علا أحد يجرؤ، ولا أي دولة، لكن كوريا الشمالية فعلتها. أبلغت الولاياتالمتحدة بكل الوسائل أنها ستضربها. أعلن جيشها أنه تلقى «تصريحاً» من قيادته لتوجيه ضربة نووية لأميركا. ما السر؟ قائد شاب، متهوّر وبلا خبرة، لم يتهيأ للسلطة، وورث عن جدّه ثم والده وضعاً مضطرباً تعود جذوره إلى أوائل خمسينيات القرن الماضي، قبل أن يولد، غداة تقسيم كوريا إلى: شمالية وجدت نفسها سياسياً في الجناح الصيني من «المعسكر الشرقي» وجنوبية في الجناح الأميركي من «المعسكر الغربي». في المقابل، رئيس أميركي يُوصف بأنه متردد، وهو بالتأكيد غير مندفع عسكرياً، وأسهم نيله جائزة نوبل الاستباقية للسلام -قبل أن ينجز شيئاً للسلام- في جعله أكثر تمسكاً بالحلول الدبلوماسية. لكن لديه ترسانة وعشرات القطع البحرية في أرجاء المنطقة، فضلاً عن جيوش في كوريا الجنوبية واليابان وغوام وهاواي، وها هو قد أرسل بعضاً من أحدث القاذفات (بي 52 خصوصا الشبَحيتين بي 2 وأف 22) إلى مناورات واسعة مع سول، أي ما يكفي لاستفزاز بيونج يانج التي كانت أعلنت أنها تعتبر هذه المناورات بمثابة عدوان عليها. هذه بداية سيئة لهروب باراك أوباما من الشرق الأوسط وتوجّهه نحو المحيط الهادي وجنوب شرق آسيا، حيث يريد إعادة صياغة الاستراتيجية الأميركية بمواجهة الصين، لكنها بداية أسوأ لكيم جونغ أون الذي قد يقود بلاده ومنطقته إلى كارثة، ففي سعيه إلى الاعتراف بكوريا الشمالية دولة نووية والكفّ عن وضعها تحت التهديد والعقوبات يجازف باقتيادها إلى نوع من الانتحار، لكن اللافت أن المجتمع الدولي لا يأخذ تهديداته بعد على محمل الجد. أعلن رسمياً عدم التزامه هدنة 1953 التي أنهت الحرب وقسمت كوريا، تحرّك جيشه جنوباً، نُصبت صواريخ طويلة المدى، أُنذرت السفارات بضرورة التحضير لإجلاء رعاياها بحلول العاشر من أبريل، وُضع العمال الجنوبيون في مصنع كايسونج المشترك أمام ضرورة المغادرة.. ومع ذلك لا يبدو أن أحداً يريد أن يصدّق أنها الحرب. يعود السبب إلى أن أسلافه، وآخرهم والده كيم جونغ إيل، استخدموا تكتيك حافة الهاوية نفسه، ووصلوا إلى شفير الحرب مراراً، بغية التوصل إلى اتفاقات كاملة وشاملة مع الغرب تضمن احتفاظ بيونج يانج بالأسلحة التي طوّرتها لقاء اتفاق سلام مع الولاياتالمتحدة وعلاقات عادية واستثمارات ومساعدات. فهي تريد نفسها دولة نووية لكن شعبها يعيش تحت خط الفقر وفي شبه مجاعة مكتومة أو مقنّعة، بدليل أن دول الغرب ترسل إليها مساعدات غذائية وتشتبه بأن نخب الحكم العسكرية والحزبية تستولي على هذه المساعدات وتحجبها عن الشعب. لذلك فإن المعادلة التي تطرحها بيونج يانج لا تصلح لتحقيق الهدف، تحديداً بسبب وجود التهديد النووي. ومنذ منتصف التسعينيات تدور محادثات سداسية متقطّعة لإقناع بيونج يانج بالتخلي عن برنامجها النووي لقاء الحوافز التي تطمح إليها، وأمكن بالفعل أكثر من مرة التوصل إلى بدايات اتفاق أُجهضت قبيل توقيعها، أو حتى إلى اتفاق كما في العام 2007، ما شجّع كيم جونغ إيل على إغلاق مفاعل يونغيبون النووي، إلا أن الخطوات التالية لتنفيذ الاتفاق لم تتم، وهنا تقع المسؤولية على الطرفين. والحاصل الآن أن كيم جونغ أون أعاد تنشيط هذا المفاعل في إطار خطة التصعيد التي يتّبعها حالياً. في كل مرّة كانت خطة التأزيم المتدرّج تصل إلى ذروتها قبل أن ترضخ بيونج يانج للتدخلات، وبالأخص للتحذيرات الصينية التي غالباً ما تأتي متأخرة. وفي كل مرّة كانت الأزمة تنتهي بشيوع آمال لديها بإنهاء عزلتها الدولية -لكن بشروطها- ثم لا تلبث أن تتلاشى. ويعتبر المراقبون أن الصين تتعمّد حالياً البرود، رغم السخط والسخونة في العديد من العواصم المجاورة ومنها موسكو وطوكيو، لأنها تريد اختبار السياسة الأميركية الجديدة، ذاك أن بكين أيضاً لا تنظر بارتياح إلى المناورات الأميركية- الكورية ونوعية الأسلحة التي تستخدم فيها. فإذا انزلقت المواجهة إلى اشتباك، أو انتهت من احتكاك عسكري، تضمن الصين أن بيونج يانج ستستقرّ أكثر في كنفها لتبقى ورقة مساومة استراتيجية في يدها. فهذا مصير الدول الواقعة على التماس بين الدول الكبرى. غير أن هذا المفهوم التقليدي، المنتمي إلى عقلية الحرب الباردة وعقائدها العسكرية، لم يُظهر فشله فحسب وإنما أكّد قدرته على إحداث كوارث. صحيح أنه يُعزى إلى الصراع الدائم بين الدول الكبرى، لكنه يستند خصوصاً إلى أدوات إقليمية ومحلية كصيغة الحكم الشمولي الذي تعيش كوريا الشمالية تحت سيطرته منذ سبعة عقود، أو ما يماثله في مناطق أخرى. وكوريا لم تقسّم جغرافياً فقط بل تقاسمها النفوذ الدولي الذي برهن أنه غير مهتم بتطبيع أوضاعها ولعله يخشى وجودها في أسواق التكنولوجيا في حال تكامل شمالها وجنوبها اقتصادياً. المهم، حرب أو لا حرب. واشنطن وسول وطوكيو، كما بيونج يانج، تتصرّف كأن المواجهة حاصلة. فالمناورات مستمرّة من دون تغيير مع شيء من التحدي المدروس الذي لا يعطي كوريا الشمالية ذريعة لتفقد صوابها، فيما يتعامل مجلس الأمن معها على أنها البادئة بإعلان الحرب، ولن يكتفي بتشديد العقوبات عليها إذا أقدمت على تفجير الوضع. ولدى بيونج مخرج للاستهلاك الداخلي، فهي تستطيع الادعاء بأن هدف المناورات كان الاعتداء عليها لكن ردعها النووي أحبطه. لكن هذه الأزمة يجب أن تحفز الدول الكبرى على مقاربة المسألة الكورية بمنظور سلمي طويل الأمد، بل يجب أن يستفاد من دروسها في التفاوض مع إيران.