جاءت صورة رئيس الحكومة التونسية حمادي الجبالي وهو يلقي كلمته مؤخراً مخالفة تماماً لمضمون الخطاب، فالمتابع لها رأى شخصية قوية واثقة لا تفارقها ابتسامة لطالما حيرت الرأي العام في تونس، بينما يجد المستمع في الخطاب تكراراً ركيكاً لنفس الكلمات بنفس الأسلوب وجرعة زائدة من اللامبالاة . اشرأبت الأعناق تنتظر الكشف عن التشكيلة الجديدة للحكومة، وسبقت ذلك مئات المقالات ترشح أسماء لحقائب وزارية وتحرم أسماء أخرى من وزاراتها، وتأكيد تمسك حركة النهضة الإسلامية بالوزارات السيادية حيناً والترويج لتخلي هذا الحزب عن بعض الوزارات ومنحها لشخصيات مستقلة عرفت بكفاءاتها العالية أحياناً أخرى . أطنب الجبالي في سرد ما لم تقم به الحكومة، وما فشلت "الترويكا" المتمسكة ب"شرعيتها الانتخابية" في تنفيذه، وأعاد على مسامع الحاضرين في الندوة، والأعين التي تعلقت بالشاشات الصغيرة في البيوت وفي المقاهي والإدارات المطالب والملفات التي قامت من أجلها الثورة والتي لم تفتح إلى الآن، والوعود التي عجت بها خطابات الأحزاب قبيل انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011 والتي لم يتحقق قيد أنملة منها، وكان ينطق الجمل بنفس الكلمات ونفس المعاني، بطرق مختلفة تشترك كلها في اجترار نفس الإخفاقات والفشل، وابتسامته الغامضة لا تفارقه، كمن يؤكد ضمنياً أنه بعد طول الانتظار سيأتي الفرج، وسيكون الإعلان عن التشكيلة النهائية للحكومة، وينتهي بذلك مسلسل التحوير الوزاري الممطط جداً والذي لم تقنع "الترويكا" إلى حد الآن الرأي العام والفاعلين في الساحة السياسية بجدواه وضرورته إن كانت له ضرورة . ثم قال رئيس الحكومة الانتقالية "تعذر علينا التوصل إلى اتفاق نهائي يحسم أمر التحوير الوزاري" . وسرعان ما وعد بتقديم التشكيلة الجديدة للحكومة للمجلس الوطني التأسيسي، مؤكداً أنه قد يلجأ إلى فرض هذه التشكيلة حتى في غياب التوافق حولها . تطمينات جاءت مفرغة المعاني مكشوفة الزيف الذي طفحت به تصريحات زادت في إحباط الشعب بمختلف شرائحه ومشاربه، وأكدت ما روجته مؤخراً العديد من الشخصيات السياسية المعارضة خاصة ومفاده أن "الترويكا وعلى رأسها حزب النهضة الإسلامي تراوغ وتماطل وتؤجل مسألة التحوير الوزاري لتعجيز المعارضة من ناحية، وإلهاء الرأي العام المتعطش بفضوله الغريزي لاكتشاف فريق الحكم الجديد عن مسألة كتابة الدستور في المقام الأول، وعديد المسائل الاجتماعية والاقتصادية الملحة من ناحية ثانية" . وازداد المأزق اتساعاً بعد أيام على كلام الجبالي، تهديد رئيس الجمهورية بالاستقالة، وكذلك تهديد أحزاب الائتلاف الحكومي بالانسحاب منها احتجاجاً على سلوك حزب النهضة داخل الحكومة وخارجها . احتمالات جعلها خطاب رئيس الحكومة تقرب جداً إلى الواقع، خاصة أنه أثبت موهبة خارقة في التلاعب بالكلمات واستعمال جمل فضفاضة تحتمل أكثر من تأويل، كما نجح في الإفلات من أسئلة الصحافيين التي كانت سطحية وقديمة ساعدت أمين عام حزب النهضة على التملص منها من دون عناء، وكانت إجاباته مرفوقة بابتسامات مبهمة زادت من حدة توتر المتابعين للخطاب . وأثارت كلمة حمادي الجبالي الذي عجز بعد نصف عام من الانتظار عن الإعلان على تشكيلة نهائية للحكومة ردود أفعال مستنكرة وغاضبة جداً، لئن اختلفت في بعض التفاصيل إلا أنها اتحدت كلها في أن حكومة "الترويكا" أثبتت من جديد فشلها الذريع وأنه لا بد من استقالتها . إذ قال الباجي قائد السبسي الوزير الأول الأسبق ورئيس "حزب نداء تونس" إن الكلمة التي ألقاها رئيس الحكومة حمادي الجبالي بشأن مسألة التحوير الوزاري جعلته يشعر بالإحباط، وأكد أنّه كان يفترض برئيس الحكومة أن يقدّم في كلمته الأسباب الخفية والحقيقية الكامنة وراء تعطيل مسألة التحوير الوزاري الجديد . وأوضح الباجي أن عدم موافقة المجلس التأسيسي على مقترح رئيس الحكومة حول التحوير الوزاري قد يؤدّي إلى استقالته وتعميق الأزمة في البلاد . وأكد السبسي أن "الحكومة الحالية فشلت في تحقيق أهداف الثورة ولم تف بوعودها حول التنمية الجهوية والتشغيل وصياغة الدستور وتنظيم الانتخابات" . وأورد شكري بلعيد، الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد وممثل الجبهة الشعبية، أن رئيس الحكومة الانتقالية قدم جملة من المطالب التي من المفترض أن يكون مسؤولاً عنها وعلى تنفيذها وليس طرحها، وقال بلعيد إن التحوير الوزاري لن يقع لافتقاده للمعنى والمبررات، وإن البلاد في حاجة إلى برنامج وطني وليس لتحوير وزاري، وطالب حكومة الجبالي بتقديم استقالتها . ولم يفوت "حزب التكتل من أجل العمل والحريات" الذي يرأسه الدكتور مصطفى بن جعفر فرصة التلويح بالانسحاب من "الترويكا" واستعمالها كورقة ضغط على بقية أطراف "الترويكا"، إذ لم يمرّ الاجتماع المفتوح الذي عقده المكتب السياسي للتكتل من دون أن يخلف تعليقات متباينة داخل الرأي العام التونسي . إذ كان أداء رئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر محل انتقاد مستمر ولاذع من نواب المعارضة، حيث رأوا فيه تماهياً كلياً مع الكتلة النيابية لحركة النهضة الحاكمة، والواقع هنا أن ابن جعفر فقد كثيراً من رمزيته القديمة كسياسي معتدل، وسقط أكثر من مرة في نوع من المحاباة المكشوفة لحليفه القوي . ويمكن القول إن رئاسة المجلس التأسيسي كانت منصباً ذا كلفة باهضة سحبت منه أهم أوراقه السياسية كعنصر حوار وتهدئة طالما اعترفت الساحة سابقاً برجاحة آرائه، وحداثية منطلقاته . ويبدو من الصعب الآن أن يفهم التلويح بالانسحاب من الترويكا على غير صيغته التكتيكية، حيث تعاظم الإحساس داخل فريق بن جعفر بأن "حركة النهضة" تبحث عن رفد سلطتها القائمة بلاعبين جدد قد يقلصون من موقعه في القسمة الوزارية . ويبدو أن ما اعتمل صلب الساحة السياسية التونسية مؤخراً من تفاهمات ومناورات ومشاورات وأوراق مخفية وأخرى مكشوفة حول مسألة التحوير الوزاري كان على حساب تطارح المهمة الجوهرية للمجلس التأسيسي، وهي تعجيل الدستور الجديد للبلاد وضبط مواعيد الاستحقاق الانتخابي المقبل، وهو ما يجعل وتيرة الاحتقان الشعبي في تصاعد تترجمه الاحتجاجات المتواصلة والإضرابات التي تنخر الاقتصاد وتشل السياحة التي قضى عليها العنف السياسي المتواصل . إذ خرج أبناء الجهات الداخلية المحرومة مؤخراً إلى الشارع مضربين محتجين، مطالبين بشيء من التنمية والعدالة الاجتماعية، أو مذكرين السلطة بأنها لم تنجز إلى الآن شيئاً من وعودها الانتخابية . وصار تتالي الاحتجاج الصارخ على الفقر بهذه المناطق التي انطلقت من أنهجها ومدنها الانتفاضة الشعبية التي تحولت إلى ثورة، مؤشراً واضحاً على تعطل كلي في الملف الاجتماعي للثورة التونسية . وطالت موجة العنف التي صارت الخبز اليومي للتونسي في الآونة الأخيرة زوايا ومقامات الأولياء، وتعرضت هذه المعالم الثقافية التراثية إلى حملة عنف ممنهجة، وتحجج مرتكبو ذلك بأنها "مظاهر شرك ووثنية يتوجب محوها تماماً" . ولئن كان ذلك ما تم التصريح به، فإن استهداف هذا المخزون الحضاري للبلاد يؤشر بوضوح إلى ظهور قوي للسلفية المتطرفة كمذهب سائد في تونس إلى جانب المذهب المالكي المهيمن تاريخياً في البلاد . وإلى جانب استهداف الرموز والمقامات، استهدفت كذلك شخصيات كفّرت واتهمت بشتى الاتهامات المسيئة لانتماءاتهم الدينية، وهو ما حصل للشيخ عبد الفتاح مورو الذي تعرض للعنف بالتزامن مع حادثة حرق مقام أبي سعيد الباجي . وجلية هنا العلاقة بين سعي السلفيين بحكم المعتقد المذهبي إلى طمس المعالم التراثية، وبين نزوعهم إلى تصفية أكثر الرموز انفتاحاً داخل منظومة الإسلام السياسي التونسي وهو الشيخ عبد الفتاح مورو الذي عبّر في مناسبات عدة عن خاصية الانفتاح الديني للإسلام وعن الصبغة التحررية للنمط المجتمعي التونسي، ولم يشفع له موقعه التنظيمي كنائب لرئيس حركة النهضة الحاكمة بحماية جسده من الحملات المتكررة للتيار التكفيري . وما يحدث اليوم من تداع إلى منطقة العنف الشديد، هو الكلفة الباهظة لتسييس المعتقد الديني، ذلك أن طهرية المعتقد وسنداته الروحية والأخلاقية تفقد كل مسوّغاتها عندما تصطدم بمنطقة السلطة، وهذا أمر قد نجد له أكثر من دليل في واقع التجربة التاريخية للإسلاميين قبل استلام السلطة وبعدها . ولئن كانت "الأفغنة" كلمة يتندّر بها التونسيون على سبيل التهكّم والمزاح، إلا أنها تتحوّل الآن إلى هاجس قويّ مع كلّ حملة على مهرجان أو هجمة على نزل أو غزوة لملهى أو تعنيف لسياسي أو صحفي أو شاعر أو فنان .