من الصعب أن تتحدث عن حركة النقد العربي الحديث من دون أن تذكر الناقدة والكاتبة اللبنانية يمنى العيد . ذلك أن يمنى هي من بين الأسماء القليلة الجادة التي ارتفعت بالنقد الأدبي بعيداً عن الارتجال والكليشيهات الصحفية والاعتبارات الشخصية الضيقة . وهي منذ دراستها الأكاديمية المبكرة حول الرومانسية في شعر إلياس أبو شبكة وصولاً إلى أعمال أخرى مثل "تقنية السرد الروائي" و"في معرفة النص" و"الراوي: الموقع والشكل" لم تكف عن طرح الأسئلة العميقة حول طبيعة النص الإبداعي، كما حول مفهوم الإبداع والعلاقة بين النص والواقع . وإذا كانت يمنى قد استلهمت تجربتها النقدية بتأثير واضح من الواقعية الاشتراكية، التي تعبر عن خيارها العقائدي، فإنها مالبثت أن تحررت من سطوة المسبقات الإيديولوجية لتقارب البنيوية من غير زاوية من دون أن تظل أسيرة لمنطقها التفكيكي أو الشكلي . ذلك أنها ظلت بشكل أو بآخر، ترى إلى النص في إطاره الزمني ولحظته التاريخية، وترى له وظيفة أخرى وقيمة مضافة على الجمالية المجردة . على أن يمنى لم تخض رغم ذلك في مجال الكتابة الروائية، كما فعل الكثير من النقاد والدارسين والشعراء والفنانين في الآونة الأخيرة، وبخاصة في ظل ازدهار الرواية وسعة انتشارها في العالم . ولقد اكتفت قبل أعوام بنشر كتاب صغير يتصل بمدينتها صيدا، وبالممارسات "الإسرائيلية" الهمجية وغير الأخلاقية التي ارتكبها العدو أثناء اجتياحه للمدينة، بما جعل الكتاب أقرب إلى الوثيقة السياسية والتاريخية منه إلى العمل الأدبي . كان على قراء يمنى العيد أن ينتظروا سنوات بعد ذلك لكي يظفروا أخيراً بكتاب متميز في باب السرد تروي فيه صاحبة "الكتابة، تحول في التحول" فصولاً من سيرتها الشخصية تمتد بين ولادتها في سنة لم تحددها من الثلاثينات وحتى مابعد فترة الاجتياح "الإسرائيلي" للبنان في عام 1982 . قد أكون تعمدت من باب "الخبث" أو الدعابة أن أشير إلى تغييب يمنى لتاريخ ولادتها، ولكن السؤال عن ذلك يبقى جائزاً من دون شك خاصة بالنسبة للكاتبة التي لم تول أنوثتها الكثير من الاهتمام إلا في الفصول الأولى المتصلة بالطفولة والسابقة على البلوغ والنضج . وفي هذه الفصول بالذات يلتصق السرد بالأعماق الجوفية للمؤلفة وتبدو الطفولة قادرة على رفد اللغة بالكثير من الرؤى والمشاهد والمناخات الشاعرية والتفاصيل المثيرة، سواء بالنسبة لمدينتها صيدا التي تهديها العمل برمته، أو بالنسبة لتوصيف أماكن البدايات وطبيعة النشأة وترسيم حدود ذلك العالم الغارب الذي ينغرس كالوشم في جلد الكاتبة وروحها . وفي هذه الفصول تتحدث يمنى بصدق عن هواجسها كأنثى، مشيرة إلى أنها في الأساس قد أريد لها أن تكون تعويضاً عن أخيها الأكبر المتوفى عبدالحليم، ولذا فقد اختير لها اسم ذكوري لم تحبه هو "حكمت"، اسمها على الهوية . ولذا بدا اختيارها لاسمها "الحركي" البديل كما لو أنه استيلاد شخصي لذاتها الحرة ككاتبة وأنثى، رغم أن الصراع بين الهويتين ظل مستمراً داخل نفسها الممزقة بشكل دائم . على أن المفارقة في الكتاب السيرة تتجلى في كون يمنى التي انتصرت على حكمت في مجال اللغة والإبداع لم تنتصر عليها في رأيها في الأماكن المتصلة بهويتها الأنثوية ومشاعرها الحميمة، فبدت هذه الأنوثة متوارية خلف أكثر من قناع ومغلفة بوعي مسبق لدور الكاتبة الأدبي والسياسي والاجتماعي، على حساب الكشف الجريء لهواجس الأنثى وغرقانها داخل المجتمع الذكوري . وعدا عن إشارات قليلة إلى هذه الهواجس وإلى علاقتها العاطفية بالرجل الذي ارتبطت به، يتم طمس كل شيء آخر وتذهب السيرة لتتحدث عن الوضع السياسي والأمني الذي أحاط بالمؤلفة، وعن دراستها الأكاديمية وعملها في إدارة ثانوية صيدا وبصمتها الخاصة في المجال التربوي . تبدو السيرة بكاملها وكأنها تنشطر بين مستويين للسرد، الأول ملحمي وحميم ومشهدي، والثاني عقلاني وتسجيلي . في الأول يبدو الزمن بطيئاً ومتشعباً وبعيد الغور، وبخاصة في ما تعلق بإصابة حكمت الصغيرة على يد الفرنسيين أثناء تظاهرت الاستقلال وأثر ذلك في حياتها وأعماقها الجريحة . وفي الثاني تبدو الكتابة لحاقاً سريعاً بأحداث متفرقة ومقطعة الأوصال . وكان الأجدر بالمؤلفة أن تفرد لحياتها المتأخرة جزءاً مستقلاً من السرية . ورغم ذلك فإن الكتاب شيق وطلي اللغة وحافل بالوقائع بما يعرفنا بشكل أفضل إلى واحدة من أبرز الكاتبات العربيات في عصرنا الراهن .