20 شمس الأصيل تلف القرية بعباءتها الذهبية ، فتتزين الأرض ، وتُظهر محاسنها ، وتعرض مفاتنها ، فتكتحل العيون بمرآى يسرُّ الناظرين ويأسرهم . كان المنظر لفرس مُطَهَّمَة ، تتهادى برفق ودلال ، تعتلي صهوتها فرس القرية الأصيل . بدتْ سلمى وضَّاحة الجبين ، متوردة الخدين ، باسمة الثغر، تردُّ بيدها تحية المحبة والأشواق لمن يرسلها إليها من إنسان وأشجار وأطيار ، ولم تكن تستطيع أن تُخفي مسحة من الحزن كانت تطفو على وجهها . كان يرافقها إثنان مِن خَدَم القصر على جواديهما ، يحرسانها عن ذات اليمين وعن ذات الشمال: أحدهما عباس الذي كان فرحاً مسروراً ، أما الآخر فهو شاب من قرية " زيتا " وكان أيضا مبتهجاً محبوراً . رفعت سلمى رأسها تنظر إلى السماء تتنسم الهواء ، وهي لا تعلم تعليلاً لخروجها من محبسها ، وإنها لم ترغب في تلك اللحظات التي ضحكتْ لها الأزاهير البرية أن تشغل نفسها بأفكار تبعدها عن فرحتها بالعودة ، أو تصرفها عن الاستمتاع بحرارة اللقاء بالأهل والأحبة . ويزداد موكب سلمى عدداً كلما مرَّت بنفر من أهل قريتها ، فتراهم يُهرعون إليها مهنئين ، مشاركين إياها فرحتها وسرورها . وما إن وصل الموكب مشارف القرية حتى خرج أهلها يفتحون لها أحضانهم ، وقد ارتفعت تهاليل الرجال وزغاريد النساء ، وتصاعدت صياحات الأطفال ؛ كل يحتفي بها ويضمها بعينيه ويزف إليها التهنئة بسلامة العودة ، ويهنئ نفسه بإزاحة جدار الخوف والرعب الذي أقامه العصفوري في ديارهم ليل نهار. ها هي سلمى تعود إليهم وقد عاد معها الأمان والاطمئنان على حياتهم وأرزاقهم وصوْن أنفسهم وممتلكاتهم . ترجَّلتْ سلمى ، ودلفتْ إلى دارها وقد تلقفها الحاج زيدان وزوجه وأبناؤهما بالأحضان ، فكان لقاء حاراً دامعاً ، وما هي إلا لحظات حتى دخل عليها أبوها وأمها ، وكان لقاء مُثيراً ، فقد اختلط فيه البكاء بالابتسام ، واكتظ صحن الدار بالأهل والجيران ، وكان عرساً قروياً قد أقامه قدوم سلمى بعد غياب طويل . ويغافلهم عباس ويمتطي صهوة جواده وينطلق مسرعاً ، ويأخذ طريقه باتجاه قرية " دير نخَّاس" ، وقد أثار خلفه غباراً كثيفاً حجبه عن العيون، ولا يعلم أحد إلى أين وجهته . حلَّ المساء وهبط الهناء على القرية ، وأنار القمر بضيائه طرقاتها وحاراتها ، وابتنى الشباب فسطاطاً كبيراً جلس فيه شيوخ القرية ورجالها ، وانتصبتْ حلقات الدبكة ، وأُقيم بعدها سامر أشعل قريحة الشعراء والمغنِّين ، وتوافد على المجلس رجال القرية من الحارتين ، وبعد أن هدأ السُّمَّار، واستراحت الشبابة والطبلة ، قال الشيخ عبد السلام : - ياه ! كنتُ أعتقد أنَّ الفرح قد نسينا ، وتخطَّى قريتنا . قال الحاج حسين أبو النور: - تمام فرحتنا برجوع سعيد . وسأل المختار أبو سفيان : - ما الذي دفع العصفوري إلى إطلاق سلمى ؟. ويردُّ الشيخ زيدان : - يعلم الله !. ويقول الشيخ رجب البكري : - إنَّ الله يهدي من يشاء . ويقول الحاج حسين : - العصفوري مولاه الشيطان . ويردُّ الشيخ البكري بعصبية ظاهرة : - " لا تقنطوا من رحمة الله " . ويقول الشيخ زيدان : - مازال قلبي يحدثني بشيء من الخوف أنَّ أمراً جللاً سوف يحدث . وهنا ينبري المختار أبو فوَّاز يشارك القوم حديثهم ، وقد التزم الصمت طويلاً : - لا تخشَ شيئاً يا شيخ زيدان ما دام سعيد ورفاقه يصولون ويجولون . ويستيقظ القوم بعد أن غلب على كثير منهم النعاس ، وتتشنف آذانهم لسماع المزيد من المختار أبي فوَّاز لعلمهم بمدى العلاقة الوطيدة التي تربطه بالشيخ العصفوري والتي تتيح له الاطلاع على خفايا الأمور. - زدنا يا مختار إن كان لديك زيادة . - قد لا تسمعون لي ، وهذا دأبكم . - أنت واحد من أهل هذه القرية ، ولا نهون عليك . وعقَّب الشيخ عبد السلام مخاطباً المختار أبا فوَّاز: - لا تحبس عداوتك لنا في قلبك ، إلا إذا كنتَ وما زلتَ تعادينا . - لقد دفعتموني إلى الانشقاق عنكم ، ولو أني عدو لكم لكنتُ قد كشفتُ للعصفوري سر المهاجمين ؛ قاتلي نوَّاف وخاطفي عزام ، ولكني لم أفعل ، أتعرفون لماذا ؟ لأني لا أفرط في شرف القرية ، فلستُ كما توهم بعض الجهلاء منكم . - بارك الله فيك يا مختار! ثم ماذا بعد ذلك ؟. - سيعود إليكم سعيد ، وتهنأ به داره . انفرجت الأسارير وأخذ الرجال ينظرون إلى بعضهم فرحين ، وقبل أن يفيقوا من حلاوة هذا التصريح الذي أحيا فيهم الأمل ، نهض المختار أبو فوَّاز وأصلح العباءة على كتفيه وقال مودعاً : - لا تسألوا كيف ؟ ومتى ؟. إنه عائد إليكم قريباً.... تصبحون بخير. ويغادر أبو فوَّاز ، ويغادر مِن بعده الحاضرون أفراداً وجماعات ، ثم يدخل الشيخ زيدان داره ، ويُنزل رتاج الباب ، فيُحكم إغلاقه ويتهيأ للنوم ، ولكنه ما إن ألقى جسده على فِراشه حتى سمع طَرْقاً رفيقاً على الباب . أحس بالخوف، ولكنه تجرَّع الطمأنينة ، وتلكأ قليلاً ، ولكنَّ الطرق يتواصل ، فينهض إلى الباب ويسأل في خفوت : - من الطارق ؟. - أنا سعيد.... افتح الباب يا أبي.... وانفتح الباب ، وغاب الاثنان عن نفسيهما في عناق طويل ، وتندفع الأم والإخوة وترتفع حرارة اللقاء ، ويذوب المكان والزمان بلقاء سلمى بسعيدها ، ويروي لهم سعيد رحلة العذاب والمعاناة التي لقيها منذ أن أتيح له الخروج من سجنه ، ليس هرباً منه كما أُشيع ، ولكنْ بإطلاق سراحه ، فاطمأنت قلوبهم بأنَّ رجال الدَّرَك لن يلاحقوه ، وأنه ليس مطلوباً للقانون . وأصغَى جميعهم إلى صوت الرصاص الذي ينطلق بكثافة من مكان غير قريب ، فقرأ سعيد المخاوف على صفحات الوجوه ، وقال وقد أضاء وجهه بابتسام يشيع الاطمئنان في القلوب ، ويطرد أذيال الرَّوع الذي هاجم النفوس : - إنهم رجال العصفوري يبتهجون بعودة عزام . وتسأل سلمى على استحياء : - وهل أطلقتم عزام ؟. فيبتسم لها قائلاً : - نعم ، ما إن وصلَنا عباس بخبر عودتك إلى بيتك حتى أرسلنا عزام بحراسة رجالنا عائداً إلى بيته مُعزَّزاً مُكرَّماً . قالت سلمى بصوت خافت ، فيه التياع وفيه انكسار دفين : - فلتهنأ بعودته أمه ، لقد كانت ودودة معي ، عطوفة عليَّ ، تحمل همي في صدرها حِملاً ثقيلاً ، ولطالما سعتْ لدَى العصفوري من أجل حريتي . * * * * * ها هما سعيد وسلمى قد ضمهما معبد الحب بعد طول غياب ، وأيقن كلاهما أنَّ وعد السماء لا يطول انتظاره ، وأنَّ وجه الربيع يتجدد فيه الإنبات والإزهار ، فتتأرج الأرض بطيب روائحه . وها هو الزمان يرفو لهما قبة تستريح تحتها الجسوم ، وتنعم في ظلالها العيون ، وتنفرج الشفاه فتتقافز منها الكلمات ويتناثر منها عطر رقيق ، ويتضوع شذى يُغري بالقُبل ، وتطل من فوق رأسيهما مشاعل تضيء معابد الحب ، ودروباً تسير فيها القوافل الظاعنة بالعاشقين نحو مرافئ الأحلام الوضيئة ، ويذوب العاشقان وتنطفئ نجمة في السماء تسرج لهما قنديلها ، وتحرسهما وتحنو عليهما ، تُبارك هذا اللقاء الذي تقدستْ أركانه بمكانه وزمانه ، فبمَ يستجير المحروم إذا فسد كيل الميزان ؟ . " آه يا سلمى ! ذاكرة الإنسان ملعب للطيوف ، ومنتدى يضم الأرواح التي فرَّقها النَّوى ، فكم غابت عن عيوني الأقمار، وكنتِ لي بدراً لا يفارق . فما أجملَ ليل العاشقين ! حيث يحلو المقام ويَعْذُب السهر، فعيون المحبين يقظانة لا تنام " . - انظري يا سلمى ، لقد انكشفت الحُجُب عن السماء السابعة ، وها هو قمر يتلألأ ، ما عهدناه من قبل يرسل ضوءه مضفَّراً يبتسم لنا ويبارك لقاءنا . - سعيد ! لقد نامت ذكرياتي ، ولكنها إن تستيقظ تنكأ عليَّ جراحي ، فيتآكل من خوفي عليك فؤادي ، ويدهمني بين الفينة والأخرى هاجس الخوف من رحيل قادم ، فدعني استشْفِ بلقياك من فزعي وعذابات أيامي ، ودعني أذُبْ فيك وأَسِلْ في عروقك ، ودعني أتنسم رياحين الجِنان ، فأترك هذا الجسد يحقق شيئاً من رغائبه ، فإنه ينشد الاتحاد بأسلوب فوضوي . - سلمى ! يعاتبني فيكِ قلبي ، تلومني أطيار الحواكير ولا أدري كيف أحاورها ! فأشتكي إلى الله من التياعي بدمع عيوني ، ويصعد صوتي يتخطَّى ذوائب الأشجار، ويقفز من فوق الحواجز، وتذوب كلماتي في آهات الوجد ، تترجم عن فؤادي أغاني عشق وترانيم حب عُذريّ ، فيلاحقني طيفكِ وعطركِ ، ويؤرقني الدمع في عيون حيرَى ، فيشعل فيَّ لهيباً يحرق ضلوعي ، فأهيم على وجهي ، وتعلو آهاتي فتمتطي أجنحة البلابل ، وأصرخ في فضاءات الزمان بلاءات ثلاث ، أفلا يشفع لي احتباس الشجن في صدري ؟ ياه !... فكم هفوتُ إليكِ يا سلمى وإلى رشفة من رضابك العذب ليعيد إليَّ ثباتي واتزاني، وأعود من بعد سياحتي وتجوالي إلى صحوي ورشدي . - سعيد ! يحزنني انعطاف الرياح عن " أفلوكة " تخبُّ بنا فوق لجة بحر هادر، فتتكسر الألواح ، وتحملني الأمواج الصاخبة إلى دار متصدعة الأركان ، فأَتَّكِئ على جرحي أرقب الأمل المُجَنَّح ، وأرصد مَقْدَمِكَ على فرس لعلها تذيب من حولي جبلاً ثلجياً يجثم على صدري ، فكم كان الثلج يلسع ضلوعي، ولكنَّ السماء ما تزال تُمسك عنا دمعها ، فينسكب دمعي مدراراً . ويطيل سعيد النظر في عيني سلمى ، وتسأله بصوت مُخَصَّب بالحب والحنان : - أيروقكَ أن تنظر في عينيَّ ؟. - يروقني أن أُلقي نفسي في لجتهما ، فيطول مقامي . فَتُطَقْطِقُ بصوتها مستنكرة بدلال ، ثم تقول : - أنتَ لا تحسن العوم ، فأخشَى عليكَ من الغرق . - إذن ، دعيني أجلس على شواطئهما ، أنظر إلى طالعي . - طالعكَ السعد ، هكذا يقول عرَّاف قلبي . - إني أشتاق إليكِ ، وشوقي لا يهمد . - "صنتُ نفسي عما يدنس نفسي" وحفظتُ عهدكَ ورعيتُ ودكَ ، وكنتُ أهمد بلقائك عبر الخيال ، فطيفكَ لم يفارق أحلامي ، يشبع نهماً في صدري ، ويروي غلة لا يطفئها إلَّاكَ ياحبيبي . - وأنا يا سلمى ، النار في جوانحي تزداد اشتعالاً ، فلا أطيق الصبر ما دام الكأس مشعشاً يين يديَّ . فابتسمتْ بعذوبة الأزاهير البرية في فصل الربيع وقالت : - ألكَ رغبة في شيء ؟. - اسقِيني من نبع الحياة ، فإنَّ لظى الحب لا يطفئه إلا رضابك . - هيْتَ لك ، فاشرب على ضفافه ، ثم اسقِني واطفِئ غُلَّتِي بهذا الرَّواء . وامتدت يد ، فخفضتْ ذبالة المصباح ، فوهَى ضوؤه ، ولكنَّ ابتسامتها قد أغنتْ عنه ، فأضاءت وسادتهما ، وتوسَّدا حباً طالما أبكاه النَّوَى ، وضمهما ليل تتضاحك لهما فيه الأقمار. كل شيء ينتظر النهار، فالليل مهما طال فإنه إلى زوال ، ويتكتم الهوَى على سِرِّه في رحلة بَحْرِيَّة يأمل فيها القبطان أن يرسو على مرفأ الذكريات الحالمة . * * * * * فرض الديك فجراً على الموت اليومي ، فنهضت القرية تسعى لأعمالها وأرزاقها ، فرحين بما آتهم الله من فضله عليهم ، وينعقد مجلس الشيوخ وكبراء القوم في دار الشيخ عبد السلام بالحارة الغربية ، فكان سعيد ورفاقه يجلسون في صف خلفي يرقبون ويسمعون ولا يتكلمون، وقد تنادت الأصوات بوحدة الحارتين في قرية بيت جبرين لمواجهة الأخطار ودفع الأذى عنها ، وثار جدل عنيف بين كبراء القوم ؛ كل يسعى إلى علو حارته على الحارة الأخرى ، فلم يصلوا إلى حل على الرغم من تنازل بعض العقلاء الذين يؤثرون المصلحة العليا للقرية ، ولكنهم قليل ورأيهم خفيف الوزن في ميزان المصالح القبلية ، فأسفرت الجلسة عن غضب الكثير ومبارحتهم المكان دون اتفاق ، وينظر الشيخ عبد السلام إلى مَنْ بقي حوله ، ويقول كمن يحدِّث نفسه : - الهزيمة لا تأتي من الخارج.... ويقول المختار أبو سفيان : - قريتنا عظيمة وقت المحن ومواجهة الكوارث ، فقد غضبتْ لأبنائها وبناتها، وثارت بأعدائها . قال الشيخ رجب البكري : - كان علينا أن نتدبر أمورنا ونرتب بيتنا الداخلي قبل أن يدهمنا خطر قادم . فعقَّب المختار أبو فوَّاز بزهو وخيلاء : - نعم ! ولكن دون المساس بحقي التاريخي في قريتي ، فلقد ورثتُ المخترة عن آبائي ولن أفرط فيها ، فأنا المختار للحارة الكبرى ولي فيها الأقرباء والمؤيدون ، ولي فيها الكلمة والمشورة ، وأنا المختار المعتمد لدى الحكومة ، وإليَّ يرجعون . قال الشيخ رجب البكري : - المناصب مُغْرِيَّة ، وهي كثيراً ما تقتل أصحابها ، وتهلك أتباعها ، فدعونا من هذا الأمر حيث إني أراها معتمة . - هكذا نحن ، لا نعرف إلا التمني ، ولا نحسن إلا الضراعة إلى الله دون نية صادقة يتبعها عمل مخلص . انفضَّ المجلس ، فاستبقى الشيخ عبد السلام كبراء القوم ، وقد انضم إليهم المختار أبو فوَّاز لتهنئة الشيخ العصفوري برجوع ابنه عزام من الأسر سالماً . فاستوقفهم أسامة ، وقال وهو ينظر إليهم تارة وإلى رفاقه الشباب تارة أخرى : - وما هدفكم من وراء زيارة العصفوري ؟. فيردُّ الشيخ عبد السلام مستهجناً السؤال : - نهنئه برجوع ابنه إليه !. - ولكنه لم يأتِ ليهنئكم بعودة أبنائكم إليكم . - يا بُنَيَّ ، ليس هكذا تقاس الأمور، فإنَّ مَنْ ينزل عن السِّلَّم لا يقفز من أعلاه إلى الأرض قفزة واحدة ، وإلا وقع وانكسر . فسأل سعيد بصوت ينم عن احترامه وإجلاله لرأي الشيخ عبد السلام : - وهل ترى غير ما نرى يا شيخنا ؟. - نعم يا ولدي ! دعونا نُبقِ على حبل المودة موصولاً بيننا وبين الشيخ العصفوري ، ولا يحسن بنا أن نباديه بالقطيعة ، ونحن له محتاجون . قال الشيخ البكري مؤيداً رأي الشيخ عبد السلام : - وما يضيرنا إن نحن ذهبنا إليه مهنئين ؟. قال سعيد : - دعونا نطوِ ذلك العهد برجاله . قال الشيخ عبد السلام : - لا تغترّ بالقشور، واحسبها جيداً . - لم أفهم عنك ؟!. - ما زالت أرزاق القرية بيده ، ومصالح أهل القرية تستوجب التواصل معه . - ولماذا حاربناه مادمنا لا نستغني عنه ، أم نحن نسعى إليه لتجديد فروض الولاء والتبعية له ؟. - لا تخشَ علينا من العصفوري ، فنحن نسير وفق خُطة للخلاص منه والاستغناء عنه ، ولكن ( يَوَاش يَوَاش ) خطوة خطوة . ورفع الشيخ عبد السلام عباءته على كتفه ، وحزم أمره قاصداً مع رفاقه الشيوخ ديوان العصفوري بصحبة المختارين . * * * * * - جئناك ندعوك وقومَك لحضور عرس قريتنا الذي نقيمه احتفالاً بزواج أسامة ابن عبد الواحد الزاهر من كريمة أحمد ريحان " أبي فارس " . - متى تقيمون عرسكم يا شيخ عبد السلام ؟. - الخميس بعد القادم يا شيخ حرب . - وهل دعوتم الشيخ العصفوري ؟. - نعم ، فلقد هنأناه بالأمس ، ودعوناه وقومه . - وماذا تفعلون لآل العصفوري عندما تقيمون أفراحكم ؟. - نفسح لهم صدر مجالسنا ، ولا نعقد أمراً إلا بمباركتهم ، ولا نطعم طعاماً إلا بحضورهم ، وبعد أن يبدأوا . - لقد جاء وقت خلاصكم إلى الأبد . تطلع الأضياف في وجوه بعضهم يستقرئونها صامتين دهشين مما يسمعون ، فيسأل الشيخ رجب البكري مضيفه : - لم نفهم عنك يا شيخنا ؟. - إذن ، أقيموا عرسكم في ميعاده ، ولكل حادث حديث . حار الشيخ عبد السلام ورفاقه في فهم نوايا الشيخ حرب ، ومال بوجهه إلى الشيخ البكري مستوضحاً إياه إن كان قد فهم شيئاً ، ولكنَّ الشيخ البكري لم يسعفه بشيء ، فيرتد إليه طرفه ، ويتحول بوجهه ولسانه إلى الشيخ حرب : - إن كنتَ تخطط لشيء قادم فأطلعنا على ما تعزم عليه . - يا قوم ! لقد حانت الظروف المواتية لتخليصكم من العصفوري ، إن أنتم على عزمكم للخلاص منه . ويتوقف الشيخ حرب عن الكلام ، ويبتسم ابتسامة ودودة يهدئ بها من روع الرجال حوله ، وتتسع ابتسامته فيسيل منها المكر الدهاء ، ولكنْ رغبة الرجال في الخلاص من العصفوري أعمتْ بصرهم وبصائرهم ، فلم يروْا إلا حلماً وردياً طالما راودهم في يقظتهم ونومهم . ويستأنف الشيخ حرب : - أقيموا عرسكم في قريتكم ، واتركوا الباقي لي ، فإني سأتدبر الأمر، وسأعينكم ولن أتخلى عنكم طالما أنتم تسيرون حسب مشورتي . - أَشِرْ علينا ونحن لك مصغون ، وعلى هدي رأيك سائرون . - لا تستعجلوا الأمور قبل أوانها ، ولكنْ عجِّلوا في إقامة عرسكم ، وسأوافيكم بما أخطط له خطوة خطوة حتى تنتهي كل الخُطَى . ودارت فناجين القهوة على الشاربين ، واستأذنوا منه للعودة ، فشيعهم الشيخ حرب وقد أشاع في قلوبهم الطمأنينة والاطمئنان على نجاح خطته ، وقال مخاطباً الشيخ عبد السلام وهو يشيِّعه : - مُرُّوا بي قُبَيْل العرس لتأخذوا عني ما استجدَّ لديَّ من رأي يناسب المرحلة الأخيرة . ابتعد الرجال عن مضارب الشيخ حرب السيناوي ، وبينما هم في طريقهم تخبُّ بهم مَطِيُّهم في تلك الليلة التي يتعاقب فيها النور والعتمة بتعاقب الغيم على وجه القمر وانكشافه ، قال الشيخ زيدان وقد بدا مهموماً : - لا ندري ماذا ستكون عليه النهاية !. فيردُّ الشيخ عبد السلام بصوت مثقل بالأحزان : - وأنا أحسُّ شيئاً من الخوف يعتورني . ويقول المختار أبو سفيان : - ولكنَّ الشيخ حرب معنا ، وإنه لن يتخلى عنا . يقول الشيخ رجب : - أتريدون أيها القوم الحقيقة ؟. - ما هي ؟. - الشيخ حرب يريد أن يزيح الشيخ العصفوري من طريقه بأيدينا ، ومن ثم يحل محله في زعامة قرى الخليل . فيردُّ الشيخ عبد السلام على الشيخ رجب بنبرة غاضبة : - ولكننا نحن الذين سعينا إليه طالبين منه النجدة والعون على ما نحن فيه من بلاء ، أم أراك قد نسيت يا شيخ رجب ؟. - كلا يا شيخ عبد السلام ! أنا لم أنسَ ، ولكنَّ الشيخ حرب يريد أن يستثمر هذه العداوة ، ويقطف ثمارها.... فيقاطعه الحاج حسين أبو النور: - لماذا هذا التخوف يا شيخ رجب ، أليست هي الحرب فيها طرف منهزم ، وفيها طرف منتصر؟. فدعونا ننتصر عليه قبل أن يلملم شعثه وتقوى شوكته ويجرِّعنا كؤوس الذل والألم أقسى وأمرّ مما تجرَّعناه من قبل ، أنسيتم ما فعله بنا العصفوري يوم أن أذل القرية بِجَلْد سعيد وإهانة أبيه الشيخ زيدان على مسمع ومرأى من الملأ ؟ . أم أراكم قد نسيتم يوم أن أذل القرية بسبي سلمى من دارها ؟. إنه الآن رجل مريض ، فاغتنموها إنها مواتية . قال الشيخ زيدان : - والعصفوري كذلك ، لن ينسى ابنه نوَّاف ، ولن ينسى يوم أن هوجم في قصره وأُضرِمتِ النيران في ممتلكاته وأُخذ ابنه أسيراً ، ولن ينسى ذله وانكساره يوم خرجت سلمى من سجنها الذي أعده لها في بيته . ويعقِّب المختار أبو سفيان : - إذن ، لا ولن تصفو نفسه لنا ، ولن تصفو نفوسنا له ، بل هو العداء ؛ وإن كان الآن كما النار تحت الرماد تنتظر هبة ريح لتشتعل . ويقول الشيخ عبد السلام مخاطباً رفاقه : - أمَازلتم تأتمرون بالعصفوري حتى الخلاص منه ، أم أنكم تتراجعون ؟. فأجابوا بصوت واحد : - كلا ! لم نتراجع ، فنحن على العهد باقون . - إلَّا أنا . قالها الشيخ رجب البكري بصوت عالٍ ، فيتجه إليه الشيخ عبد السلام : - فما الرأي عندك إذاً ؟. يردُّ الشيخ البكري بهدوء : - أرى أن نكتفي بما حققناه ، وكفى بنا نصراً عليه أن نستقل عنه ، وأن يتخلى عن سلطانه علينا ، ولا بأس أن نمهله فترة لسبر أغواره ووضوح نواياه . - وإن لم يفعل وأصرَّ على نهجه فينا ؟. - حينها ، نقاومه . - كيف ؟. - نمضي في طريقنا التي سلكناها ، ونستمسك بالشيخ حرب حليفاً لنا ولا نفرط فيه أبداً . - وماذا لو أوجبتِ الأحداث قتله ؟. - لا نستبِق الأحداث ياقوم ، ودعونا نرَ ونزن العاقبة ، فإن جنح إلى مسالمتنا سالمناه ، وإن لم يتخلَّ عن عداوته لنا وتسلطه علينا وسار فينا سيرته الأولى ؛ قاومناه دفاعاً عن أنفسنا وأموالنا وأعراضنا . - هذا رأيكم . ولكنْ ، ماذا عن رأي شباب القرية ؟. أليس من حقهم علينا أن نسألهم الرأي فنستمع لهم ونسمع منهم ؟. فيبسط الشيخ زيدان يديه ، ويقول : - رأيهم معروف ، وأنتَ تعرفه . - ولكنْ ، دعونا نستفتِهم في كيفية الخلاص من العصفوري . - أَرِح نفسك فجوابهم حينئذ واحد ؛ القتال حتى الاستقلال ، وإنَّ موت العصفوري أو رحيله أعزُّ أمانيهم . هَزَّ الشيخ عبد السلام رأسه ويده ثم قال : - إذن ، فلنُبقِ الحال على ما هي عليه ، وسنرى ماذا يشير به علينا الشيخ حرب ، ولن نخالف عن أمره ومشورته ، وإنَّ الرجل قد ناصرنا ولم يخذلنا، فليس من الرجولة أن ندير له ظهرنا ونكتفي بما حققناه ، وواقع الأمر يقول إننا ما زلنا لم نحقق شيئاً ، فإن رفضنا ما تبقَّى من خططه ، وتوقفنا عند هذا الحد ، فلن يثق بنا بعد ذلك ، ولن يقف بجانبنا مرة ثانية ، ولن ينجدنا إن نحن سعينا إليه نستنصره ونستنجد به ، بل سنقيمه خصيماً لنا ، وسنجني على أنفسنا كما جنتْ على نفسها " براقش " . أومأ الرجال برءوسهم يستحسنون رأي الشيخ عبد السلام دون أن يهتزَّ لأحدهم لسان . [email protected] دنيا الوطن