتذكّر سؤال أرسلان تحدّد بقوله: «انتهت أو تبخَّرت مع الحرب العالمية أفكار أو دعوة جمال الدين الأفغاني للجامعة الإسلامية، انتهت مع سقوط الخلافة العثمانية نهائيّاً، وعاش تلك الأيام السوداء، ضمير مسلم آخر، تمثَّلت فيه المأساة الإسلامية، وهو شكيب أرسلان، فنشر كتابه المعنون بسؤال: لماذا تأخّر المسلمون، وتقدم غيرهم..؟! هذا هو السؤال»[1].
ومن جهته اعتبر الدكتور محمد عابد الجابري (1354-1431ه/1936-2010م) أن سؤال أرسلان لخّص إشكالية النهضة كما عاشها في وعي العرب والمسلمين في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن العشرين[2].
وتطابقاً مع هذا الموقف؛ اعتبر الدكتور هشام جعيط أن أرسلان هو الذي صاغ إشكالية الإصلاح السياسي والحضاري في تعبيرها الأدق[3] وذهب الدكتور رضوان السيد إلى أن سؤال أرسلان يلخّص الإشكالية التي شغلت سائر النهضويين والإصلاحيين[4] وأعطى الشيخ راشد الغنوشي هذا السؤال، تارة وصف سؤال النهضة الحارق، وتارة سؤال النهضة المؤرق[5].
ولعل الوحيد الذي فارق هذا الموقف وخرج عن سياقه هو سيد قطب (1324-1386ه/ 1906-1966م) الذي رأى أن سؤال أرسلان من أصله كان خاطئاً، وحسب نظره أن المسلمين تخلَّفوا لأنهم تركوا الإسلام، وأما غيرهم فلم يتقدَّموا، بل هم في جاهلية جهلاء؛ لأن الإسلام هو الحضارة[6].
هذا الرأي لسيد قطب سبق أن ناقشه وحاججه واعترض عليه مالك بن نبي، وفي الإجمال هو رأي يتسم بالعمومية والاختزال والتبسيط، كما يتسم باللا تاريخية واللا سننية نسبة إلى قانون السنن التاريخية.
ثانياً: أسهم سؤال أرسلان في صياغة نسق من التساؤلات المهمّة التي حاولت محاكاته ومجاراته والتشبُّه به، واستعمال بنيته الأسلوبية وصيغته التساؤلية، وطريقته في الموازنة والمقارنة والمقاربة ما بين الحضارتين والثقافتين الإسلامية والغربية.
وفي هذا النطاق يمكن الإشارة إلى أربعة تساؤلات، هي التي وقفت عليها، وليست بالتأكيد هي التساؤلات الحصرية، ولا هي أيضاً نهاية هذه التساؤلات، وهذه التساؤلات الأربعة بحسب تعاقبها الزمني هي:
التساؤل الأول: أشار إليه المفكّر الفرنسي روجيه غارودي (1913-2012م)، وذكر هذا السؤال مالك بن نبي في حادثة حوار حصلت بينهما في الجزائر العاصمة سنة 1948م، وأشار بن نبي إلى هذه الحادثة في كتابه «شروط النهضة» من دون أن يُسمّي غارودي باسمه، وقال عنه أحد الغربيين وأفصح عن اسمه في محاضرة ألقاها في الملتقى السنوي للفكر الإسلامي المنعقد في مدينة قسنطينة الجزائرية سنة 1970م، في هذا الحوار تساءل غارودي أمام بن نبي وفي حضور آخرين: لماذا الحضارة الأوروبية استمرت والحضارة الإسلامية انقطعت..؟!.
وإذا كان هذا التساؤل لم يتولّد مباشرة من رحم سؤال أرسلان؛ إلَّا أنه يتَّصل به من جهة وحدة النسق، وأشار إليه بن نبي عند حديثه عن سؤال أرسلان في دلالة منه على ما بينهما من اشتراك واتصال؛ الأمر الذي يعني أن هذا التساؤل إذا لم يكن متصلاً ابتداءً بسؤال أرسلان من جهة غارودي؛ فإنه اتصل به لاحقاً من جهة بن نبي.
وعند الإجابة عن هذا التساؤل، بدا لابن نبي أنه يُعبِّر عن ثقب وعن فجوة في ثقافة الغرب؛ لأن الحضارات كلها لها حظّها وعمرها لأداء وظيفتها ورسالتها في العالم، فالحضارة الإسلامية أدَّت رسالتها في مدى من الزمن كافٍ لأداء رسالتها، كما أن الحضارة الرومانية التي سبقتها أدَّت رسالتها في مدى كافٍ، مستشهداً على ذلك بقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}[7].
التساؤل الثاني: أشار إليه الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه «منهج الحضارة الإنسانية في القرآن» الصادر سنة 1982م، وتحدَّد عنده بصيغة: لماذا تحجّرت الحضارة الإسلامية وازدهرت الحضارة الغربية..؟! وجاء عنواناً لفصل في القسم الأخير من كتابه، ومن البدء ودون مقدّمات، وفي أول سطر اعتبر الدكتور البوطي أن هذا السؤال الذي طرحه، هو سؤال سطحي جدّاً، وحين يتمّم كلامه يقول: «ولكن عامة الناس يكثرون من طرحه كلما دعت المناسبة ويبنون عليه مشكلة في غاية الصعوبة والتعقيد، فيما يتوهمون، والمؤسف أن الإجابة عن هذا السؤال، تأتي في غالب الأحيان أكثر سطحية من السؤال نفسه»[8].
ومع أن الدكتور البوطي لم يأتِ على ذكر أرسلان؛ إلَّا أن السؤال الذي طرحه يتصل بسؤال هذا الأخير ويحمل صبغته وصيغته البيانية والأسلوبية.
التساؤل الثالث: أشار إليه الدكتور هشام جعيط في كتابه «أزمة الثقافة الإسلامية» الصادر سنة 2000م، وتحدّد عنده بصيغة: لماذا تمدّن الآخرون وتأخّرنا نحن..؟! والأقرب أن هذا السؤال بهذه الصيغة جاء من دون قصد؛ لأن الدكتور جعيط كان في صدد الإشارة إلى سؤال أرسلان كما تحدّد في عنوان كتابه، والتبس عليه الأمر على ما يبدو، وحسب قوله: «كان شكيب أرسلان هو الذي صاغ إشكالية الإصلاح السياسي والحضاري في تعبيرها الأدق، حين تساءل: لماذا تمدّن الآخرون وتأخّرنا نحن..؟!» [9].
ومن دون قصد؛ أضاف الدكتور جعيط سؤالاً جديداً يتسق وسؤال أرسلان، ويتصل به ويحوم حوله، سؤال بإمكانه أن يكون في دائرة الضوء والاهتمام.
التساؤل الرابع: أشار إليه الباحث السوري هاشم صالح في كتابه «من الحداثة إلى العولمة» الصادر سنة 2010م، وتحدَّد عنده بصيغة: لماذا تقدَّمت أوروبا وتأخّر غيرها..؟! وجاء اختيار السؤال بهذه الصيغة متعمداً من صالح الذي كان ملتفتاً إلى سؤال أرسلان، ومتذكّراً له، وأنه - حسب قوله - عكس السؤال لكي يصل إلى النتيجة نفسها [10].
هذه التساؤلات الأربعة، عند النظر فيها بمنطق التحليل الدلالي؛ نجد أن الكلمات المفتاحية من الناحية البيانية والدلالية قد تغيَّرت من سؤال إلى آخر، ففي تساؤل روجيه غارودي: لماذا الحضارة الأوروبية استمرت والحضارة الإسلامية انقطعت..؟! تحدَّدت الكلمات الدلالية في تفسير هذه القضية في كلمتي «الاستمرار والانقطاع».
وفي تساؤل الدكتور البوطي: لماذا تحجّرت الحضارة الإسلامية وازدهرت الحضارة الغربية..؟! تحدَّدت الكلمات الدلالية في كلمتي «التحجُّر والازدهار» وفي تساؤل الدكتور جعيط: لماذا تمدّن الآخرون وتأخّرنا نحن..؟! تحدَّدت الكلمات الدلالية في كلمتي «التمدُّن والتأخُّر» وفي تساؤل هاشم صالح: لماذا تقدّمت أوروبا وتأخّر غيرها..؟! تحدّدت الكلمات الدلالية في كلمتي «التقدُّم والتأخُّر».
هذه الكلمات المركّبة ثنائيّاً، مع أن كل مركب منها له جانبه الدلالي والتفسيري؛ إلَّا أن الأكثر دقّة وضبطاً هو المركّب المتكوّن من ثنائية «التقدم والتأخر» فليس من الدقة والضبط تفسير ما حصل بين الحضارتين والثقافتين الإسلامية والأوروبية على أساس مركب الاستمرار والانقطاع؛ وذلك لأن الاستمرار له علاقة بالتقدُّم، والانقطاع له علاقة بالتأخر، وهكذا الحال مع مركّب الازدهار والتحجُّر، فالازدهار له علاقة بالتقدُّم، والتحجُّر له علاقة بالتأخُّر.
هذا التغليب أو الترجيح لمركب التقدّم والتأخُّر، يضع سؤالي أرسلان وهاشم صالح في إطار الموازنة، باعتبار أن كل واحد منهما استند إلى ثنائية التقدُّم والتأخُّر، مع اختلاف بينهما في التقديم، فأرسلان يقدّم التأخر على التقدُّم، وصالح يقدّم التقدُّم على التأخر، فأي السؤالين أكثر دقة وضبطاً..؟!.
في إطار الموازنة بين هذين السؤالين، يمكن القول: إن سؤال أرسلان هو السؤال الذي نطرحه نحن على أنفسنا، لماذا تأخرنا نحن..؟! أما سؤال صالح هو السؤال الذي يطرحه الأوروبيون على أنفسهم: لماذا تقدّموا هم..؟!، وعلى هذا الأساس يكون سؤال أرسلان هو أكثر دقّة وضبطاً.
ثالثاً: يُعد سؤال أرسلان بحسب المقاييس المنهجية والعلمية من الأسئلة الناجحة في المجال العربي الحديث والمعاصر، ويصلح من هذه الجهة أن يكون نموذجاً للسؤال الناجح، ويحق أن يُضرب به المثل على ذلك، فلو أردنا البحث والكشف عن الأسئلة التي عُرف عنها النجاح والتفوُّق في المجال العربي الحديث والمعاصر؛ لكان هذا السؤال في المقدمة.
ومن المقاييس الدالّة على نجاح هذا السؤال وتفوقه؛ قدرته على الثبات والبقاء وتخطي عقبة توالي الأيام وتقادم الزمن وتعاقب الأجيال وتغيُّر الأحوال، فهذا السؤال الذي ينتسب إلى سنة 1930م، وبعد كل هذه السنين الطويلة بكل تحوّلاتها وتغيراتها المتسارعة والمتعاظمة التي غيّرت صورة العالم؛ مازال سؤالاً حيّاًَ وحاضراً ومؤثّراً، بل متفوّقاً على غيره من الأسئلة الأخرى إن وجدت، ويجري التعامل معه كما لو أنه سؤال اليوم وليس سؤال الأمس، وبوصفه سؤالاً حديثاً ومعاصراً وأكثر حداثة ومعاصرة من بعض الأسئلة الأخرى التي طُرحت وتُطرح في وقتنا الراهن، ولا شك أن السؤال الذي يمتلك كل هذه القدرة على الثبات والبقاء، لابد أن يكون سؤالاً ناجحاً ومتفوّقاً.
ومن المقاييس الدالّة أيضاً على نجاح هذا السؤال؛ قدرته على توليد الأسئلة، ومنها تلك الأسئلة المشار إليها سابقاً، فالسؤال الذي يولّد أسئلة يصبح سؤالاً حيّاً بهذه القدرة على التوليد التي هي من سمات وعلامات العنصر الحي، كما يصبح سؤالاً متجدّداً بهذه الأسئلة المتولّدة التي تحمل أثراً من جيناته، وقبساً من روحه، تجعل كل سؤال من هذه الأسئلة يذكر به وينبه عليه.
ومن المقاييس الدالّة كذلك على نجاح هذا السؤال، كونه سؤالاً لم يُستنفَذ أو يُستهلك، ولم يصبح سؤالاً بالياً وعتيقاً وقديماً، ويكفي للدلالة على ذلك اعتبار البعض الذين توقفوا عند هذا السؤال وتأملوا النظر فيه؛ وجدوا أنه سؤال لم يُجَب عنه إلى اليوم، وفي هذا النطاق يمكن الإشارة إلى قولين ينتسبان إلى فترتين متعاقبتين، يفصل بينهما أربعة عقود من الزمن، القول الأول أشار إليه مالك بن نبي سنة 1970م، إذ اعتبر أن السنين لم تجب عن سؤال أرسلان إلى اليوم؛ مع أنه يتردّد في كل مناسبة إسلامية [11].
القول الثاني أشار إليه هاشم صالح سنة 2010م، إذ اعتبر أن المثقفين العرب لم يجيبوا عن سؤال أرسلان حتى هذه اللحظة [12].
يُضاف إلى ذلك ما أشرنا إليه سابقاً من أولئك الذين نظروا إلى هذا السؤال بوصفه حاملاً ومعبّراً عن إشكالية النهضة في المجال العربي الحديث؛ الأمر الذي يعني أن هذا السؤال وثيق الصلة بقضية هي من أعظم قضايا الأمة، وهي قضية النهضة.
هوامش:
[1] مولود عويمر، مالك بن نبي رجل الحضارة مسيرته وعطاؤه الفكري، تيزي وزو: دار الأمل، 2007م، ص181.
[2] محمد عابد الجابري، المشروع النهضوي العربي مراجعة نقدية، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2000م، ص119.
[3] هشام جعيط، أزمة الثقافة الإسلامية، بيروت: دار الطليعة، 2000م، ص128.
[4] رضوان السيد، سياسيات الإسلام المعاصر مراجعات ومتابعات، بيروت: دار الكتاب العربي، 1997م، ص40.
[5] راشد الغنوشي، بين سيد قطب ومالك بن نبي، الدوحة: الجزيرة نت، الاثنين 1/ 2/ 2010م.
[6] راشد الغنوشي، المصدر نفسه.
[7] مولود عويمر، مالك بن نبي رجل الحضارة، مصدر سابق، ص185-186.
[8] محمد سعيد رمضان البوطي، منهج الحضارة الإنسانية في القرآن، دمشق: دار الفكر، 1992م، ص157.
[9] هشام جعيط، أزمة الثقافة الإسلامية، مصدر سابق، ص128.
[10] هاشم صالح، من الحداثة إلى العولمة رحلة في الفكر الغربي وأثرها في الفكر العربي، الرياض: كتاب العربية، 2010م، ص159.
[11] مولود عويمر، مالك بن نبي رجل الحضارة، ص181.
[12] هاشم صالح، من الحداثة إلى العولمة، مصدر سابق، ص159


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.