"الشعر هو المحاولة الخالدة للتعبير عن روح الأشياء" إميرسون لاتزال ثمة أصوات ترتفع - هنا أو هناك - زاعمة موات الشعر، منطلقة بذلك من معايناتها الجزئية، والآنية، لاسيما عندما يرى أصحابها أن هناك أجناساً إبداعية أخرى قد باتت تفرض هيمنتها، على نطاق واسع، في اللحظة التي بات الشعر ينحسر فيها، على صعيدي الإبداع والقراءة، في آن - حسب آرائهم - ولعلَّ هؤلاء يمضون في محاججاتهم إلى واقع تقدم بعض الفنون، على نحو ملحوظ، من خلال كثرة الاهتمام بها، وفي طليعتها الرواية، إذ راح بعض المغالين من أنصارها يديونونها، وكأنها الحالة الإبداعية التي نسفت بسواها من الأجناس الأدبية، وفي مقدمها الشعر . وما لاشك فيه أن الشعر قد سجل حضوره، كأحد أهم الفنون الإبداعية، منذ بداية الوعي الإنساني، كي يبلغ الذروة، وليكون الشاعرلسان حال شعبه، وأهله، بل ليكون ضمير هؤلاء عبر عهود كثيرة، منذ أن كان الشعر يتناقل شفاهاً، ومروراً بتلك المرحلة التي تم فيها توثيقه، وليس انتهاء بالمرحلة التي تفاعل فيها الشعرمع التطورالتقني، من أدوات طباعية، وأوعية نشر، حيث توطدت جسور تواصل المبدع مع جمهرات متلقيه، في كل مكان . واستمرَّ الشعر، منذ ولادة القصيدة الأولى، للشاعر الأول، وحتى آخر قصيدة تكتب الآن، ليقدم نفسه كفن إنساني راق، لايكتفي بتوثيق اللحظة التي يعيشها الإنسان، بل إنه لا يفتأ يحقق وظائفه المرهونة به، الجمالية منها، والروحية، ليكون بذلك حاجة إنسانية عليا، لاسيما وأن وجود، في صورته الحقيقية، مؤشر إيجابي على أن العالم لايزال معافى، وإن وشائج الجمال هي التي تربط بين الناس، كما أن غيابه ليعني أننا في حضرة قفر روحي، وهو بهذا يعد إحدى الضرورارت الرئيسة التي لابد منها، مثل الماء، والهواء، والرغيف . لقد عكس الشعر، منذ بداية تاريخه الذي يكاد يكون تاريخ وعي الإنسان، وتاريخ تمكنه من التفاعل مع محيطه العام، حياة اجتماعية، وطبيعة، وبات يضع الخط الفاصل بين الواقع والحلم، كي يجمع بينهما، من خلال اللجوء إلى المخيلة، لتغدو جزءاً من معادلته الجمالية التي يستقرئ بوساطتها وجوده، في أفراحه، وأحزانه، وفي إنجازاته وإخفاقاته، في ضعفه وبأسه، في غضبه، وهيامه، حيث باتت القصيدة حاضنة كل ذلك، ملحمته، وسفره، وأثره الإبداعي الذي لا يمحى . لقد ولدت فنون كثيرة، سواء أكانت تلك التي رافقته، أو تلك التي واكبته، أو حتى تلك التي تلت حضوره، بيد أن كل هاتيك الفنون لم تتلاغ البتة، بل أن كلاً منها كان يعزز الآخر، إذ أن ولادة المسرح أو القصة، أوالرواية، أوالموسيقا أو التشكيل، كما ولادة بعض الفنون المستحدثة التي يتم الحديث عنها، كما السينما، كان يعزِّز حضور سواها، ولا يمكن للقصة القصيرة أن تكون على حساب القصيدة أو العكس، كما أن القصيدة تركت، طوال مراحل دورتها الإبداعية المجال أمام سواها من الفنون الإبداعية، كي تتطور، بل أنها كانت تستحثها على تحقيق الإنجازات الكبيرة، لأن في مثل هذه الإنجازات ما يفتح لها المجال كي تتفاعل مع بعضها بعضاً، على أكمل صورة، وأحسن حالة . ولم يبق الأمر في حدود التفاعل، بل إن بعض هذه الفنون بات يستفيد من الآخر، وقدكان الشعرأكبرمن تمت الاستفادة منه، بين هذه الفنون الإبداعية جميعها، وكأن فيه إكسيرالإبداع الأول، يستعين به السرد، كما تستعين به السينما، وقد نستكشف بعض ملامحه في ابتسامة طفل، أو من خلال حركة ممثل، أو عبر هندسة خشبة المسرح، كما قد نكتشفها في ألق وبهاء وأنداء الوردة، أو انثيالات الهطل، أو إشراقة الشمس، أوطلوع القمر، أو ترسيمة قوس قزح، وغيرها من خزان جماليات الطبيعة . إن اندياح الشعرية، وانزياحها إلى مجالات إبداعية كثيرة، بات يفتح الأبواب على مصاريعها أمامها، وهو ما يجعلنا نعيد النظر في مفهوم الشعر الذي بات يكتسب بذلك مراتب جديدة، وهو ما بات ينعكس على القصيدة ذاتها، حيث بتنا نكتشف جماليات جديدة فيها، ما يضمن حضورها، ويرسخ أهميتها، ويؤكد على بلوغ الحاجة إليه .