علي عبدالله صالح سيكون مرتاح الضمير وهو يشاهد الرئيس المنتخب بعده يتسلم السلطة دونما معوقات واحتكاماً للصندوق، لأنه كان صاحب الفضل في ذلك، وستذكر له الأجيال القادمة هذا الفضل أبد الدهر إصرار الرئيس علي عبدالله صالح، على عدم الترشح للانتخابات الرئاسية يوم أمس، ورفضه الضغوطات المُلِحة لأعضاء المؤتمر، الذين حاولوا إثناءه عما عزم عليه في ال17 من يوليو الماضي.. ذلك الإصرار فاجأ الجميع، وأربك مختلف الأوساط السياسية، والحزبية والثقافية، بعد أن كانت قد وصلت إلى قناعة كاملة بأنه سوف يتراجع عن قراره، حيث ظنوا أنهم قد نجحوا في إقناعه بأن الحاجة إلى بقائه في الرئاسة لفترة ثانية لا تزال ضرورية وملحّة لعدة أسباب، أهمها أن الواقع اليمني الراهن بمعتركاته السياسية والاقتصادية والأمنية، لا يزال في طور التشكل والتبلور المؤسساتي ولما يكتمل بعد، ويحتاج إلى مزيد من الجهد والرعاية، تمكن أي قادم إلى الرئاسة عبر صناديق الاقتراع من استلام السلطة بسلاسة ومرونة وطمأنينة. لكن ضُحى الأمس أعاد اليمنيين إلى حالة الترقب والقلق من جديد، ومنهم السياسيون الذين كانوا يظنون ويروّجون أن قراره بعدم الترشح هو نوع من المناورة، والتكتيك السياسي المرحلي، فصعقتهم المفاجأة.. واكتشفوا أن الأمر ليس بالهزل، وأنه جدُّ خطير، يستدعي الوقوف أمامه بجدية، ليس من أجل علي عبدالله صالح، وإنما من أجل مستقبل اليمن، بعدما ظهر جلياً الموقف المتصلب لفخامة الرئيس في رفضه الرئاسة وزهده في السلطة، التي اعتبرها مغرماً لا مغنماً لدرجة أنه قابل إصرار أعضاء المؤتمر على حسم ترشيحه للرئاسة في جلسة الأمس بالرفض الحاسم، معتبراً ذلك اسلوباً مسرحياً يبرر العودة إلى الحكم، لا تقبل به كرامته ولا نفسه الأبية.. ولم يكتفِ بذلك فأعلن بشجاعة نادرة تعودناها منه طيلة 28 عاماً ماضية أن فترة حكمه لم تخل من سلبيات، مكرراً طلب السماح من شعبه مرتين. قال ذلك بكل صدق وعفوية، لكنه لم يقل لنا بأن فترة حكمه تحقق فيها لليمن ما لم يتحقق لها منذ انهيار السد، وتفرق أيدي سبأ، لأنه لم يتعود «المن» على شعبه، والظهور أمامهم بمظهر المتفضل عليهم.. ومع ذلك فمن واجبنا تذكيره بأن ما فعله سيجعله خالداً في القلوب وحاضراً في الأذهان، أما الهفوات والسلبيات فلا تكاد تذكر مقارنة بعظمة انجازاته وتضحياته.. والقاعدة الشرعية التي تقول: «إذا بلغ الماء القلتين لا يحمل الخبث» تنطبق عليه، أسوة بنظرائه من العظماء الذين سجل لهم التاريخ ما حققوه من نقلات للإنسانية، وماعدا ذلك يذهب أدراج الرياح.. وفي هذا المضمون نتذكر مقولة الرسول الكريم: «لعلّ الله اطلع على آل بدر، فقال: افعلوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم»، وذلك بعدما تعرض أحد الصحابة من أهل بدر للتوبيخ بسبب معاونته كفار قريش.. ما يؤكد أن الإنسان قد يخطئ ويصيب، لكن من غلبت حسناتُه سيئاتِه، لا يستحق التوبيخ أو الإساءة، فما بالكم برجل ك(علي عبدالله صالح) نذر نفسه لوحدة بلده وشعبه، ووهب حياته من أجل اليمن.. يقابل النكران بالحلم، والغدر بالصبر، والإساءة بالصفح الكريم، ولم تعرف عنه الإساءة لأحد قط. يقيناً نعلم أنّ لكل شيء نهاية، وأنّ علي عبدالله صالح قد حقق لنفسه ما هو أهم من السلطة وكرسي الرئاسة.. مجداً مؤثلاً.. وخلوداً أبدياً لتحقيقه الوحدة ودفاعه عنها، إلاّ أنه بثاقب بصره ونفاذ بصيرته لا يريد أن يترك بلده وشعبه نهباً للأحقاد والحروب.. وهو محق في ذلك فلا غرو أن تخفق نبضات قلبه خوفاً على وحدة وطنه واستقراره إذا ما تنازل أو رحل، لذلك يسعى لتسليم السلطة سلمياً لمن يختاره الشعب، الذي هو واحد منهم.. إلاّ أننا نريده أن يضع في حسبانه - ومعه من يزينون له ترك السلطة في هذا الظرف الراهن- أن الأوان لم يحن بعد، وأن ثمة استحقاقات ينبغي عليه أن يكافح ويناضل من أجلها، وتحتاج منه على الأقل ما كفله له الدستور من دورة رئاسية ثانية، وهذه الاستحقاقات تتلخص فيما يلي: - بناء وترسيخ ما تبقى من مؤسسات الدولة المدنية الحديثة المحتكمة للوائح والنظم والقوانين، بعيداً عن «كاريزما» الأشخاص وتأثيراتهم. - القضاء على الفساد، ومحاربة المفسدين، واستكمال منظومة القوانين الكفيلة بذلك. - المزيد من تشجيع العمل الديمقراطي والتعددية السياسية، خصوصاً أن مختلف الأحزاب الظاهرة في الساحة لا تزال أسيرة القشور والمظاهر، ولم تقدم ما يستحق الذكر والإشارة، ناهيك عن الإشادة. - تحقيق المزيد من الضمانات التي تجعل من الاحتكام للدستور والقوانين وصناديق الاقتراع وسيلة التغيير المثلى، وبما يكفل انتقال السلطة بسهولة ويسر. - وأعتقد أن ما سبق لن يتأتى برحيله الآن، وإنما بجهد دؤوب، وتصميم وعزم، لن يقدر عليه- في الوقت الراهن- سوى الرئيس علي عبدالله صالح، وهو ما تعلمه قيادات المعارضة ومثقفوها قبل المحسوبين على الحزب الحاكم، وإن كانوا لا يحبون ذكره من قبيل النكران أو الابتزاز، ومع ذلك فالوطن أكبر من الأحزاب، وأبقى لنا وأهم من كل البشر. لذلك كله نؤمن أن مهمة علي عبدالله صالح، لم تنته بعد، وأن أمامه قبل ترك الرئاسة مهاماً شاقة وجسيمة، يريد شعبه أن يحققها له في الفترة الدستورية المسموح له بها.. وبعدها من حقه أن يلتفت لنفسه وشؤونه الخاصة.. وأجزم أنه سيكون هادئ البال مرتاح الضمير، وهو يشاهد الرئيس المنتخب بعده يتسلم السلطة دونما معوقات احتكاماً لصندوق الاقتراع، ومبدأ التداول السلمي للسلطة. أثق أنه حينها سيشعر بالبهجة والسرور، لأنه كان صاحب الفضل في ذلك، دون فرض من أحد، ولن يدخل التاريخ من أوسع أبوابه فقط، وإنما سنشعر من بعده بالأمان.. وستذكر له الأجيال القادمة هذا الفضل أبد الدهر، باعتباره أول زعيم عربي فعل ذلك. السبت 3 يونيو 2006م