عاصر د . نادر الفرجاني مرحلتي ما قبل وما بعد ثورة 25 يناير 2011 في مصر، وكتب كثيراً حول الحكم التسلطي، وكيفية التخلص منه، فقد كان من أوائل الذين تنبأوا بالثورة، وها هو الآن يتنبأ بثورة مصرية جديدة تطيح بكل أشكال القهر والقمع . للفرجاني العديد من الدراسات والاسهامات في مجال الاقتصاد والتنمية، حيث عمل رئيسا لفريق تحرير تقرير التنمية العربي الصادر من برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة UNDP، ورئيسا لمركز المشكاة، وقام بالتدريس في العديد من المؤسسات منها جامعة القاهرة وجامعة نورث كارولينا في الولاياتالمتحدة والجامعة الأمريكية في القاهرة والمعهد العربي للدراسات والبحوث الإحصائية في بغداد، والمعهد العربي للتخطيط في الكويت وكلية سانت أنتوني في أكسفورد في بريطانيا، وكذلك المجلس القومي للسكان والجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء بالقاهرة . عمل الفرجاني مستشاراً لعدد من المنظمات المصرية والعربية والدولية، وقام بنشر العديد من الأبحاث والكتب في مجالات السكان والهجرة الدولية وسوق العمل والتعليم والفقر والتنمية في مصر والبلاد العربية، وكانت مقالاته حول حكم النظام السابق قد تعرضت للمنع قبيل الثورة، وقد عاد بعد الثورة ليكتب وينشر كتاباته التي تتنبأ بقيام المزيد من الموجات الثورية التي ستحقق أهدافها حتماً . صدر له العديد من الكتب آخرها "ثورة الياسمين" و"التنفس تحت الماء . .التوق للثورة تحت الحكم التسلطي" . "الخليج" التقت د . نادر الفرجاني وكان هذا الحوار: بالنظر إلى الثورات العربية التي اندلعت على التوالي تحت الشعارات والأهداف نفسها تقريباً، هل تستشعر تغييراً ما طرأ على سلوكيات الجماهير العربية في تعبيرها عن نفسها؟ السلوك تعبير عن تراكم ظواهر موضوعية، وثمة تزاوج بين الحكم التسلطي والنظام الرأسمالي، أفرز هذا التزاوج نظاماً اقتصادياً سياسياً يعاني الأغلبية فيه من الإفقار والتهميش والفقر والقهر، بينما قلة قليلة تتمتع بثراء فاحش وكل هذا يؤسس لحالة من التزاوج بين السلطة والثروة تؤدي حتما إلى نشوء نوع من الفساد الواضح، حدث هذا في عدد من البلدان العربية حتى أصبح الناس غير قادرين على احتمال هذا المزيج السام من الفقر والقهر، وكان من الطبيعي أن يجدوا طرائق للثورة على كل ذلك . بدأ الأمر في تونس لأنها تتميز عن باقي البلدان العربية بعاملين مهمين: الأول هو تاريخ طويل من مؤسسات المجتمع المدني، القوية والفاعلة والنشطة، التي حاول النظام التسلطي في تونس تحت حكم ابن علي أن يقتله، لكن واضح أنه لم يقدر، قضى على الظاهر لكن ظل الأساس مشتعلا تحت الرماد، العامل الثاني الذي تتميز به تونس هو انتشار التعليم وجودته، هذان العاملان تفاعلا وأنتجا البداية لما أسميه المد التحرري العربي، بدأ الأمر في تونس بسخط شعبي عارم، على مزيج الفقر والقهر وساعد في هذا حيوية المجتمع المدني، لذلك كان "الاتحاد القومي للشغل" أحد القوى الفاعلة في الثورة، وهو يوازي "نقابة العمال" في مصر . لا تفضل لفظة "الربيع العربي" ما الاسم الأنسب في رأيك؟ أفضل مسمى "المد التحرري العربي"، أما مصطلح الربيع العربي فيعطي إيحاء بأننا إزاء موسم مبهج، لكنه غالباً قصير وسيتغير، في حين أن ما نشاهده في الواقع هو عملية تاريخية معقدة مربكة وستستمر لفترة وتحتمل انتصارات كما تحتمل تراجعات وهزائم، نتحدث عن عملية تاريخية فيها مد وجزر لذا تعبير المد أنسب . الثورات يناسبها تعبير "الأمواج"، التاريخ يعلمنا ذلك، فالثورات عادة تأتي على هيئة أمواج، وإذا انكسرت موجة فإنها عادة تتبعها موجات لاحقة حتى تتحقق أهداف الثورة، إذا لم تتحقق في الموجة الأولى . ينطبق هذا تماماً على حالة مصر، ففي تقديري الموجة الأولى من الثورة الشعبية العظيمة كُسرت بفعل سوء إدارة الفترة الانتقالية تحت الحكم العسكري، وكٌسرت أيضا بوصول الإسلام السياسي إلى الحكم، وهو استمرار للحكم التسلطي الذي أبقى عليه العسكر، ونجد له أشكالاً جديدة في ظل سيطرة الإسلام السياسي، بالضبط هو النظام الذي قامت الثورة لإسقاطه ولم تنجح في ذلك بعد . النظام الحالي متسربل بمسوح إسلامية شكلية، لأن ما تبين لنا بالتجربة الفعلية وليس فقط بالموقف النظري، أن الإسلام السياسي ليس له من الإسلام إلا الاسم والشكل بينما هو في جوهر حكمه بعد وصوله للسلطة حكم تسلطي، تحالف مع نوع من الرأسمالية المنفلتة والاحتكارية المستغلة، هي نفسها التي كانت قائمة في عهد النظام السابق . هل ترصد سمات اجتماعية مشتركة بين الشعوب العربية في إعلانها عن نفسها؟ حتى الآن السمات المميزة للانتفاضات الشعبية، وبدايات الثورات الشعبية على الحكم التسلطي، كان بها سمات مشتركة، الأولى أنها كانت في أغلبها احتجاجات شعبية عارمة ولكن سلمية، وهذا شيء عظيم في الحقيقة وهو ما أكسب احترام العالم وتقديره لهذا المد التحرري العربي بحالاته المختلفة . احتجاجات سلمية على قهر وإفقار تراكم طويلاً، حتى لم يعد ممكنا لدى الشعب أن يطيقه، السمة الثانية هي الاشتراك في الغايات التي استهدفتها الانتفاضات الشعبية العربية العظيمة في البلاد العربية المختلفة ويمكن تلخيصها في الحرية والعدل والكرامة الإنسانية، وهذه هي نقائض الفقر والقهر الذي أذاقه الحكم التسلطي والرأسمالية المستغلة والاحتكارية للشعوب عبر فترة طويلة، السمة الثالثة أنه بالإضافة للمطالبة بالحرية والعدل والكرامة الإنسانية، هناك نزوع ورغبة جديدة في التوحد والتكامل العربي، وهذا ظهر في كل الانتفاضات العربية، الشباب في مصر تعلموا عبر الإنترنت تجارب تونس، وأوصلوها لإخوانهم في اليمن وسوريا، وهذه البداية الجديدة لحس عربي مشترك من السمات المهمة للمد العربي الجديد . هذا الحس العام في اتجاه المد التحرري العربي هل هو باتجاه الخريف؟ لو فهمنا المد بالمعنى المركب المعقد، فهو يحتمل انتصارات وتراجعات، لكنه في النهاية سينتصر حتماً، أنا من دون أي تردد أعتقد أن عصر الحكم التسلطي الاستبدادي الفاسد، الذي وإن كان قائما في أغلب البلدان العربية انتهى، هي فقط مسألة وقت، حتى في معاقل الحكم الاستبدادي في بعض الدول، هناك اعتراف داخلي على رأس السلطة أنها مسألة وقت.