حينما حدّث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابَهُ عن الفتن التي ستصيب أمته - عليه الصلاة والسلام - كان مشفقاً عليهم، وكان صحابته - رضوان الله عليهم - يصغون إليه باهتمام؛ لأنهم يعلمون أنه لا ينطق عن الهوى، وأن ما يقوله واقعٌ حقاً؛ لذا سألوه - صلى الله عليه وسلم - عن الحلول إذا ما أدركهم ذلك الزمن المليء بالفتن. فقال الرسول الأمين الحريص بالمؤمنين الرؤوف بهم "كونوا أحلاس بيوتكم"، كما رواه ابن أبي الدنيا عن مكحول وَلِأَبِي دَاوُدَ في سننه عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فِتَنًا كَقِطَعِ اَللَّيْلِ اَلْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ اَلرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا، وَيُصْبِحُ كَافِرًا. اَلْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ اَلْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ اَلسَّاعِي. قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اَللَّه؟ قَالَ: كُونُوا أَحْلَاسَ بُيُوتِكُم". لذا تجنب عدد كبير من الصحابة الفتنة حين أطلت برأسها في أواخر عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ولم يشاركوا فيها، وبعضهم تذكر حديث الرسول الكريم، وبعضهم نسيه؛ لأن الفتن إذا ما ظهرت في قوم استولت على عقولهم وأفكارهم. ولا شك أن زماننا هذا هو من أسوأ الأزمنة التي يمر بها عالمنا العربي والإسلامي؛ إذ الانقسام، والاقتتال، والتنابذ، والتخوين، والتآمر، والقتل على الهوية، واستباحة الدماء باسم الدين والمذهب، والركون إلى العدو لقتل الأخ والصديق، والاعتماد على ما نسمع مما يتم توجيهه من إعلام موجَّه، لا يعتمد على المصداقية، وننسى حديث الرسول الكريم عن حفص بن عاصم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كفى بالمرء كذباً أن يحدِّث بكل ما سمع" رواه مسلم. ومثله ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أن من أكبر الرزايا أن يستحل المسلم دم أخيه بشبهة، علماً بأن المسلم لا يزال في سعة من أمره ما لم يصب دماً حراماً، وأن الإنسان بنيان الله، ملعون من هدم هذا البنيان. ولعمري، إن استحلال الدماء المحرمة لهي أكبر الآثام، وهي أكبر صور الإفساد في الأرض؛ لذا جاء القرآن الكريم ناهياً، ومحذراً، ومتوعداً قاتل النفس المحرمة، يقول الحق سبحانه في سورة النساء {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}. لقد أساء المسلمون لدينهم حين أظهروه بأنه دين القتل، والتدمير، والعنف، وكذلك أساء العرب إلى تاريخهم، حين رآهم العالم أمة متفرقة، لم تستطع لغتهم الواحدة أن تجمعهم، ولا دينهم الحق أن يوحدهم، ولا مصالحهم المشتركة أن تقربهم؛ فأصبحوا مثال الفرقة وعنوان التناحر، وموطن الفتن؛ ما جعل أعداءهم لا يخشون سطوتهم، ولا يرعون حرمتهم، ولا يهابون جانبهم، فانطبق عليهم ما عناه الشاعر حين قال: وثنٌ تضيق برجسه الأوثانُ وفريسةٌ تبكي لها العقبانُ إن أعداء الأمة العربية والإسلامية لن يتعبوا أنفسهم فيمن ينفذ خططهم؛ لأن أبناء هذه الأمة جاهزون لخدمة الأعداء بالمال والنفس، من خلال استغلال هذه الفتن، والخوض فيها بالسنان واللسان، دون وعي أو مراعاة لأمر الله بعدم المشاركة فيها، ونهي الرسول الكريم عن الوقوع بها. لذا فإن المخرج من ذلك كله لن نجده في قرارات هيئة الأممالمتحدة، ولا القانون الدولي، ولا قنابل الغاز المسيل للدموع، ولا الرصاص، ولا الإعلام الموجَّه، الذي يصب الزيت على النار، ابتغاء الفتنة والإثارة، بل في وصية الرسول الأمين الرؤوف بأمته الذي هو أرحم بهم من أنفسهم، الذي قال الله تعالى عنه {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}، الذي أوصى أمته باعتزال الفتن، وعدم إذكاء نارها حين قال صلى الله عليه وسلم "كونوا أحلاس بيوتكم". فهل يعلمُ أبناء هذه الأمة ما هم فيه من فتنة، وخطورة ما يقدمون عليه من إشعال نار الخصام، وحرق الأخضر واليابس، في كل من سوريا والعراق، واليمن، والصومال، وليبيا، وتونس، ومصر، ومالي، والباكستان، وأفغانستان، و.. و.. و.. والقائمة تطول. نسأل الله أن يلهم هذه الأمة أمر رشدها، وأن يعيد إليها استقرارها وأمنها، إنه على كل شيء قدير.