سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
ذهب الجميع لمقارعة السماء، أثبتوا ب «أفواه البنادق» إن «صنعاء 68م غير صنعاء 48م»، فيما شعار «الجمهورية أو الموت» يأتي هادراً من خلف دخان الرصاص.. وكانت السبعون أشرف أيام الخلود..
لحظة تاريخية صعبة وفاصلة, كانت تتويجاً بارزاً لانتصارات «الثورة اليمنية»، وامتداداً طبيعياً لتأكيد هويتنا الوطنية، تحقق فيها إمكانية الصمود والمقاومة بكوادر وطنية محدودة.. بعيداً عن «العقدة اليزنية»؛ «المعركة» لم تكن معركة الجيش وحده، بل معركة الشعب كُله، في مشهد تلاحمي لا يتكرر، وقف الطالب إلى جانب الفلاح، والشيخ إلى جانب العامل، وانبثقت من روح تلك المقاومة نفوس جبارة قهرت الحصار من الداخل، وتغلبت عليه حتى لحظات الحسم.. لم تكن «ملحمة السبعين يوماً» معارك يومية فحسب، بل أكثر من ذلك بكثير، كانت سفراً متكاملاً من قصص البطولة النادرة، تجسدت فيها دروس نضالية عظيمة ومآثر خالدة، ذهب الجميع لمقارعة السماء، أثبتوا ب «أفواه البنادق» إن «صنعاء 68م غير صنعاء 48م»، فيما شعار «الجمهورية أو الموت» يأتي هادراً من خلف دخان الرصاص، ودوي المدافع، انتكست تحالفات «الرجعيين والمرتزقة »، بدأ حصار الجمهورية يشملهم هذه المرة، أعادوا النظر في واقعهم المأزوم، وغادروا.. قدمت تلك الملحمة أهداف الثورة في قالبها الأرقى، ومضمونها الأشمل، ومقصدها الحضاري الخلاق، وإعادة إعلام الناس «بتفاصيلها الغائبة» بقراءة مُختلفة، يُشكل تجذيراً وتنويراً (للثورة..) وتأصيلاً للوعي لدى الأجيال.. حتى لا تُصادر تلك «الروح الوثابة» من الذاكرة والوجدان.. النفس الطويل كانت «القضية اليمنية» حاضرة في مؤتمر القمة العربية بالخرطوم الذي عقد إثر نكسة حزيران، وكان من قراراته تشكيل لجنة ثلاثية للسلام، مكونة من مندوبين عن «السودان والعراق والمغرب»، تتركز أبرز مهامها في الإشراف على الانسحاب الكامل والعاجل للقوات المصرية، ووقف الإمدادات المادية والعسكرية للملكيين، وإجراء استفتاء شعبي عام يقرر فيه اليمنيون النظام الذي يرتضونه، وتُشكل على إثره حكومة ذات قاعدة عريضة من جميع الأطراف.. لم يكن للقيادة السياسية رأي في ذلك الاتفاق، مما أحدث شرخاً في العلاقات «اليمنية- المصرية»، وبمجرد وصول تلك اللجنة في 3 أكتوبر 67م رفض المشير السلال مقابلتها، فيما كانت ردة الفعل الشعبية غاضبة جداً، خرجت الجماهير بمظاهرة من المستشفى الجمهوري إلى مقر القيادة المصرية، وبمجرد وصولها تعرضت لإطلاق النار وسقط مجموعة من الشهداء، ثم تطور الوضع إلى اشتباكات بين قوات مصرية وقوات من الجيش اليمني، قتل وجرح فيها كثيرون.. فيما عادت «اللجنة الثلاثية» أدراجها خائبة مكتفية بالمراقبة عن بُعد.. بل وصل من استهزاء رئيسها «محمد محجوب» أن خاطب محسن العيني بالقول «هل أنا رئيس وزراء السودان أم اليمن.. وإني لا لأتساءل ما هي هذه اليمن وماذا تساوي..؟!!» «الاعتماد على الذات فضيلة» الشعور ذاته جسده اليمنيون من اللحظات الأولى لانسحاب القوات المصرية ومعها كل أسلحتها ومعداتها، وكان لزاماً على الجميع تحمل المسؤولية؛ لأن استعدادات الأعداء كانت مدروسة مسبقاً، وقد بدأت منذ أخذت مصر سياسة «النفس الطويل» كخطة عسكرية لقواتها في اليمن، حين اكتفت بحماية مثلث «صنعاء- تعز-الحديدة» فقط.. إلا أن هذه الخطة حسب توصيف علي محمد هاشم «نائب رئيس هيئة الأركان إبان الحصار» أعطت المرتزقة فرصة كبيرة لتركيز وتكثيف أنشطتهم في صفوف القبائل، بل ذهب أبعد من ذلك، واتهم القيادة المصرية بأنها لم تترك الجيش اليمني بعدده وأسلحته ونظامه؛ لأنها لم تكن لها نية جادة في بنائه، وأن أبناء هذا الشعب يعرفون هذه الحقيقة جيداً. انشقاق خطير من جهته العميد حمود ناجي «قائد سلاح المظلات حينها» أرجع التمهيدات الأولى للحصار إلى أغسطس من العام67م، حيث قام ملكيون بقطع طريق «الحديدة» وبسبب ذلك وبأوامر من السلال تم تجميع قوات عسكرية وشعبية.. وبعد استعادة المواقع تم أسر قائد الملكيين «أحمد السياغي» واقتيد إلى صنعاء وحوكم وأعدم، بيد أن تلك القوات ظلت هناك حتى بداية حصار صنعاء الفعلي. قامت «القوة الثالثة» بحركة «5 نوفمبر» فاعتبر البعض أنها جاءت تنفيذاً لقرارات وتوصيات مؤتمر الخرطوم، واجتمع لمواجهة ذلك قادة سياسيون وعسكريون وبعض قادة التكتلات الحزبية.. سُر الملكيون لتلك التباينات، وفسروه ب «الانشقاق الخطير» وبالفعل أجادوا استغلاله، ساعدهم في تكريس الاستفادة أكثر، انسحاب القوات المصرية، وضعف الجيش الجمهوري وعدم إمداده بالسلاح والذخائر والمؤن، ومغادرة الخبراء السوفييت صنعاء، حيث استغلت وسائل الإعلام تلك الصورة، ومن خلالها شُن هجوماً عنيفاً على الاتحاد السوفيتي لغرض عزل اليمن الجمهوري أكثر. اجتياح العاصمة صنعاء بات خيار الحسم الوحيد لدى الملكيين، عقدوا مؤتمر «الخزائن» وبدأت جحافلهم - بالفعل- قفزاتها من أقصى الشمال إلى أسوار صنعاء، وبالمال والسلاح والترغيب والتخويف استطاعوا الدخول إلى مناطق عدة.. في البدء سقطت صعدة، وحوصرت حجة، كما تم الاستحواذ على المعسكرات والمواقع التي انسحب منها المصريون، ورويداً رويداً بدأ الضغط يقترب أكثر فأكثر، وكانت بعض السلاسل الجبلية المحيطة بصنعاء نقطة التمركز الأولى لحصار مُطبق من جميع الاتجاهات. كراتين المانجو كانت التجمعات الجمهورية مُفككة الأوصال، وما إن اقترب الخطر، حتى أخذت تتقارب وتتجانس وتتبلور حول شعار «الجمهورية أو الموت»، ولم يترك للحوار والثرثرة السياسية مجال، كان الأقوى يفرض نفسه، والضعيف يقدر الموقف ويحتفظ بأحقاده حتى يصبح قوياً. وعلى الفور فتحت المخازن، ووزعت الذخائر على الوحدات، وبدأ التدريب الميداني في ساحات المدارس والمعسكرات، كما تحركت النخب السياسية تؤكد الرغبة في السلام، وتطلب العون، وتُشهد العالم على عدالة القضية. وقد أورد محسن العيني أن جمال عبد الناصر قال له: «لا تشددوا فنحن في ظروف عصيبة، وكل شيء يتوقف على شعبكم وقواتكم المسلحة..»، وقد وجه عبد الناصر أثناء الحصار بإرسال أكثر من مليون طلقة رصاص بكراتين المانجو حتى لا يلام على نقضه اتفاقية الخرطوم. كما لا ننسى دور الأشقاء في الجزائر، حيث قدِم الشريف بلقاسم إلى صنعاء والحصار على أوجه، وخطب في الجماهير بميدان التحرير وسلم شيكاً بمبلغ مليون دولار. وكذا سوريا، رغم موقفها العسكري الصعب أرسلت عشرة طيارين، والاتحاد السوفيتي قدم العتاد والوقود والغذاء والخبراء والطائرات، فيما الصين أرسلت مساعدات مادية وعسكرية، وظلت سفارتها وسفارة سوريا صامدتين داخل العاصمة طول فترة الحصار. المغامرون. لم يكن للبدر أي تأثير بين صفوف الملكيين، فيما عبدالله بن الحسن «صقر العروبة» هكذا كانوا يلقبونه كان المحرك الفعلي لعملية الحصار، يليه محمد بن الحسين، وقد ادعى هذا الأخير كما أفاد المؤرخ سلطان ناجي في كتابه «التاريخ العسكري لليمن» أنه استطاع تجميع غالبية القوات المهاجمة، حيث تم حشد حوالي «70,000» من رجال القبائل و«10,000» من الجنود النظاميين الذين تلقوا تدريبات عسكرية مكثفة على مختلف فنون القتال والأسلحة، وعلى أساليب حرب العصابات «الحرب الخاطفة»، إلى جانب وحدات عسكرية قيادية وفنية يتشكل قوامها من المرتزقة الأجانب الذين تجاوز عددهم «2000» شخص، تجمعوا من «بلجيكا وفرنسا وأمريكا وإيران وإسرائيل وجنوب أفريقيا». خطة الهجوم على صنعاء «الجنادل»، وضعها عدد من كبار القادة العسكريين المرتزقة وعلى رأسهم الجنرال الأمريكي «كوندي» الذي كان مسئولاً في المخابرات الأمريكية في الجزيرة العربية، والجنرال «بوب دينار»، والخبير البريطاني الجنرال «ديفيد سمايلي»، الذي عمل قائداً عاماً للجيش في سلطنة عمان، الذي أَلَّف كتاب «مهمة خاصة في الجزيرة العربية»، و «الميجر بنكلي» و «بيلي ماكلين» و «برنس أوف كنده» الذي أطلق على نفسه «عبدالرحمن كنده»، وغيرهم. وذكرت وثائق أن السلطات البريطانية تكفلت بتسليح حوالي«20,000» من خولان وحدها، وبعد شهر من الحصار أذاع راديو لندن أن الملكيين زودوا بأكبر صفقة سلاح قدرت بأربعمائة مليون جنية إسترليني. حرب سريعة يتلخص هدف «الجنادل» في السيطرة على صنعاء من خلال حرب سريعة وخاطفة لا تتعدى الأيام الأربعة، تُمهد بقطع طرق الإمداد والتموين، والانقضاض السريع على المواقع العسكرية، والضرب الشديد بالمدفعية بعيدة المدى علي المعسكرات والمطارات والمؤسسات الاقتصادية والإنتاجية والخدمية، والضرب العشوائي لنشر الذعر بين الأهالي. وتضمنت الخطة الهجوم على العاصمة من أربع جهات، محور شرقي بقيادة قاسم منصر، وغربي بقيادة احمد بن الحسين، وشمالي بقيادة علي بن إبراهيم، أما المحور الجنوبي بقيادة ناجي علي الغادر وقاسم سقل - كانت نهايته بلغم عند سفوح «نقم»- ومع كل محور عدد من الخبراء «المرتزقة» للتعامل مع الأسلحة المعقدة، والتي يعجز الملكيون عن استخدامها. دفاع ضيق الاستراتيجية الدفاعية للقوات الجمهورية كانت قائمة على مبدأ «الدفاع الضيق»، اللواء العاشر أحدث ألوية اليمن يدافع باستماته على الباب الغربي لصنعاء، وعلى الباب الشرقي لعب نفس الدور ألوية العروبة والوحدة، بينما كتائب المظلات والصاعقة تعمل على كل الجهات كقوة ذات فعالية خاصة سريعة وعاجلة، قادة تلك المواقع يملكون زمام المبادرة وحرية التصرف، وعلاقاتهم مع القيادات العليا علاقة تموينية فحسب، أو لتلقي المعلومات والتنسيق مع العمليات. التعاون بين كافة المواقع كان جيداً، ما إن يتعرض أحدهم للضغط والمباغتة تقوم المواقع المجاورة بتوجيه نيرانها صوب العدو وبسرعة. ومُشكلة هذه القوات حسب توصيف الصحفي المصري مكرم محمد أحمد في كتابه «الثورة جنوب الجزيرة» في أن أعدادها وإن مكنها من حماية أبواب المدينة، إلا أنها تُقصر عن إمكانية القيام بدور هجومي لدحر المتسللين في معركة حاسمة، وهذا حسب مراقبين كُثر «أمر بديهي» اشترطته محدودية الإمكانات المادية، يضاف إليه أن تلك القوات التي لا يزيد عدد أفرادها عن «4000» مقاتل لم تكن ذات وحدات منتظمة ومتكاملة، مما أدى إلى اختلال موازين القوى لصالح القوات المعادية بنسبة «7-1».