ليست الأسلحة النارية ولا حتى البيضاء (الجنابي، الخناجر) وحدها التي تقتل، ويستخدمها المجرمون في جرائمهم أياً كانت وكيفما كانت و ارتكبت.. وليست الجروح والإصابات ونزيف الدم تؤدي إلى موت الضحايا والمجنى عليهم بكل فئاتهم وشرائحهم.. لكن هناك نوع آخر وفريد من عالم القتل الذي يُنهي حياة الضحية على الفور دون أن يُصاب بعيار ناري أو جرح نازف بخنجر وآلة حادة، ولا حتى الخنق والشنق وغيرها من الأساليب الإجرامية المعروفة.. هذا النوع الذي يقضي على حياة الشخص تكرّر كثيراً ومراراً لم تُفارق بعض الحالات المسجّلة وقائع إجراميه بحتة، ولكنها اعتُبرت سبباً فيها، وبحدوثها المفاجئ للجميع بلا شك. فيُحكى أن رجلاً في العقد السابع من عمره كان يعيش ويقطن في إحدى مناطق إب الجميلة وترعرع فيها شاباً ورجلاً إلى أن وصل إلى أرذل العمر، فلم يسلم من الأمراض والكبر، ومتاعب الحياة التي بات يعيش فيها مع أولاده وأحفاده الذين أصبحوا شباناً وصار بعض من أولاده يتفاخرون بأحفادهم مع والدهم العجوز الذي كغير العادة يتباهى بصحته، وقوته وهو في هذا السن السبعيني. العجوز عرفه الجميع مهتماً بلبسه وأناقته في ارتداء اللبس الشعبي واليمني العريق الذي يفضّله الرجال كافة لا سيما و أن الجنبية اليمنية من أهم أركان ذلك التراث في اللبس ويعرفه الجميع تماماً. كانت الجنبية لا تخلو من لبس ذلك العجوز فيُقال إنه عشق جنبيته (الثمينة جداً) عشقاً لا مثيل له، وكان يغضبه كل من يطلب منه بيعها والحصول عليها بأية طريقة وأخرى، بل إنه يعتبر ذلك الكلام شيئاً معيباً، فهي للرجل تظهر هيبته، وهي جنبية الجد الذي حافظ عليها والده ووصلت إليه ومن خلاله ستصل إلى أكبر أولاده، وهكذا تستمر العملية المعروفة في عادات وتقاليد القبيلة اليمنية ومجتمعها المحافظ والواعي المتمسك بعادات وتقاليد الأجداد والآباء. توالت العروض الباهظة والكبيرة للرجل العجوز من البعض بهدف إقناعه في بيع الجنبية التابعة له، وأعقبت ذلك تحذيرات أولاده وأقاربه بعدم الإكثار في لبسها، والخروج بها وحيداً بدون مرافقة أحد منهم، فالوضع وقتها يجبره على الانصياع لنصح أولاده له. الوضع تمثّل في حالات السرقة والنهب التي تستهدف بعض الأشخاص وتكون جنابيهم هدفاً رئيسياً لتعرّضهم لتلك الجرائم والأفعال على أيدي مجرمين تخصصوا وامتهنوا مهنة الكسب غير المشروع كمهنة لهم، ومصدر رزق حرام، لا يهمهم كيف تتم وعلى حساب من وماذا يحدث ويتعرض له ضحاياهم؟. استمر الرجل السبعيني في عناده جاعلاً من ثقته بنفسه وحرصه على جنبيته لسنوات طويلة وسيلة لعدم التقبّل بالنصح والانصياع لنصائح أولاده وأقاربه، إلى أن وقع مالم يكن يتوقعه هو ويتوقعه غيره من أصحاب النصائح والنصح المتكرّر، وقع لقمة سائغة، وهدفاً سهلاً وسريعاً لأولئك المجرمين حينما اصطادوه ذلك اليوم، كضحية جديدة ولم تكن مجرد صدفة أو غنيمة عادية وسرقة معتادة، فالغنيمة ثمينة والمسروقات باهظة هي جنبية الرجل العجوز الذي تم السطو عليه وسرقة معشوقته وحبيبته الغالية، جنبيته التي لا مجال لسرد المزيد من حكايته معها وعلاقته بها وتعلّقه بها. بصعوبة بالغة عاد إلى المنزل وهناك أولاده من استقبلوه وهو قد وضع شاله على مكان جنبيته (جفنها المرتبط بعسيب الجنبية) لتغطية الفراغ الذي تركته معشوقته المسروقة، فلم يتنبّه أحد من أولاده وكل همّهم وقتها هو الاطمئنان على صحة والدهم الذي كان يومها في وضع حرج وحالته صعبة لأول مرة يشاهدونه بها. أدخلوه إلى غرفته وعلى سريره وضعوه، حاول أحدهم خلع عسيب الجنبية وكوته وشاله فرفض السماح له على غير العادة طبعاً فهو قد اعتاد على خلع ذلك بمجرد دخوله غرفته الخاصة، ومحاولة أحدهم القيام بذلك أغضبه على غير العادة مجدداً، ولا أحد يعرف سبب هذا الرفض سواه هو فقط وطبعاً كي لا ينكشف أمر مصيبته وتظهر فاجعته. لحظات قليلة من وضعه على سريره بوضعيته الطبيعية وملابسه يتفاجأ الجميع بنطقه الشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله ويفارق الحياه وسط ذهول الحاضرين جميعاً، فهبّوا إليه مسرعين لاحتضانه ونقله وإسعافه. أحدهم أبعد الشال من على مكانه وحاول خلع عسيبه وتمكّن من ذلك ولم ينتبه أحد لما كان قد أخفاه الرجل عن الجميع راحلاً عنهم وسرّه معه. تم إسعافه إلى المستشفى دون جدوى فقد فارق الحياة متوفياً وعلّل الطبيب المعالج سبب وفاته بالجلطة أو الذبحة الصدرية، الأهم أن ثمة أمراً ما هو ما تسبّب في قهره وموته ورحيله، صدمته كبيرة جداً ومصاب أسرته وأولاده جلل وعظيم برحيله ووفاته الغامض بأسبابه وحقيقته. عادوا به جثة هامدة إلى المنزل كي يجهزوا أمور الدفن وتوديعه الأخير إلى قبره، وقتها وعند إدخاله بل إعادته إلى غرفته كي يلقي الجميع، حاضرين وقادمين النظرة الأخيرة عليه اكتشف أحدهم أن جنبية الرجل مفقودة، مخفية غير موجودة وشاله مربوط بإحكام على عسيبها، رغم أن الأمر لم يكن عند الأغلبية مهماً بقدر الفاجعة التي هم فيها بموت والدهم وكبير أسرتهم. صرخ ذلك الإبن الذي كشف للحاضرين عدم وجود الجنبية قائلا:ً الجنبية هي من قتلت والدي، هي من أودت بحياته، هي من أنهته وأصابته بالذبحة الصدرية، وهي وهي وهي ..إلخ. تأكد للجميع ذلك الأمر وتقبّلوه وسارعوا في دفن العجوز الذي رحل مغلوباً ومقهوراً بسبب جريمة سرقته، وذهاب جنبيته في أيدي مجرمين بتلك الطريقة المهينة التي لم يحترموا فيها كُبر سنّه وشيخوخته وتوسله لهم بعدم إلحاق الأذى فيه. هكذا كانت نهاية الرجل بسبب جنبيته وتسبّبت في موته ورحيله الحزين ومعها عرفنا هذا النوع الجديد من القتل بأسلوب إجرامي جديد مختلف عن بقية الأساليب السابقة والمعتادة والمعروفة لدى الجميع، ولا حول ولا قوة إلا بالله.