الرئيس الزُبيدي يهنئ القيادة السعودية باليوم الوطني ال95    منارة عدن المنسية.. إعادة ترميم الفندق واجب وطني    مشاركة الرئيس الزبيدي في الأروقة الدولية : دلالات ومعاني ترسم ملامح جديده لمستقبل الجنوب    عرض شعبي لقوات التعبئة في حجة بمناسبة ذكرى ثورة 21 سبتمبر    جامعة 21 سبتمبر: "في ذكرى الثورة.. ثابتون مع غزة والأقصى    رئيس انتقالي لحج يناقش مع مدير عام مديرية تبن تطوير المشاريع الخدمية    صحة بنجلادش : وفاة 12 شخصًا وإصابة 740 آخرين بحمى الضنك    نائب وزير الشباب والرياضة يهنئ قائد الثورة والرئيس المشاط بثورة 21 سبتمبر    لوبيز يغيب عن برشلونة لمدة ثلاثة أسابيع بسبب الإصابة    حزب الإصلاح يحمي قتلة "إفتهان المشهري" في تعز    التحويلات المالية للمغتربين ودورها في الاقتصاد    أمن الأمانة يرفع الجاهزية تحسبا لاي طارئ    مباحث حجة تكشف غموض احد اخطر جرائم السرقات    11 عاما على «نكبة» اليمن.. هل بدأت رحلة انهيار الحوثيين؟    فريق التوجيه والرقابة الرئاسي يزور كلية المجتمع ونادي النصر الرياضي بالضالع    مصر تفوز بتنظيم كأس العالم للدارتس 2027 في شرم الشيخ    اجتماع يناقش الوضع المائي لحوض تعز    وقفة في مديرية صرواح بمأرب إحتفاء بالعيد ال11 لثورة 21 سبتمبر    تعز..تكدس النفايات ينذر بكارثة ومكتب الصحة يسجل 86 إصابة بالكوليرا خلال 48 ساعة    وزارة الاقتصاد: توطين الصناعات حجر الزاوية لبناء الاقتصاد    ماذا تعرف عن جائزة الكرة الذهبية؟    القاتل الصامت يودي بحياة خمسة أطفال من أسرة واحدة في محافظة إب    قبيلة الخراشي بصعدة تقدم قافلة رمان للمنطقة العسكرية الخامسة    لقاء تشاوري بين النيابة العامة وهيئة الأراضي لمناقشة قضايا أملاك الدولة بالوادي والصحراء    اثنان من الحكام اليمنيين ضمن الطاقم التحكيمي لبطولة كأس الخليج للناشئين    المحافظ بن ماضي يستقبل نجوم شعب حضرموت أبطال ثلاثية الموسم السلوي ويشيد بإنجازهم التاريخي    انتقالي مديرية الضالع يكرم طلاب الثانوية المتفوقين للعام الدراسي 2024/2025    صحة البيئة بالمنصورة تشن حملة واسعة لسحب وإتلاف "شمة الحوت" من الأسواق    نائب وزير الإعلام والثقافة والسياحة ومدير صيرة يتفقدان أعمال تأهيل سينما أروى بصيرة    سوريا تستسلم.. ونحن وراءها؟    وفاة خمس نساء من أسرة واحدة غرقا في أبين    عدن.. البنك المركزي يكشف عن استخدامات المنحة السعودية ومستقبل أسعار الصرف خلال الفترة القادمة    خبير طقس: اضطراب مداري يتجه تاثيره خلال الساعات القادمة نحو خليج عدن    هبوط جماعي للأسهم الأوروبية!    في برقية رفعها إلى قائد الثورة والرئيس المشاط بالعيد الحادي عشر لثورة 21 سبتمبر..    "إنهم يقومون بكل الأعمال القذرة نيابة عنا"    اجتماع للجان الفنية لدمج وتحديث الهياكل التنظيمية لوحدات الخدمة برئاسة الحوالي    براءة العلويين من البيع والتنازل عن الجولان لإسرائيل    الراحلون دون وداع۔۔۔    ثورة 21 سبتمبر إنجازات عسكرية وسياسية استثنائية    برشلونة يواصل ملاحقة ريال مدريد    السعودية تسرق لحن زامل يمني شهير "ما نبالي" في عيدها الوطني    قاضي: جريمة اغتيال المشهري خطط لها باتقان ونفذها أكثر من شخص    أحتدام شراسة المنافسة في نهائي "بيسان " بين "ابناء المدينة"و"شباب اريافها".. !    قراءة في كتاب دليل السراة في الفن والأدب اليمني لمصطفى راجح    وزارة الإعلام تطلق مسابقة "أجمل صورة للعلم الوطني" للموسم الثاني    الوفد الحكومي برئاسة لملس يختتم زيارته إلى مدينة شنغهاي بالصين    عبد الملك في رحاب الملك    التعايش الإنساني.. خيار البقاء    على خلفية إضراب عمّال النظافة وهطول الأمطار.. شوارع تعز تتحول إلى مستنقعات ومخاوف من تفشّي الأوبئة    على خلفية إضراب عمّال النظافة وهطول الأمطار.. شوارع تعز تتحول إلى مستنقعات ومخاوف من تفشّي الأوبئة    الكوليرا تفتك ب2500 شخصًا في السودان    موت يا حمار    العرب أمة بلا روح العروبة: صناعة الحاكم الغريب    خواطر سرية..( الحبر الأحمر )    في محراب النفس المترعة..    بدء أعمال المؤتمر الدولي الثالث للرسول الأعظم في صنعاء    العليمي وشرعية الأعمى في بيت من لحم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية السبية .. الجزء العشرون بقلم عبدالحليم ابو حجاج
نشر في الجنوب ميديا يوم 09 - 02 - 2014


20
شمس الأصيل تلف القرية بعباءتها الذهبية ، فتتزين الأرض ، وتُظهر محاسنها ، وتعرض مفاتنها ، فتكتحل العيون بمرآى يسرُّ الناظرين ويأسرهم . كان المنظر لفرس مُطَهَّمَة ، تتهادى برفق ودلال ، تعتلي صهوتها فرس القرية الأصيل . بدتْ سلمى وضَّاحة الجبين ، متوردة الخدين ، باسمة الثغر، تردُّ بيدها تحية المحبة والأشواق لمن يرسلها إليها من إنسان وأشجار وأطيار ، ولم تكن تستطيع أن تُخفي مسحة من الحزن كانت تطفو على وجهها . كان يرافقها إثنان مِن خَدَم القصر على جواديهما ، يحرسانها عن ذات اليمين وعن ذات الشمال: أحدهما عباس الذي كان فرحاً مسروراً ، أما الآخر فهو شاب من قرية " زيتا " وكان أيضا مبتهجاً محبوراً .
رفعت سلمى رأسها تنظر إلى السماء تتنسم الهواء ، وهي لا تعلم تعليلاً لخروجها من محبسها ، وإنها لم ترغب في تلك اللحظات التي ضحكتْ لها الأزاهير البرية أن تشغل نفسها بأفكار تبعدها عن فرحتها بالعودة ، أو تصرفها عن الاستمتاع بحرارة اللقاء بالأهل والأحبة . ويزداد موكب سلمى عدداً كلما مرَّت بنفر من أهل قريتها ، فتراهم يُهرعون إليها مهنئين ، مشاركين إياها فرحتها وسرورها .
وما إن وصل الموكب مشارف القرية حتى خرج أهلها يفتحون لها أحضانهم ، وقد ارتفعت تهاليل الرجال وزغاريد النساء ، وتصاعدت صياحات الأطفال ؛ كل يحتفي بها ويضمها بعينيه ويزف إليها التهنئة بسلامة العودة ، ويهنئ نفسه بإزاحة جدار الخوف والرعب الذي أقامه العصفوري في ديارهم ليل نهار. ها هي سلمى تعود إليهم وقد عاد معها الأمان والاطمئنان على حياتهم وأرزاقهم وصوْن أنفسهم وممتلكاتهم .
ترجَّلتْ سلمى ، ودلفتْ إلى دارها وقد تلقفها الحاج زيدان وزوجه وأبناؤهما بالأحضان ، فكان لقاء حاراً دامعاً ، وما هي إلا لحظات حتى دخل عليها أبوها وأمها ، وكان لقاء مُثيراً ، فقد اختلط فيه البكاء بالابتسام ، واكتظ صحن الدار بالأهل والجيران ، وكان عرساً قروياً قد أقامه قدوم سلمى بعد غياب طويل .
ويغافلهم عباس ويمتطي صهوة جواده وينطلق مسرعاً ، ويأخذ طريقه باتجاه قرية " دير نخَّاس" ، وقد أثار خلفه غباراً كثيفاً حجبه عن العيون، ولا يعلم أحد إلى أين وجهته .
حلَّ المساء وهبط الهناء على القرية ، وأنار القمر بضيائه طرقاتها وحاراتها ، وابتنى الشباب فسطاطاً كبيراً جلس فيه شيوخ القرية ورجالها ، وانتصبتْ حلقات الدبكة ، وأُقيم بعدها سامر أشعل قريحة الشعراء والمغنِّين ، وتوافد على المجلس رجال القرية من الحارتين ، وبعد أن هدأ السُّمَّار، واستراحت الشبابة والطبلة ، قال الشيخ عبد السلام :
- ياه ! كنتُ أعتقد أنَّ الفرح قد نسينا ، وتخطَّى قريتنا .
قال الحاج حسين أبو النور:
- تمام فرحتنا برجوع سعيد .
وسأل المختار أبو سفيان :
- ما الذي دفع العصفوري إلى إطلاق سلمى ؟.
ويردُّ الشيخ زيدان :
- يعلم الله !.
ويقول الشيخ رجب البكري :
- إنَّ الله يهدي من يشاء .
ويقول الحاج حسين :
- العصفوري مولاه الشيطان .
ويردُّ الشيخ البكري بعصبية ظاهرة :
- " لا تقنطوا من رحمة الله " .
ويقول الشيخ زيدان :
- مازال قلبي يحدثني بشيء من الخوف أنَّ أمراً جللاً سوف يحدث .
وهنا ينبري المختار أبو فوَّاز يشارك القوم حديثهم ، وقد التزم الصمت طويلاً :
- لا تخشَ شيئاً يا شيخ زيدان ما دام سعيد ورفاقه يصولون ويجولون .
ويستيقظ القوم بعد أن غلب على كثير منهم النعاس ، وتتشنف آذانهم لسماع المزيد من المختار أبي فوَّاز لعلمهم بمدى العلاقة الوطيدة التي تربطه بالشيخ العصفوري والتي تتيح له الاطلاع على خفايا الأمور.
- زدنا يا مختار إن كان لديك زيادة .
- قد لا تسمعون لي ، وهذا دأبكم .
- أنت واحد من أهل هذه القرية ، ولا نهون عليك .
وعقَّب الشيخ عبد السلام مخاطباً المختار أبا فوَّاز:
- لا تحبس عداوتك لنا في قلبك ، إلا إذا كنتَ وما زلتَ تعادينا .
- لقد دفعتموني إلى الانشقاق عنكم ، ولو أني عدو لكم لكنتُ قد كشفتُ للعصفوري سر المهاجمين ؛ قاتلي نوَّاف وخاطفي عزام ، ولكني لم أفعل ، أتعرفون لماذا ؟ لأني لا أفرط في شرف القرية ، فلستُ كما توهم بعض الجهلاء منكم .
- بارك الله فيك يا مختار! ثم ماذا بعد ذلك ؟.
- سيعود إليكم سعيد ، وتهنأ به داره .
انفرجت الأسارير وأخذ الرجال ينظرون إلى بعضهم فرحين ، وقبل أن يفيقوا من حلاوة هذا التصريح الذي أحيا فيهم الأمل ، نهض المختار أبو فوَّاز وأصلح العباءة على كتفيه وقال مودعاً :
- لا تسألوا كيف ؟ ومتى ؟. إنه عائد إليكم قريباً.... تصبحون بخير.
ويغادر أبو فوَّاز ، ويغادر مِن بعده الحاضرون أفراداً وجماعات ، ثم يدخل الشيخ زيدان داره ، ويُنزل رتاج الباب ، فيُحكم إغلاقه ويتهيأ للنوم ، ولكنه ما إن ألقى جسده على فِراشه حتى سمع طَرْقاً رفيقاً على الباب . أحس بالخوف، ولكنه تجرَّع الطمأنينة ، وتلكأ قليلاً ، ولكنَّ الطرق يتواصل ، فينهض إلى الباب ويسأل في خفوت :
- من الطارق ؟.
- أنا سعيد.... افتح الباب يا أبي....
وانفتح الباب ، وغاب الاثنان عن نفسيهما في عناق طويل ، وتندفع الأم والإخوة وترتفع حرارة اللقاء ، ويذوب المكان والزمان بلقاء سلمى بسعيدها ، ويروي لهم سعيد رحلة العذاب والمعاناة التي لقيها منذ أن أتيح له الخروج من سجنه ، ليس هرباً منه كما أُشيع ، ولكنْ بإطلاق سراحه ، فاطمأنت قلوبهم بأنَّ رجال الدَّرَك لن يلاحقوه ، وأنه ليس مطلوباً للقانون . وأصغَى جميعهم إلى صوت الرصاص الذي ينطلق بكثافة من مكان غير قريب ، فقرأ سعيد المخاوف على صفحات الوجوه ، وقال وقد أضاء وجهه بابتسام يشيع الاطمئنان في القلوب ، ويطرد أذيال الرَّوع الذي هاجم النفوس :
- إنهم رجال العصفوري يبتهجون بعودة عزام .
وتسأل سلمى على استحياء :
- وهل أطلقتم عزام ؟.
فيبتسم لها قائلاً :
- نعم ، ما إن وصلَنا عباس بخبر عودتك إلى بيتك حتى أرسلنا عزام بحراسة رجالنا عائداً إلى بيته مُعزَّزاً مُكرَّماً .
قالت سلمى بصوت خافت ، فيه التياع وفيه انكسار دفين :
- فلتهنأ بعودته أمه ، لقد كانت ودودة معي ، عطوفة عليَّ ، تحمل همي
في صدرها حِملاً ثقيلاً ، ولطالما سعتْ لدَى العصفوري من أجل حريتي .
* * * * *
ها هما سعيد وسلمى قد ضمهما معبد الحب بعد طول غياب ، وأيقن كلاهما أنَّ وعد السماء لا يطول انتظاره ، وأنَّ وجه الربيع يتجدد فيه الإنبات والإزهار ، فتتأرج الأرض بطيب روائحه . وها هو الزمان يرفو لهما قبة تستريح تحتها الجسوم ، وتنعم في ظلالها العيون ، وتنفرج الشفاه فتتقافز منها الكلمات ويتناثر منها عطر رقيق ، ويتضوع شذى يُغري بالقُبل ، وتطل من فوق رأسيهما مشاعل تضيء معابد الحب ،
ودروباً تسير فيها القوافل الظاعنة بالعاشقين نحو مرافئ الأحلام الوضيئة ، ويذوب
العاشقان وتنطفئ نجمة في السماء تسرج لهما قنديلها ، وتحرسهما وتحنو عليهما ، تُبارك هذا اللقاء الذي تقدستْ أركانه بمكانه وزمانه ، فبمَ يستجير المحروم إذا فسد كيل الميزان ؟ . " آه يا سلمى ! ذاكرة الإنسان ملعب للطيوف ، ومنتدى يضم الأرواح التي فرَّقها النَّوى ، فكم غابت عن عيوني الأقمار، وكنتِ لي بدراً لا يفارق . فما أجملَ ليل العاشقين ! حيث يحلو المقام ويَعْذُب السهر، فعيون المحبين يقظانة لا تنام " .
- انظري يا سلمى ، لقد انكشفت الحُجُب عن السماء السابعة ، وها هو قمر يتلألأ ، ما عهدناه من قبل يرسل ضوءه مضفَّراً يبتسم لنا ويبارك لقاءنا .
- سعيد ! لقد نامت ذكرياتي ، ولكنها إن تستيقظ تنكأ عليَّ جراحي ، فيتآكل من خوفي عليك فؤادي ، ويدهمني بين الفينة والأخرى هاجس الخوف من رحيل قادم ، فدعني استشْفِ بلقياك من فزعي وعذابات أيامي ، ودعني أذُبْ فيك وأَسِلْ في عروقك ، ودعني أتنسم رياحين الجِنان ، فأترك هذا الجسد يحقق شيئاً من رغائبه ، فإنه ينشد الاتحاد بأسلوب فوضوي .
- سلمى ! يعاتبني فيكِ قلبي ، تلومني أطيار الحواكير ولا أدري كيف أحاورها ! فأشتكي إلى الله من التياعي بدمع عيوني ، ويصعد صوتي يتخطَّى ذوائب الأشجار، ويقفز من فوق الحواجز، وتذوب كلماتي في آهات الوجد ، تترجم عن فؤادي أغاني عشق وترانيم حب عُذريّ ، فيلاحقني طيفكِ وعطركِ ، ويؤرقني الدمع في عيون حيرَى ، فيشعل فيَّ لهيباً يحرق ضلوعي ، فأهيم على وجهي ، وتعلو آهاتي فتمتطي أجنحة البلابل ، وأصرخ في فضاءات الزمان بلاءات ثلاث ، أفلا يشفع لي احتباس الشجن في صدري ؟ ياه !... فكم هفوتُ إليكِ يا سلمى وإلى رشفة من رضابك العذب ليعيد إليَّ ثباتي واتزاني، وأعود من بعد سياحتي وتجوالي إلى صحوي ورشدي .
- سعيد ! يحزنني انعطاف الرياح عن " أفلوكة " تخبُّ بنا فوق لجة بحر هادر،
فتتكسر الألواح ، وتحملني الأمواج الصاخبة إلى دار متصدعة الأركان ،
فأَتَّكِئ على جرحي أرقب الأمل المُجَنَّح ، وأرصد مَقْدَمِكَ على فرس لعلها
تذيب من حولي جبلاً ثلجياً يجثم على صدري ، فكم كان الثلج يلسع ضلوعي، ولكنَّ السماء ما تزال تُمسك عنا دمعها ، فينسكب دمعي مدراراً .
ويطيل سعيد النظر في عيني سلمى ، وتسأله بصوت مُخَصَّب بالحب والحنان :
- أيروقكَ أن تنظر في عينيَّ ؟.
- يروقني أن أُلقي نفسي في لجتهما ، فيطول مقامي .
فَتُطَقْطِقُ بصوتها مستنكرة بدلال ، ثم تقول :
- أنتَ لا تحسن العوم ، فأخشَى عليكَ من الغرق .
- إذن ، دعيني أجلس على شواطئهما ، أنظر إلى طالعي .
- طالعكَ السعد ، هكذا يقول عرَّاف قلبي .
- إني أشتاق إليكِ ، وشوقي لا يهمد .
- "صنتُ نفسي عما يدنس نفسي" وحفظتُ عهدكَ ورعيتُ ودكَ ، وكنتُ أهمد بلقائك عبر الخيال ، فطيفكَ لم يفارق أحلامي ، يشبع نهماً في صدري ، ويروي غلة لا يطفئها إلَّاكَ ياحبيبي .
- وأنا يا سلمى ، النار في جوانحي تزداد اشتعالاً ، فلا أطيق الصبر ما دام الكأس مشعشاً يين يديَّ .
فابتسمتْ بعذوبة الأزاهير البرية في فصل الربيع وقالت :
- ألكَ رغبة في شيء ؟.
- اسقِيني من نبع الحياة ، فإنَّ لظى الحب لا يطفئه إلا رضابك .
- هيْتَ لك ، فاشرب على ضفافه ، ثم اسقِني واطفِئ غُلَّتِي بهذا الرَّواء .
وامتدت يد ، فخفضتْ ذبالة المصباح ، فوهَى ضوؤه ، ولكنَّ ابتسامتها قد أغنتْ عنه ، فأضاءت وسادتهما ، وتوسَّدا حباً طالما أبكاه النَّوَى ، وضمهما ليل تتضاحك لهما فيه الأقمار. كل شيء ينتظر النهار، فالليل مهما طال فإنه إلى زوال ، ويتكتم
الهوَى على سِرِّه في رحلة بَحْرِيَّة يأمل فيها القبطان أن يرسو على مرفأ الذكريات
الحالمة .
* * * * *
فرض الديك فجراً على الموت اليومي ، فنهضت القرية تسعى لأعمالها وأرزاقها ، فرحين بما آتهم الله من فضله عليهم ، وينعقد مجلس الشيوخ وكبراء القوم في دار الشيخ عبد السلام بالحارة الغربية ، فكان سعيد ورفاقه يجلسون في صف خلفي يرقبون ويسمعون ولا يتكلمون، وقد تنادت الأصوات بوحدة الحارتين في قرية بيت جبرين لمواجهة الأخطار ودفع الأذى عنها ، وثار جدل عنيف بين كبراء القوم ؛ كل يسعى إلى علو حارته على الحارة الأخرى ، فلم يصلوا إلى حل على الرغم من تنازل بعض العقلاء الذين يؤثرون المصلحة العليا للقرية ، ولكنهم قليل ورأيهم خفيف الوزن في ميزان المصالح القبلية ، فأسفرت الجلسة عن غضب الكثير ومبارحتهم المكان دون اتفاق ، وينظر الشيخ عبد السلام إلى مَنْ بقي حوله ، ويقول كمن يحدِّث نفسه :
- الهزيمة لا تأتي من الخارج....
ويقول المختار أبو سفيان :
- قريتنا عظيمة وقت المحن ومواجهة الكوارث ، فقد غضبتْ لأبنائها وبناتها، وثارت بأعدائها .
قال الشيخ رجب البكري :
- كان علينا أن نتدبر أمورنا ونرتب بيتنا الداخلي قبل أن يدهمنا خطر قادم .
فعقَّب المختار أبو فوَّاز بزهو وخيلاء :
- نعم ! ولكن دون المساس بحقي التاريخي في قريتي ، فلقد ورثتُ المخترة عن آبائي ولن أفرط فيها ، فأنا المختار للحارة الكبرى ولي فيها الأقرباء والمؤيدون ، ولي فيها الكلمة والمشورة ، وأنا المختار المعتمد لدى الحكومة ، وإليَّ يرجعون .
قال الشيخ رجب البكري :
- المناصب مُغْرِيَّة ، وهي كثيراً ما تقتل أصحابها ، وتهلك أتباعها ، فدعونا من
هذا الأمر حيث إني أراها معتمة .
- هكذا نحن ، لا نعرف إلا التمني ، ولا نحسن إلا الضراعة إلى الله دون نية صادقة يتبعها عمل مخلص .
انفضَّ المجلس ، فاستبقى الشيخ عبد السلام كبراء القوم ، وقد انضم إليهم المختار أبو فوَّاز لتهنئة الشيخ العصفوري برجوع ابنه عزام من الأسر سالماً . فاستوقفهم أسامة ، وقال وهو ينظر إليهم تارة وإلى رفاقه الشباب تارة أخرى :
- وما هدفكم من وراء زيارة العصفوري ؟.
فيردُّ الشيخ عبد السلام مستهجناً السؤال :
- نهنئه برجوع ابنه إليه !.
- ولكنه لم يأتِ ليهنئكم بعودة أبنائكم إليكم .
- يا بُنَيَّ ، ليس هكذا تقاس الأمور، فإنَّ مَنْ ينزل عن السِّلَّم لا يقفز من أعلاه إلى الأرض قفزة واحدة ، وإلا وقع وانكسر .
فسأل سعيد بصوت ينم عن احترامه وإجلاله لرأي الشيخ عبد السلام :
- وهل ترى غير ما نرى يا شيخنا ؟.
- نعم يا ولدي ! دعونا نُبقِ على حبل المودة موصولاً بيننا وبين الشيخ العصفوري ، ولا يحسن بنا أن نباديه بالقطيعة ، ونحن له محتاجون .
قال الشيخ البكري مؤيداً رأي الشيخ عبد السلام :
- وما يضيرنا إن نحن ذهبنا إليه مهنئين ؟.
قال سعيد :
- دعونا نطوِ ذلك العهد برجاله .
قال الشيخ عبد السلام :
- لا تغترّ بالقشور، واحسبها جيداً .
- لم أفهم عنك ؟!.
- ما زالت أرزاق القرية بيده ، ومصالح أهل القرية تستوجب التواصل معه .
- ولماذا حاربناه مادمنا لا نستغني عنه ، أم نحن نسعى إليه لتجديد فروض
الولاء والتبعية له ؟.
- لا تخشَ علينا من العصفوري ، فنحن نسير وفق خُطة للخلاص منه والاستغناء عنه ، ولكن ( يَوَاش يَوَاش ) خطوة خطوة .
ورفع الشيخ عبد السلام عباءته على كتفه ، وحزم أمره قاصداً مع رفاقه الشيوخ ديوان العصفوري بصحبة المختارين .
* * * * *
- جئناك ندعوك وقومَك لحضور عرس قريتنا الذي نقيمه احتفالاً بزواج أسامة ابن عبد الواحد الزاهر من كريمة أحمد ريحان " أبي فارس " .
- متى تقيمون عرسكم يا شيخ عبد السلام ؟.
- الخميس بعد القادم يا شيخ حرب .
- وهل دعوتم الشيخ العصفوري ؟.
- نعم ، فلقد هنأناه بالأمس ، ودعوناه وقومه .
- وماذا تفعلون لآل العصفوري عندما تقيمون أفراحكم ؟.
- نفسح لهم صدر مجالسنا ، ولا نعقد أمراً إلا بمباركتهم ، ولا نطعم طعاماً إلا بحضورهم ، وبعد أن يبدأوا .
- لقد جاء وقت خلاصكم إلى الأبد .
تطلع الأضياف في وجوه بعضهم يستقرئونها صامتين دهشين مما يسمعون ، فيسأل الشيخ رجب البكري مضيفه :
- لم نفهم عنك يا شيخنا ؟.
- إذن ، أقيموا عرسكم في ميعاده ، ولكل حادث حديث .
حار الشيخ عبد السلام ورفاقه في فهم نوايا الشيخ حرب ، ومال بوجهه إلى الشيخ البكري مستوضحاً إياه إن كان قد فهم شيئاً ، ولكنَّ الشيخ البكري لم يسعفه بشيء ،
فيرتد إليه طرفه ، ويتحول بوجهه ولسانه إلى الشيخ حرب :
- إن كنتَ تخطط لشيء قادم فأطلعنا على ما تعزم عليه .
- يا قوم ! لقد حانت الظروف المواتية لتخليصكم من العصفوري ، إن أنتم على
عزمكم للخلاص منه .
ويتوقف الشيخ حرب عن الكلام ، ويبتسم ابتسامة ودودة يهدئ بها من روع الرجال حوله ، وتتسع ابتسامته فيسيل منها المكر الدهاء ، ولكنْ رغبة الرجال في الخلاص من العصفوري أعمتْ بصرهم وبصائرهم ، فلم يروْا إلا حلماً وردياً طالما راودهم في يقظتهم ونومهم . ويستأنف الشيخ حرب :
- أقيموا عرسكم في قريتكم ، واتركوا الباقي لي ، فإني سأتدبر الأمر، وسأعينكم ولن أتخلى عنكم طالما أنتم تسيرون حسب مشورتي .
- أَشِرْ علينا ونحن لك مصغون ، وعلى هدي رأيك سائرون .
- لا تستعجلوا الأمور قبل أوانها ، ولكنْ عجِّلوا في إقامة عرسكم ، وسأوافيكم بما أخطط له خطوة خطوة حتى تنتهي كل الخُطَى .
ودارت فناجين القهوة على الشاربين ، واستأذنوا منه للعودة ، فشيعهم الشيخ حرب وقد أشاع في قلوبهم الطمأنينة والاطمئنان على نجاح خطته ، وقال مخاطباً الشيخ عبد السلام وهو يشيِّعه :
- مُرُّوا بي قُبَيْل العرس لتأخذوا عني ما استجدَّ لديَّ من رأي يناسب المرحلة
الأخيرة .
ابتعد الرجال عن مضارب الشيخ حرب السيناوي ، وبينما هم في طريقهم تخبُّ بهم مَطِيُّهم في تلك الليلة التي يتعاقب فيها النور والعتمة بتعاقب الغيم على وجه القمر وانكشافه ، قال الشيخ زيدان وقد بدا مهموماً :
- لا ندري ماذا ستكون عليه النهاية !.
فيردُّ الشيخ عبد السلام بصوت مثقل بالأحزان :
- وأنا أحسُّ شيئاً من الخوف يعتورني .
ويقول المختار أبو سفيان :
- ولكنَّ الشيخ حرب معنا ، وإنه لن يتخلى عنا .
يقول الشيخ رجب :
- أتريدون أيها القوم الحقيقة ؟.
- ما هي ؟.
- الشيخ حرب يريد أن يزيح الشيخ العصفوري من طريقه بأيدينا ، ومن ثم يحل محله في زعامة قرى الخليل .
فيردُّ الشيخ عبد السلام على الشيخ رجب بنبرة غاضبة :
- ولكننا نحن الذين سعينا إليه طالبين منه النجدة والعون على ما نحن فيه من بلاء ، أم أراك قد نسيت يا شيخ رجب ؟.
- كلا يا شيخ عبد السلام ! أنا لم أنسَ ، ولكنَّ الشيخ حرب يريد أن يستثمر هذه العداوة ، ويقطف ثمارها....
فيقاطعه الحاج حسين أبو النور:
- لماذا هذا التخوف يا شيخ رجب ، أليست هي الحرب فيها طرف منهزم ، وفيها طرف منتصر؟. فدعونا ننتصر عليه قبل أن يلملم شعثه وتقوى شوكته ويجرِّعنا كؤوس الذل والألم أقسى وأمرّ مما تجرَّعناه من قبل ، أنسيتم ما فعله بنا العصفوري يوم أن أذل القرية بِجَلْد سعيد وإهانة أبيه الشيخ زيدان على مسمع ومرأى من الملأ ؟ . أم أراكم قد نسيتم يوم أن أذل القرية بسبي سلمى من دارها ؟. إنه الآن رجل مريض ، فاغتنموها إنها مواتية .
قال الشيخ زيدان :
- والعصفوري كذلك ، لن ينسى ابنه نوَّاف ، ولن ينسى يوم أن هوجم في قصره وأُضرِمتِ النيران في ممتلكاته وأُخذ ابنه أسيراً ، ولن ينسى ذله وانكساره يوم خرجت سلمى من سجنها الذي أعده لها في بيته .
ويعقِّب المختار أبو سفيان :
- إذن ، لا ولن تصفو نفسه لنا ، ولن تصفو نفوسنا له ، بل هو العداء ؛ وإن
كان الآن كما النار تحت الرماد تنتظر هبة ريح لتشتعل .
ويقول الشيخ عبد السلام مخاطباً رفاقه :
- أمَازلتم تأتمرون بالعصفوري حتى الخلاص منه ، أم أنكم تتراجعون ؟.
فأجابوا بصوت واحد :
- كلا ! لم نتراجع ، فنحن على العهد باقون .
- إلَّا أنا .
قالها الشيخ رجب البكري بصوت عالٍ ، فيتجه إليه الشيخ عبد السلام :
- فما الرأي عندك إذاً ؟.
يردُّ الشيخ البكري بهدوء :
- أرى أن نكتفي بما حققناه ، وكفى بنا نصراً عليه أن نستقل عنه ، وأن يتخلى عن سلطانه علينا ، ولا بأس أن نمهله فترة لسبر أغواره ووضوح نواياه .
- وإن لم يفعل وأصرَّ على نهجه فينا ؟.
- حينها ، نقاومه .
- كيف ؟.
- نمضي في طريقنا التي سلكناها ، ونستمسك بالشيخ حرب حليفاً لنا ولا نفرط فيه أبداً .
- وماذا لو أوجبتِ الأحداث قتله ؟.
- لا نستبِق الأحداث ياقوم ، ودعونا نرَ ونزن العاقبة ، فإن جنح إلى مسالمتنا سالمناه ، وإن لم يتخلَّ عن عداوته لنا وتسلطه علينا وسار فينا سيرته الأولى ؛ قاومناه دفاعاً عن أنفسنا وأموالنا وأعراضنا .
- هذا رأيكم . ولكنْ ، ماذا عن رأي شباب القرية ؟. أليس من حقهم علينا أن نسألهم الرأي فنستمع لهم ونسمع منهم ؟.
فيبسط الشيخ زيدان يديه ، ويقول :
- رأيهم معروف ، وأنتَ تعرفه .
- ولكنْ ، دعونا نستفتِهم في كيفية الخلاص من العصفوري .
- أَرِح نفسك فجوابهم حينئذ واحد ؛ القتال حتى الاستقلال ، وإنَّ موت العصفوري
أو رحيله أعزُّ أمانيهم .
هَزَّ الشيخ عبد السلام رأسه ويده ثم قال :
- إذن ، فلنُبقِ الحال على ما هي عليه ، وسنرى ماذا يشير به علينا الشيخ حرب ، ولن نخالف عن أمره ومشورته ، وإنَّ الرجل قد ناصرنا ولم يخذلنا، فليس من الرجولة أن ندير له ظهرنا ونكتفي بما حققناه ، وواقع الأمر يقول إننا ما زلنا لم نحقق شيئاً ، فإن رفضنا ما تبقَّى من خططه ، وتوقفنا عند هذا الحد ، فلن يثق بنا بعد ذلك ، ولن يقف بجانبنا مرة ثانية ، ولن ينجدنا إن نحن سعينا إليه نستنصره ونستنجد به ، بل سنقيمه خصيماً لنا ، وسنجني على أنفسنا كما جنتْ على نفسها " براقش " .
أومأ الرجال برءوسهم يستحسنون رأي الشيخ عبد السلام دون أن يهتزَّ لأحدهم لسان .
[email protected]
دنيا الوطن


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.