لم يكن مُستغرباً سلوك حكومة الإحتلال التي اعتادت عند اقتراب تنفيذ الإستحقاقات المترتبة عليها في كل مرحلةٍ من المراحل منذ توقيع اتفاق أوسلو حتى وقتنا الراهن ، أن تنتهج سياسة التعطيل والإبتزاز والمماطلة وشّن العدوان من أجل خلط الأوراق والعودة إلى مربع الصفر تحت ذرائع ومبررات واهية كما حدث وقت انتهاء المرحلة الإنتقالية في أيار 1999 واتفاقيات واي ريفر وبروتكول الخليل وخارطة الطريق وغيرهما الكثير لأسباب تتعلق بموازين القوى غير المتكافيء والإستهتار بالطرف المقابل ، فضلاً عن أطماعها التوسعية ونظرتها الإستخفافية تجاه المجتمع الدولي وقرارات الشرعية الدولية ، لكن هذه المرّة كانت اللطمة موجّهة بشكلٍ مباشر للراعي الأمريكي حين تنكّرت للإلتزام الذي قطعته على نفسها أمام وزير الخارجية الأمريكي بإطلاق سراح الأسرى القدامى ماقبل اتفاق أوسلو البالغ عددهم مائة وأربع مقسّمين على أربع دفعات كان موعد الدفعة الأخيرة في التاسع والعشرين من اذار الفائت بينهم عدد من معتقلي فلسطينيي الداخل ، مقابل تأجيل حق الانضمام للمؤسسات والوكالات والإتفاقيات والمعاهدات الدولية المنبثقة عن هيئة الأممالمتحدة لمدة تسع أشهر تنتهي في التاسع والعشرين من نيسان الشهر الجاري الهدف منها إتاحة المجال للإدارة الأمريكية إنضاج مقاربات تتمحورحول مجمل قضايا الوضع النهائي المتمثلة بالحدود ، القدس ، اللاجئين ، المياه ، الأسرى . غير أن جهود الوزير "جون كيري" اصطدمت بالشروط التعجيزية الناجمة عن رفض الإحتلال من حيث المبدأ لأي حلٍ عادلٍ يعيد الحقوق لأصحابها الشرعيين ، وبالتالي تراجعت الإدارة الأمريكية هي أيضاَ عن جهودها ووعودها أمام مجموعات الضغط الداخلي الموالي لإسرائيل واعتبارات انتخابية ، ثم استبدلته تحت عنوانٍ مختلف اسمته بلورة اتفاق إطار للمفاوضات غير ملزم للطرفين ، بصريح العبارة اتفاق إطار مفاوضات من أجل المفاوضات يتماهى تماماً مع الإملاءات والشروط الإسرائيلية على رأسها الإعتراف بيهودية الدولة الذي أضحى مطلباً أمريكياً وفق التصريحات الرسمية الصادرة عن البيت الأبيض لايمكن وصفه سوى ترسيم للإحتلال والتخلي الطوعي عن الحقوق التاريخية والوطنية والتشكيك بمصداقية الرواية الفلسطينية وكذا الإنجازات التي تحققت بفعل التضحيات الجسام على مذبح الحرية والإستقلال ليس أخرها الإعتراف الدولي بدولة فلسطين بصفة مراقب مايتيح لها مزايا تمكنّها من تجريم الإحتلال وملاحقته قانونياً على مختلف الأصعدة إضافة الى القرارات المتتالية الصادرة عن منظمات حقوق الإنسان واليونسكو التي تصبّ في خانة عدالة القضية الفلسطينية ، وكان من الطبيعي والمنطقي أن لاتجد مثل هذه المشاريع التصفوية والأفكار الساذجة مكاناً لها أوتلقى أذاناً صاغية عند الفلسطينيين بكونه انتحار سياسي بكل ماتحمله الكلمة من معنى للمشروع الوطني الفلسطيني برمّته ، وجدير بالذكر أن إطلاق سراح الأسرى ليس مرهوناً بالنتائج المترتبة على المفاوضات الأمريكية بين الجانبين ، إنما هي منفصلة تماماً عن العملية المحددة زمنياً . من المفارقات الغريبة أن حكومة الإحتلال العنصرية التي يبدو أنها تفاجأت بالقرار الفلسطيني ورسمت حساباتها وفق تقديرات خاطئة للواقع الراهن الذي تشوبه عوامل الوهن والإنقسام الداخلي وعدم قدرة القيادة الفلسطينية على اتخاذ خطوات كبيرة من شأنها قلب المعادلة التي فرضها الإحتلال طيلة السنوات الماضية ، لم تكن مقتنعة بداية الأمر أو وارد في قراءتها لمجريات الأمور بأن القيادة الفلسطينية جادّة في مسعاها التوجّه إلى مؤسسات الأممالمتحدة واعتبرت قرار التوقيع على طلبات الإنضمام لخمسِ عشروكالةٍ ومعاهدةٍ واتفاقيةٍ دولية الذي تمّت مشاهدته على الهواء مباشرة كخطوة أولى أثناء اجتماع القيادة يندرج في إطار التكتيك الفلسطيني لتحسين الشروط التفاوضية وبالتالي عندما اكتشفت أن الأمر غير ذلك خلق لديها حالة من الإرباك الشديد والإنسعار والإنفلات الإعلامي المليء بالكراهية والتهديد والوعيد من قبل وزراء الإئتلاف اليميني المتطرف ماأدى إلى إلغاء الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى والدعوة العلنية لاتخاذ اجراءات صارمة تتراوح بين إلغاء اتفاق أوسلو وإعادة احتلال غزة والضفة وضم الكتل الإستيطانية الكبرى حسب وصفها إلى السيادة الإسرائيلية من جانب أحادي ، وبين التصفية الجسدية واعتقال الرئيس الفلسطيني إضافة إلى إجراءات عقابية أخرى بينها تجميد عوائد الضرائب الفلسطينية التي تجبيها عبر المنافذ البرية والبحرية لقاء نسبة معينة . أما الإدارة الأمريكية التي تجمع معادلة الخصم والحكم بالنسبة للفلسطينيين تعلم دقائق التفاصيل بل وساهمت بانحيازها الكامل لحليفتها الإستراتيجية بدفع الأمور إلى النتائج الماثلة أمامنا باتجاه الإستعصاء والفشل المحتوم ، ثم تجاهلت ماوعدت به عند بدء مساعيها بالكشف عن الطرف المعطّل للمسارالتفاوضي علانية واكتفت بتحميل المسؤولية للطرفين وتقول أنها تفكر بالإنسحاب من عملية الوساطة وهي تجري حالياً إعادة تقييم شاملة للخطوات اللاحقة ، مع أن تخلّيها عن الوكالة الحصرية لعملية التسوية بالمنطقة المضطربة التي تشهد تحولات نوعية في الظروف الراهنة يفقدها أهم القضايا المؤثرة على الساحة الدولية في ظل تراجع دورها الذي تفرّدت به على مدى عقود خلت ، وربما تأتي خيبة الأمل هذه كورقة ضاغطة على الطرفين ، والحقيقة على طرفٍ واحد ، لإيجاد مخرج قبل نهاية أبريل الجاري إذ لايُعتقد بأنها ستتخلى عن جهودها حتى من باب إدارة الأزمة خشية نقل الملف الفلسطيني إلى الأممالمتحدة للقيام بمسؤولياتها تجاه أخر احتلال يشهده العالم ، وهو مادفع المبعوث الأمريكي لعملية التسوية "مارتن أنديك"من محاولات ربع الساعة الأخيرة ، بالرغم من الأجواء المشحونة والصخب الذي رافق اللقاء الأول بعد القرار الفلسطيني ، وحتماً سوف يتحمّل الجانب الفلسطيني في كل الأحوال التداعيات التي أدت إلى الفشل على اعتبار أن حكومة الإحتلال معفاة من أي مسؤولية وفق العُرف السياسي الأمريكي السائد وهو مابدأت ارهاصاته تتفاعل من أروقة المشرّعين لكلا الحزبين الموالين لإسرائيل في مجلسي الشيوخ والكونغرس الأمريكيين بالدعوة الصريحة لوقف المساعدات الممنوحة للسلطة الوطنية الفلسطينية على خلفية ماحصل . إن الخطوة الفلسطينية الهامة باتجاه الإنضمام للوكالات الدولية ينبغي عدم التقليل من شأنها وكذلك لاينبغي التهويل بنتائجها إذا ما توقّفت عند هذه الحدود ، وهذا يتطلب وقوف الجميع أمام مسؤولياتهم الملقاة على عاتقهم واستثمار تراكم الإنجازات المحققة باتجاه رسم استراتيجية وطنية جامعة تستطيع تغيير قواعد العملية السياسية والكفاحية لمصلحة الشعب الفلسطيني والتصدي لكل أشكال المخاطر القادمة في مواجهة العربدة الإحتلالية ، وعدم الإكتفاء بإبداء الرأي بالإشادة من عدمها أزاء القضايا المصيرية ومن المؤسف حقا أن لايلمس المواطن الفلسطيني الأرتقاء بالخطاب السياسي قولاً وفعلاً إلى المستوى المطلوب وطنياً في هذه الظروف الصعبة والإستثنائية ، لقد كانت المخاطر دائماً أهم العوامل المُحفّزة لرّص الصفوف وإلقاء الخلافات خلف الظهور واستعادة الشعب وحدته الوطنية أمام العدوان والتهديد باعتبار أن الجميع مستهدف ولا فرق بين طيفٍ وأخر فلماذا يتأخر البعض عمّا هو ضروري ؟ تكمن الأولوية بتحصين الساحة الداخلية ومغادرة النظرة الضيقة التي تجاوزتها الأحداث قبل التوجه إلى أي مكان أخر لأن القرارالوطني المستقّل إذا لم يكن مُسيّجاً محمياً داخلياًً سيكون سهلاً على الإختراق تلك هي المعادلة الموضوعية غير القابلة للتغيير في كل زمان ومكان. [email protected]