أشرنا في الحلقة السابقة إلى إن الإمام الغزالي في تهافت الفلاسفة أنكر عليهم عشرين مسألة؛ كفّرهم في ثلاث مسائل، وبدّعهم وأنكر عليهم في 17 مسألة، المسائل الثلاث التي كفّرهم فيها وهي محور الكتاب «تهافت التهافت» هي: 1 قدّم العالم وفيها مسألتان الأولى القول إن العالم لا بداية له، والثانية القول إن العالم لا نهاية له؛ أي لا تفنى مادته. 2 مسألة علم الله تعالى بالجزئيات بعلم كلّي وفيها ثلاث مسائل، الأولى مسالة قول الفلاسفة إن الأول يعقل ذاته، والثانية قولهم إنه يعلم غيره، والثالثة قولهم إنه تعالى يعلم الجزئيات بعلم كلّي لا جزئي. 3 مسألة تأويل المعاد الجسماني بالمعاد الروحاني، أما المسائل التي لم يصرّح بتكفيرهم وشنّع عليهم فيها وهي 17 مسألة منها أربع مسائل من باب الطبيعيات و11مسألة من باب الإلهيات وهي من مباحث الفلسفة القديمة في اليونان، وقد انتقلت إلى علم الكلام ولم يعد لأكثرها أية أهمية عقلية اليوم، وحتى أبوالوليد لم يولها أهمية كبيرة وسنمر عليها سريعاً في آخر هذه العجالة. منهج ابن رشد في «تهافت التهافت» ينتهج ابن رشد في الكتاب منهجاً تفكيكياً، فهو يورد مقاطع من كلام الغزالي وأقاويله ويقوم بتحليلها والرد عليها، فيبدأ بأهمها وهي قضية قدم العالم وأبديته أن القول بقدم العالم هو قول أرسطو ومن قبله هيراقليطس، وقد نسبه الدكتور يوسف كرم إلى معظم فلاسفة اليونان بما فيهم سقراط إلا أنه عرف عن أرسطو لأنه الوحيد الذي برهن عليه بواسطة المنطق والبراهين العقلية “تاريخ الفلسفة اليونانية” ص 108، وقد تابعه الفلاسفة المسلمون المعروفون بالمشائين وعلى رأسهم الفارابي وابن سينا والرازي وبن باجة ومن نحا نحوهم. فما معنى قدم العالم..؟ أرسطو يقول إن العالم غير مخلوق من عدم وإنما أزلي قديم، فالله لم يخلق العالم من لا شيء وإنما حرّك المادة لإخراجها من القوة إلى الفعل ثم تتابعت وتداخلت العلل والمسبّبات الفاعلة في الموجودات وصولاً بها إلى الصورة والجوهر. المبدأ الأول عند أرسطو ينظم ما ليس منتظماً ويشكّل ما ليس متشكّلاً ولا يخلق المادة من لا شيء، وهذا الكلام مستفز جداً لأمثال الغزالي وكل المتكلّمين من الأشاعرة وحتى المعتزلة؛ رأيناهم يشنّعون على الفلاسفة ويستخدمون براهين أرسطو التي استخدمها في الاستدلال على الصانع الأول على إثبات حدوث العالم حتى جوز بعضهم ترجيح الشي بلا مرجح من أجل إثبات حدوث المادة الترجيح بلا مرجّح عند الفلاسفة يعنون به أن الحادث لابد له من سبب يقتضي وجوده وإلا امتنع، والعجيب أن ابن تيمية رحمه الله وافق الفلاسفة وشنّع على المعتزلة في تجويزهم هذه المسألة كما في «درء تناقض العقل والنقل» بل حتى المسيحيين واليهود فقد رأينا القديس المسيحي توما الاكويني في القرن الثالث عشر يشن حملات فكرية قاسية على أفكار الرشدية اللاتينية التي سمّاها «الوثنية» ويصف القول بقدم العالم بالقضية الغيبية التي يحكم فيها الكتاب المقدّس وحده ولا يمكن أن يقوم عليها البرهان، ورأينا الحاخام اليهودي الحكيم موسى بن ميمون قبله في القرن الثاني عشر يجتهد في البرهنة على حدوث العالم وتسخيف القول بقدمه وأبديته، لكن الحكيم القاضي ابن رشد يقول: نحن لا نقول بهذه المقولة بهذا التوصيف ولا أرسطو يقصد هذا على ظاهره وإنما اختلط كلام الحكيم أرسطو بتفسيرات المترجمين والمتكلمين من المتأخرين والمتأثرين بنظرية الفيض والصدور ووحدة الوجود والتصوف، وأما قول أرسطو فلا يتعارض مع الشريعة الإسلامية إلا في الأسلوب اللفظي، وقد أفرد لهذه المسألة أربعة مباحث في الكتاب، المبحث الأول مبحث فلسفي ليثبت قدم العالم بالبراهين العقلية على طريقة أرسطو ويدحض أقاويل الإمام الغزالي والمتكلمين والمعتزلة القائلين بالحدوث. المبحث الثاني مبحث كلامي لإثبات ضرورة قدم العالم وإلا لزم أن تكون صفة الخلق لله تبارك وتعالى حادثة، وهذا محال لأن القديم لم يزل فاعلاً وأن القرآن الكريم لم يقل صراحة إن الله خلق الكون من العدم المطلق في زمان، وان الغزالي يعجز عن إثبات الإجماع على ذلك وأن القول إن العالم خلق في زمان يستلزم قدم الزمان، وهذا يفضي إلى القول إن الله تعالى يجري عليه الزمان تعالى الله عن ذلك. المبحث الثالث مبحث أصولي وفقهي ليبرّئ الفلاسفة المسلمين وعلى رأسهم أبونصر الفارابي وابن سينا من تهمة الكفر والزندقة والدهرية «الإلحاد» مع أنه يخطّئ الفارابي وابن سينا في بعض المسائل، ولكنه يذود عنهما الكفر ويفترض فيمها المقصد الحسن، وأن الأجماع الذي حكاه الغزالي إنما هو من قبيل الظن وليس اليقين، ثم يخلص في المبحث الرابع إلى مذهب وسط بين الفلاسفة والمتكلمين على طريقته في التوفيق بين الحكمة والشريعة، فيقول تقدّم الله تعالى على العالم إنما هو تقدّم العلّة على المعلول، فالعالم بالنسبة إلى الله حادث وبالنسبة للزمان والموجودات والحركة قديم، فالله قديم خالق، والعالم قديم مخلوق، أي أن الله تعالى متقدّم بالذات والرتبة وليس بالزمان والحركة. أولاً المبحث الفلسفي يستخدم أبو الوليد أربعة براهين عقلية على إثبات قدم العالم، البرهان الأول استحالة تراخي فعل الفاعل الأول عن وجوده سبحانه وتعالى فيقول: «لكن القوم يعني الفلاسفة» لما أدّاهم البرهان إلى أن هنا مبدأً محرّكاً أزلياً ليس لوجوده ابتداء ولا انتهاء وأنّ فعله يجب أن يكون غير متراخٍ عن وجوده؛ لزم ألا يكون لفعله مبدأ كالحال في وجوده، وإلاّ كان فعله ممكناً لا ضرورياً، يعني أن القول بحدوث العالم يقتضي تراخي فعل الفاعل الأول عن وجوده، وهذا ممتنع؛ لأن الله لم يزل خالقاً، فكما أنه لا بداية لوجوده لا بداية لفعله سبحانه. البرهان الثاني، القول بحدوث العالم يقتضي قدم الزمان يقول: «فإن قلتم إن الله تعالى متقدّم على العالم بالزمان، فيكون الزمان قديماً» ثم يقول: «فالقول بقدم الزمان وتقدّمه على العالم نفي للقول بحدوث العالم وتقدّم العدم عليه من جهة، ومن جهة ثانية لا وجود للزمان إلا مع المادة المتحرّكة» لاحظ أن أبا الوليد رضي الله عنه يوحّد بين الزمان والمكان، فأوروبا إلى أيام إسحاق نيوتن في القرن الثامن عشر وهم يفصلون الزمان عن المادة المتحرّكة حتى جاء ألبرت أينشتاين في القرن العشرين وقال بفكرة الزمكان Spacetime، وخلاصة هذا البرهان يقول أنتم هربتم من القول بقدم العالم ولكنكم وقعتم في القول بقدم الزمان، والزمان مخلوق، وما يُقال في المادة يُقال في الزمان أيضاً. البرهان الثالث برهان الإمكان والامتناع يقول: «وجود العالم ممكن قبل وجوده؛ إذ يستحيل أن يكون ممتنعاً ثم يصير ممكناً» ثم يقول: «فإن من يسلّم بأن العالم كان قبل وجوده ممكناً إمكاناً لم يزل يلزمه أن يكون العالم أزلياً فواجبٌ أن يكون أزلياً، لأن الذي يمكن فيه أن يقبل الأزلية لا يمكن فيه أن يكون فاسداً، إلا لو أمكن أن يعود الفاسد أزلياً، ولذلك يقول الحكيم «يريد أرسطو» إن الإمكان في الأمور الأولية ضروري يريد أنه لا وجود للإمكان مع العدم، أي أنه لا يمكن أن يكون الخلق ممتنعاً ثم يصبح ممكناً». البرهان الرابع وهو برهان المادة فيقول إن كل حادث فالمادة التي فيه تسبقه؛ إذ لا يستغني الحادث عن مادة، فلا تكون المادة حادثة وإنما الحادث الصّور والأعْراض والكيفيّات على المواد فلم تكن المادة الأولى حادثة بحال، ثم يقول: العالم في الحقيقة ليس محدثاً حقيقياً ولا قديماً حقيقياً؛ لأن القول: «إنه محدث حقيقي فاسد ضرورة؛ لأن العالم ليس من طبيعته أن يفنى ولا تنعدم مادته والقدم الحقيقي ليس له علّة والعالم له علّة». لاحظ أن العلّامة أبا الوليد ابن رشد رحمه الله يسبق العالم الكيميائي الفرنسي الكبير أنطوان لافوزييه في النصف الثاني من القرن الثامن عشر بالقول إن المادة لا تفنى ولا تُستحدث من عدم، وهو قانون حفظ المادة المعروف الذي ينص على: «إن المادة لا تفنى ولا تستحدث بل تتغير من شكل إلى شكل آخر». لاحظ قول ابن رشد: «لأن العالم ليس من طبيعته أن يفنى، أي لا تنعدم مادته» من هنا أيضاً تأتي أهمية ابن رشد في التفكير العقلاني الحديث، ثم يقول: «تقدّم الله على العالم إنما هو تقدّم الوجود والذي ليس بمتغير ولا زمان على الوجود المتغيّر الذي في الزمان، وهو نوع آخر من التقدّم». ثم يخلص إلى القول: «إذنً العالم محدث إذا نظرنا إليه من أنه معلول من الله، والعالم قديم إذا اعتبرنا أنه وجد عن الله منذ الأزل من غير تراخٍ في زمن، والخلاصة أن العالم بالإضافة إلى الله محدث، وبالإضافة إلى أعيان الموجودات قديم» ولكن لأن الجمهور والعامة من الناس لا يفهمون إلا بالتمثيل المادي ولا يستطيعون فهم التجريدات، فالله تعالى برحمته أخبر ظاهراً أنه خلق العالم في زمان؛ لأن العوام لا يستوعبون عالماً دون زمان؛ وهو نوع من التوفيق بين الشريعة والحكمة كما هو دابه. والعجيب أن العلّامة والأمام الفقيه ابن تيمية لا يجد مشكلة في هذه المسألة مع أنه أكثر تحاملاً على الفلسفة وابن رشد من الغزالي فهو يجوز وجود حوادث لا أول لها في الماضي والمستقبل كما في درء تعارض العقل والنقل، فالله خالق أزلاً وأبداً ولم يكن في لحظة غير خالق ثم صار خالقاً. اختصار يقول: إن المادة أزلية ولكنها لم تكن كما هي عليه الآن، فقد كانت موجودة بنحو ما «قوة» ثم مرّت بسلسلة طويلة من التشكل والتغير والتخلّق اللا متناهي، فواجب الوجود سبحانه لم يزل خالقاً قبل أن يكون هناك زمان وحركة «فتقدم الله على العالم عندهم ليس تقدماً زمانياً وتأخر العالم عنه إنما هو تأخُّر المعلول عن العلّة، فإذا كان التقدّم ليس زمانياً فالتأخر ليس زمانياً أيضاً» ثم يقرّر أن الفعل متقدّم على القوة وليس العكس؛ لأن القوة لا تخرج إلى الوجود بذاتها فالقدرة على التغيير ليست في طبيعتها الذاتية. لاحظ أن أباً الوليد في تفسيره لمفهوم «القوة» عند أرسطو أنه يضفي عليها خصائص الطاقة التي نعرفها اليوم، والمعلوم أن البرت أينشتاين في القرن العشرين كان يقول أصل هذا الكون طاقة، فالمادة عندما تتحلّل فإنها تتحوّل إلى طاقة؛ أي ترجع إلى أصلها والطاقة عندما تتكاثف تتحوّل إلى مادة وهي فكرة معادلة E=MC2 “تكافؤ المادة والطاقة” ومن هنا أيضاً تأتي أهمية ابن رشد في العقلانية الحديثة. ثم يمضي في شرح وتبرير وجهة نظر أرسطو طاليس والدفاع عن الفارابي فيقول: «فالعالم ليس بقديم ولا محدث؛ بل هو مخلوق من عدم في غير زمان» ثم يضيف: «إن تقدّم الله على العالم بالسببية لا بالزمان، كتقدُّم الشخص على ظلّه» «ولله المثل الأعلى» ثم يحاجج الغزالي «كل فعل متناه هو في الحقيقة ناتج عن علّة متناهية، والله سبحانه وتعالى جلّ عن التناهي» ثم يقول: «القول إن العالم حادث يقتضي أن يكون وجود الله تعالى متراخٍ عن فعله وهذا محال» يعني يقول للغزالي إذا كان الله تعالى قد بدأ العالم في لحظة ما؛ فماذا كان يفعل قبل هذه اللحظة، لماذا لا تكون صفة الخلق أزلية غير مرتبطة بالزمن والحركة، فهو يخلق أزلاً وأبداً ولم يزل خالقاً، فلا أول لخلقه ولا آخر وهو الخلاق العليم. ثم يدخل في علم الكلام فيقول: «فكيف يجوزون أن يكون القديم فعله له أول وله آخر» القديم هو الله تبارك وتعالى حسب تسمية أرسطو، أما في العقيدة الإسلامية فالأسماء توقيفية، لكن أبو الوليد هنا يتحدّث من باب الأخبار وليس التسمية» ثم يمضي «وإذا قلنا إن الأول لا يجوز عليه الفعل الأفضل وفعل الأدنى؛ لأن ذلك نقص فأي نقص أعظم من جعل فعل القديم متناهياً محدوداً كفعل المحدث» «فإن قالوا إن الله خلق العالم في زمن بإرادة قديمة؛ قلنا إن جاز فصل الإرادة عن العمل؛ فإنه لا يجوز فصل العلّة عن المعلول لعلّته، فالله أزليّ بوجوده، وفعله لا ينفصل عن وجوده، ففعله بالتالي أزلي مثله، ومعلولات فعله أزلية كفعله». يقول إن لازم قولكم إن الله بدأ خلق العالم في لحظة ما وإن الخلق لم يكن ممكناً قبل هذه اللحظة أن يكون واجب الوجود سبحانه ليس خالقاً أزلياً فقد كان قبل أن يصبح ممكن الخلق معطّلاً لصفة الخلق وامتناع صفة الخلق عليه في زمن ما يعني أن كماله حادث وليس قديماً «تعالى الله عن ذلك» أي لابد أن يكون الله خالقاً أزلياً ولابد أن تكون معلولات فعله قديمة أيضاً وغير متراخية عن وجوده سبحانه وتعالى. إن مشكلة قدم العالم هذه هي إحدى المشاكل الفلسفية القديمة بين مختلف المدارس الفلسفية الإلهية والمادية، فالعلوم الفيزيائية والكونية الحديثة تساند وجهة نظر الرشديين، فنظرية الانفجار العظيم تقول إن العالم بدأ قبل نحو 13 مليار سنة بانفجار عظيم ولد معه الزمان والمكان والقوى الطبيعية الأربع، وهنا يستبشر المثاليون والمتكلّمون خيراً ويقولون العلم سحق الأرسطيين والرشديين بالضربة القاضية؛ لكن يجيب الرشديون بسؤال آخر: وأين كانت المادة قبل الانفجار العظيم..؟!. يجيب العلم الحديث قائلاً: كان الكون كلّه مضغوطاً في وحدة لا متناهية الصغر قطرها 10^ 33 جزءاً من السنتمتر؛ يعني كان الكون جسيماً من رتبة 10 مرفوعة للأس السالب 33 من السنتمتر، أي جزء من مليار ترليون ترليون جزء من السنتمتر الواحد أصغر من نواة الذرة التي نعرفها الآن بمليارات المرّات نواة الذرة يبلغ قطرها 10^ 13 عشرة مرفوع للأس السالب 13، وكان محتفظاً بطاقته وكثافته، وهذا أيضاً شكل من أشكال المادة مهما كانت متناهية في الصغر، فالمادة تتمدّد وتنكمش، وحتى هذا الكون الذي يبلغ حجمه الآن حوالي 156 مليار سنة ضوئية بالإمكان فيزيائياً أن ينسحق إذا انتصرت الجاذبية الذاتية فسوف تبدأ طاقة الجذب المركزية في لملمة أطراف الكون في عملية انسحاق عظيم معاكس للانفجار والتمدُّد، وسوف ينضغط الكون بكل أبعاده ومجرّاته في وحدة متناهية الصغر ويكون متحفظاً بكثافته وجاذبيته كما كان قبل الانفجار العظيم، فحوالي 99 % من الذرّة عبارة عن فراغ، والله تعالى أعلم على غيبه وأحكم.