ستراً على السلوك الإذلالي من أمريكا تُجاه عملائها الذين قّدموا لها من الخدمات ما قدّموا ، يتساءل نيكسون بتعجّبٍ مصطنع، وحزنٍ كحزن الصياد وهو يذبِّح العصافير وقد وقعت في يديه: إلى متى ستبقى أمريكا تنتهج هذا النهج الشائن مع عملائها كالشاه، لائِماً لها على هذه السياسة، إشفاقاً أن يفلتَ العملاءُ من وَثاقها، فيقول: «تُرى كم من الحكّام في المستقبل سيغامرون بالوقوف إلى جانب أمريكا؟! وبوسعنا أن نكون على يقينٍ بأنّ الأمير فهد الذي كان يسيطر على صنابير النفط، والملك حسين الذي يجلس على كرسي العرش في جِوار الضفة الغربية، والملك الحسن الذي بجانب مضيق جبل طارق، يترقّبون بحذرٍ وتساؤل، المصير الذي لقيه الشاه، وأنّ ما وصلت إليه درجة معاملة الولاياتالمتحدة له من السوء، ستكون أكبر حافز لهم على عقد أفضل الصفقات التي يمكنهم صنعها مع المناوئين للأمريكيين». من هنا يقرر نيكسون، تطميناً لمن يدور في فلك أمريكا من الحكّام أن لا يصيبهم ما أصاب الشاه من نبذهم وتركهم يُلاقون مصيرهم البائس وحدهم، فيقول: «يجب أن نؤكَّد بشكلٍ واضح لا غموض فيه لزعماء العربية السعودية وعُمان والكويت والدول الرئيسة الأخرى في المنطقة، أنه في حال تهديدها من قبل القوات الثورية من الداخل أو من الخارج، فإنّ الولاياتالمتحدة ستقف إلى جانبهم بكل حزم، وهكذا لن يُعانُوا من المصير الذي لقيه الشاه». قلتُ: ولكنهم سيبقون مضبوعين بها على الرغم من كل هذه الشواهد الإهانية الفاقعة، وهاتيك الدلائل الإذلالية الصافِعة؛ لأن من شبّ على شيءٍ شابَ عليه، ذلك لأنّ سياسة أمريكا مع عملائها –فوق ما قلت: إنها سياسة العصا والجزرة– هي سياسة التبعية كتبعية الفطيم لأمه. وهي ربط مصير هؤلاء العملاء بمصير أمريكا نفسها. وها هو نيكسون يقول في هذه المذكرات ما نصُّه: «ينبغي لنا أن نُصرَّ على مطالبة من يتلقَّوْن مساعدتنا أن يتبنَّوْا نظامنا السياسي، بل علينا أن نربط المساعدة بسياسة اقتصادية سليمة»؛ أي إنه الإذلال بعينه، والاستعمار بذاته. أما السياسة الاقتصادية السليمة، فهي كما يهوى السيد المتحكم، ويطِيب للمانح المنّان، وكل شيءٍ كما يقولون بحسابه. وإذا كانت أمريكا تدعي أنها تقود العالم الحر، وتحترم فردية الإنسان، وتسعى إلى تخليصه من الوقوع في براثن الاتحاد السوفيتي الأحمر، فإنها لا تظهر كاذبةً في شيءٍ ككذبها في هذا الادعاء؛ ذلك لأنه إذا كان الاتحاد السوفيتي –ودونما أدنى شك– ظالماً ومستعمراً ومستبداً، فإن أمريكا لا تقل عنه البتّةَ في كل هذا، بل قد تزيد وإلا فأين مطالبتها الشعوب بالحرية، وهي تساعد على طرد الشعب الفلسطيني من أرض آبائه وأجداده عشرات القرون، لِتُحِل محلَّه شعباً آخر قضى حياته أفّاقاً أفّاكاً، لسوء صنيعه وقُبح أخلاقه، هو الشعب اليهودي. وهو ما يظهر بوضوحٍ في كلام الرئيس نيكسون في هذه المذكِّرات التي يجعل فيها من أولويات أمريكا الأخلاقية المحافظةَ على الكيان الإسرائيلي، وبمعنى أوضح، الإبقاءَ على الشعب الفلسطيني مشتّتاً في مختلف أرجاء العالم، قابلاً بالظلم والهوان، فها هو يقول: «إن إحدى الأولويات التي يجب أن تنطلق منها السياسات الأمريكية، هي التزامها الأخلاقي الشديد نحو المحافظة على دولة إسرائيل»! والمصيبة هنا أن رئيس أكبر دولةٍ في العالم تدّعي التنوّر والديمقراطية وقيادة العالم إلى أفناء الحرية، وأنها تقف إلى جانب المظلومين، يعتبر ظلم الشعب الفلسطيني من أهم أخلاقيات هذه الدولة وأول أولوياتها، كما يقول، غير أنّه لا يهمّه شيءٌ من هذا الاعتراض، إذ إن الحرية والعدالة والديمقراطية لها مفهوماتها الخاصة عند دول الغرب، ولو خالفها في ذلك العالمُ كلُّه. ومن هنا التزم الرجل بكلامه واقعاً وحقيقةً في الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973 فقال: إنّ من دلائل ذلك (جسرنا الجوي الذي أقمناه إلى إسرائيل، واستنفار قواتنا الذي أمرتُ به شخصيّاً إبان حرب 1973، مع علمي بأن هذه الإجراءات قد تؤدي إلى حظر النفط العربي)، لكنّه يستأنف فيقول: إننا فعلنا ذلك ليكون (بمثابة إعلانٍ لأي مدىً ستمضي الولاياتالمتحدة للحفاظ على التزامنا بالمحافظة على بقاء إسرائيل). وليس هذا فحسبُ، بل إنه يشترط في أية اتفاقيات بين العرب واليهود، الاعتراف بدولة «إسرائيل»، ورفض استخدام أي نوع من القوة ضدها، إذ إنّه عندئذٍ عملٌ إرهابيٌ. يقول: «في المقام الأول إن أية مجموعة تدّعي بأنها تمثل الفلسطينيين، أو تمثلهم فعلاً، يجب أن تعترف بحق إسرائيل في الوجود بسلام، ويجب أن ترفض استخدام الإرهاب أو العمل المسلح مع إسرائيل، أو المواطنين الإسرائيليين، كما يجبُ أن تُنزعَ الأراضي المحتلة التي تُعيدها إسرائيل من السلاح».