مقالات حنين إلى الإمبريالية ابحث في اسم الكاتب تاريخ النشر: 27/03/2014 مرة أخرى تظهر الولاياتالمتحدة بمظهر القائد المتخاذل . الدولة العظمى التي تقود العالم الغربي لأكثر من ثلاثة أرباع القرن تعاقب روسيا على فعلتها في أوكرانيا بحرمان بعض قادة موسكو من زيارتها، وبفرض قيود على حركة رؤوس أموالهم في الخارج . مرة أخرى تقف أوروبا الغربية موقف الحيرة والتردد، لا تجرؤ مجتمعة على اتخاذ قرارات ضد روسيا تتجاوز بها القرارات الأمريكية، ولا تستطيع منفردة أن تتحمل مجرد الاحتمال بأن روسيا قد تغضب فتقطع عنها الغاز، أو ترفع تكلفة وصوله إليها . أوروبا، هذه الكلمة المثيرة بسحرها وتاريخها ومآسيها عبر القرون، لم يتوصل قادتها بعد إلى تعريف واضح لمعناها ومحتواها . ارتبطت الكلمة في قرون سابقة بسير إمبراطورياتها والصراعات بينها، وارتبطت سياسياً ومنذ نشأة الاتحاد الأوروبي، بقرارات وسياسات تتخذ في كل من لندن وباريس . تعمدت ألمانيا أن تترك لبريطانيا وفرنسا مسؤولية نشر الوهم بوحدة القارة وفشلتا، فتدخلت داعية للوحدة النقدية ومتحملة تكلفة هائلة في سبيل إقامة "أوروبا الموحدة"، دخلت تجربة إنقاذ أوروبا من الإفلاس الاقتصادي في عام 2008 ونجحت في تفادي سقوط الفكرة وكان الثمن باهظاً، وعندما انسحبت كل من بريطانيا وفرنسا من موقعي القيادة داخل الاتحاد الأوروبي تقدمت خطوات نحو القيادة، لا لتملأ الفراغ الناتج عن غيابهما أو عن عجزهما، ولكن لتمنع انفراط الاتحاد . تقدمت أيضاً لسبب لعله أهم كثيراً بالنسبة للنظام الدولي منه بالنسبة للنظام الأوروبي، تدخلت لمنع الولاياتالمتحدة من جر أوروبا إلى كوارث وحروب لا ناقة للقارة فيها ولا جمل . بهدوء وحذر ولكن بجهد ملموس تدخلت ألمانيا لمنع الرئيس بوش من شن الحرب على العراق، وهي الحرب التي أذنت، إلى جانب أشياء أخرى، بإعلان نهاية مشاركة بريطانيا في قيادة أوروبا الغربية، وربما عضويتها في الاتحاد الأوروبي . وتدخلت لتقنع بريطانيا وفرنسا بعدم التورط في أحداث ليبيا بعد الثورة، ولم تقتنعا . بقيت ليبيا الجديدة شاهدة على عمق الجريمة التي ارتكبتها الدولتان بحماية الأممالمتحدة وحلف الأطلسي . تدخلت أيضاً، بالهدوء والحذر نفسيهما، لتحول دون جرجرة أوروبا في الوحل السوري، ولكنه التدخل الذي لم يطرح بديلاً ينقذ سوريا وشعبها من مأساة لن يغفر التاريخ للكثير، عرباً وغير عرب، أدوارهم فيها . غير معروف بالوضوح الكافي الدور الذي تلعبه ألمانيا حالياً في الأزمة الأوكرانية، أوكرانيا تعني الكثير لألمانيا، فالعلاقة التاريخية والموقع الاستراتيجي وحساسية علاقة أوكرانيابروسيا، كلها عناصر تجعل ألمانيا حريصة على وقف تصعيد التوتر وتهدئة غضب موسكو وتبريد أعصاب شياطين الحرب الباردة في الولاياتالمتحدة، والانتباه بكل قوة لتحركات التيارات النازية والقومية المتشددة في ألمانيا، كما في غيرها من أقطار وسط أوروبا، تجعلها أشد انتباهاً لمشاعر الخوف لدى الأقليات العرقية، وبخاصة الروسية، المنتشرة في دول الجوار الروسي، وبخاصة في دول البلطيق ومولدوفا وأوكرانيا وجورجيا . هذه العناصر مجتمعة ومنفردة تسببت في أزمنة سابقة في إثارة حروب بدأت محلية وانتهت قارية أو عالمية . تركيزي في هذا المقال على ألمانيا لا يعني أنني أتوقع من السيدة ميركل أن تنهض مرة واحدة وتخطو خطوة واسعة نحو احتلال موقع قيادة دول الغرب في مواجهة مصيرية مع روسيا . لا أتوقع من جانب ألمانيا تطوراً من هذا النوع أو على هذا المستوى، ولكنني أشعر بأن اللحظة الراهنة في العلاقات بين الغرب وروسيا "لحظة ألمانية" بالضرورة . قليل في الصفوة الحاكمة في روسيا، وأقل منهم هنا في العالم العربي وفي إيرانوالصين، يعتقدون أنه بقي لفرنسا أو بريطانيا دور تلعبانه في أزمة دولية معقدة، مثل الأزمة الأوكرانية أو الأزمة السورية . آخرون، ربما أقل عدداً، أدركوا المدى الذي انحدرت إليه السياسة الخارجية الأمريكية، وبتعبير أكثر دقة، هناك عدد أكبر من الناس في أنحاء كثيرة من العالم صار يصدق ما يتردد أمريكياً عن "تفضيلات" الرئيس الأمريكي في السياسة الخارجية، ونيّات الابتعاد، بكل الطرق الممكنة، عن مصادر الاشتباك المسلح أو بؤر الأزمات الحادة، قد يكون غرضه الاستعداد للانتقال بكثافة وتركيز إلى الشرق البعيد، حيث المستقبل يصنع على نيران متعددة ولكن هادئة، وقد يكون غرضه التدرج نحو صيغة أمريكية أكثر تناسباً مع حقيقة قدراتها الراهنة والمتاحة . في إطار هذا الفهم أستطيع أن أقدر حساسية المفاوضات التي سوف تجرى في الرياض بين العاهل السعودي والرئيس الأمريكي، أتوقع نوعاً من العتاب المتبادل بين الطرفين، فالموقف الأمريكي من احتلال شبه جزيرة القرم، ثم ضمها إلى روسيا، دليل قوي على تساهل إدارة الرئيس أوباما في التعامل مع دول تهدد "الوضع القائم"، وتتجاوز الأعراف الدولية . من ناحية أخرى، تجد السعودية نفسها في صف واحد مع دول مثل روسياوالصينوإيران، تتعرض جميعها لتدخل أمريكي في مجالات حقوق الإنسان ومسائل داخلية، وتجد بين مواطنيها ونخبتها من يتعاطف مع روسيا في هذا الشأن، بل لعلها تكتشف أنه لا ضرر محتملاً يمكن أن يأتيها من الصين أو من روسيا، على عكس تيقنها من أن معظم الضرر الواقع عليها أتاها من أمريكا وحلفائها في الغرب . على الجانب الآخر، يشعر الأمريكيون بأن النظام العربي يمر بمرحلة صعبة لغياب بوصلة ومشروع من أي نوع أو اتجاه . والنظام الفرعي الخليجي يعاني الانقسامات وسوء الفهم، أضف إلى هذه الأسباب المشكلات الواقعة والمتوقعة في إقليم الشام والعراق وتركيا، نتيجة استمرار تردي أوضاع سوريا، ونتيجة تفاقم عواقب سياسات خليجية طويلة الأمد لدعم تيارات دينية متطرفة . من المفارقات المثيرة أنه في الوقت الذي تتأكد فيه عزيمة الرئيس أوباما على النأي بأمريكا عن الأزمات والصراعات الخارجية، وفي الوقت الذي يتأكد فيه أكثر من أي وقت مضى رغبة حكومات في المنطقة في الاستعانة بحماية قوى خارجية، يخرج روبرت كابلان، عالم السياسة المعروف بميوله اليمينية القوية، بدعوة صريحة إلى بذل الجهد لاستعادة "النظام الإمبريالي" نظاماً للحكم تتبناه الدول العظمى ضماناً للسلم الدولي وحماية للأقليات . يعتقد كابلان أن الأقليات في أوروبا شهدت عصرها الذهبي في زمن الإمبراطوريات الكبرى، ومنها الإمبراطورية العثمانية، وأن التوازن الإمبراطوري كان كفيلاً بتحقيق درجة مناسبة من الأمن والسلم الدوليين . روسيا، في رأي كابلان، تمارس سياسة "إمبراطورية" بغزوها أجزاء من أوكرانيا وسعيها لفرض سيادتها على دول وأقاليم أخرى في جوارها الإقليمي . وأمريكا في رأيه، الدولة الإمبريالية بامتياز تتخلى الآن عن تقاليدها الإمبراطورية، لا أحد بين المؤرخين العظام أنكر أن للتوسع الإمبريالي الأمريكي الفضل فيما وصلت إليه أمريكا من قوة، وما تحقق للعالم من أمن وسلام في ظل هيمنتها "الإمبراطورية" . هذه الإمبراطورية، حسب تحليله، يحسن أن تعود . جميل مطر الخليج الامارتية