في منطقة ريفية نائية وبعيدة وسط اليمن, قرر أحد الأطباء الذي فتح هنالك عيادة صغيرة, أن يمدد أيام دوامه الأسبوعي في العيادة من يومين إلى خمسة أيام, من أجل المعاينة الصحية والتعامل مع عدد كبير من حالات الأطفال المندفعة نحو عيادته, ذوي العيون الجوفاء التي حافظت على ظهورها الدائم كل صباح جديد. بالفعل هذا العام، كانت هنالك حالتان لاثنين من الأطفال الذكور, المصابين بسوء التغذية الحاد قد ذبلت ولم يكن هنالك أية أمل لإنقاذ حالتهم المزرية. الطبيب عبده علي سعد، أبقى صور الطفلين اللذين يتراوح سنهما بين العامين والأربعة أعوام في ذاكرة هاتفه المحمول: كطريقة أراد من خلالها الطبيب التذكير بهول المخاطر التي تواجه الأطفال في الريف اليمني والتي تلاقي إهمالاً كبيرا من قبل الحكومة اليمنية منذ فترات طويلة، مع زيادة مرتفعة لمثل هذه الحالات هذه الأيام متروكة دون أدنى اهتمام أكثر من أي وقت مضى. يقول الدكتور سعد مشيرا بأصبعه إلى جمع من الآباء والأمهات الذين ينتظرون دورهم خارج العيادة "هذا هو الحال كل يوم", وتبدو حالة الإرهاق والتعب الشديد على الآباء والأمهات الذين قطعوا طريقا طويلة من أجل الوصول إلى العيادة, وهي حالة بدت بالكاد أفضل حالا من حال أطفالهم. يقول الدكتور سعد: "حالة سوء التغذية, حالة طارئة تستعدي سرعة المعاينة والعلاج". * الأكثر فقرا وتعد اليمن هي البلد الأكثر فقرا في منطقة الشرق الأوسط، وتوضح إحصائيات الفروق أن هذا البلد حسب المؤشر القاتم يسجل أحد أعلى معدلات سوء التغذية بين الأطفال في العالم. وقد ساق الاضطراب السياسي منذ انتفاضة العام 2011 ضد الرئيس السابق علي عبدالله صالح إلى خلق حكومة ضعيفة بالفعل, مع أقل قدرة على رعاية مواطنيها المعوزين. لقد أصبحت جميع التحديات المزمنة ضمن حالات الطوارئ، في ظل وجود دولة بدأت تذوب بسرعة في كثير من مناطق اليمن. هنالك أكثر من مليون طفل في اليمن دون سن الخامسة -وهو عدد يمثل ما يقرب ثلث هذه الفئة العمرية في اليمن- يعانون من سوء التغذية الشديد الذي يهدد الحياة، وهذه الإحصائية جاءت وفقا لدانييلا دورسو، رئيس مكتب المساعدات الإنسانية التابع للمفوضية الأوروبية في اليمن. هنالك أيضا أكثر من حوالي مليوني طفل يعانون من سوء التغذية المزمن. ووفقا للعاملين في وزارة الصحة العامة فإن ما يقرب من 60% من الأطفال اليمنيين يعانون من توقف النمو، مع ملاحظة أن الأشهر القليلة الماضية قد سجلت اتجاهات مقلقة أخرى، بما في ذلك حالات سوء التغذية التي قد تسوق إلى تفشي أمراض خطيرة أخرى مثل السل.. تقول السيدة دروسو "إن مثل هذا الوضع وهذه الحالة التي يشهدها الأطفال في اليمن هي حالة غير مسبوقة". * نزيف الحوثي وقد أدى الصراع الأخير على السلطة في اليمن إلى أن تشهد البلاد نزيفا حادا, خصوصا مع صعود الحوثيين، الجماعة المتمردة القادمة من أقصى الشمال, والتي وجهت طريقها نحو العاصمة صنعاء في خريف هذا العام، في خطوة منها هدفت للاستيلاء على السلطة وشل ومصادرة جميع سلطات الحكومة المركزية. يقول مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة السيد جمال بن عمر إن اليمن دولة ضعيفة غير قادرة على توفير كلٍ من الأمن والخدمات الاجتماعية لمواطنيها. وقد قضى المبعوث الأممي أكثر من عامين في محاولة كبيرة لرعاية خطة الانتقال المدعومة من دول الخليج العربي, مع ذلك يبدو أن هذه الخطة كل يوم يصاحبها الخطر. وعن الأزمات الإنسانية غير المسبوقة يؤكد بنعمر أنها "إلى حد كبير كانت نتيجة لفشل الحكم وسوء الإدارة"، معتبرا أن الخروج من هذه الأزمة هو الكفيل بالوقوف مع اليمن ومساعدتها في تجاوز كل الصعاب والعراقيل. * تسول على الطريق السريع ومع عدم وجود نهاية في الأفق للأزمة السياسية الحادة التي يشهدها اليمن فقد بدا اليأس واضحا في زيارات بن عمر الأخيرة إلى أجزاء عديدة من جنوب ووسط اليمن. وقد تم ترتيب هذه الرحلة من قبل الهيئة الطبية الدولية، وهي منظمة غير ربحية تدعم عشرات من المرافق الصحية وتقوم بتدريب عدد كبير من المتطوعين من المجتمع المحلي الذين يسافرون إلى القرى البعيدة والنائية جدا عن متناول العيادات. على الطريق من المدينة الساحلية الجنوبية (عدن) إلى عيادة الدكتور سعد في حي ميلا ، تزحف كثبان من رمال الصحراء على الطريق السريع، وهو ما يهدد الأراضي الزراعية الخصبة. ويتجمع حشد من الأولاد الحفاة على الحواجز العسكرية لبيع أكياس من عناقيد الجوافة في محاولة لإغراء السائقين.. أبعد إلى الشمال – حيث لم يتم إصلاح أجزاء من الطريق التي جرفتها سيول الأمطار، يستخدم الرجال مضخات الديزل وخراطيم سحب المياه من الخور والبرك القذرة في محاولة لغسل السيارات العابرة التي يبدو من أنها أبدا لن تتوقف. في عدد من المناطق غير المزدحمة التي تقع في أبعد مسافة من المدينة, تقف مجموعات من الأسر على الطريق السريع باذلة جهودا فاترة للتسول.. الكثير من هذه الأسر هم من المهاجرين من الأماكن الأكثر بؤسا باتجاه اليمن مثل الصومال وبلدان القرن الإفريقي. * أغنى رجل في القرية لا توفر القرى في اليمن أية علامات للراحة، ومن بين المنازل المبنية من الطوب, والمتناثرة في الرقة، يمتد طريق وعر لمدة نصف ساعة بالسيارة من عيادة الدكتور سعد. ما بين المسافة المقطوعة كان كل شيء ثمينا جدا, حتى ما تم رميه والاستغناء عنه: إطارات السيارة تحولت إلى دلو، علب المغذيات تحولت إلى ألعاب للصبيان، وعلى ما يبدو فقد كان معظم الرجال في منازلهم يقضون يوما جديدا, عاطلين عن العمل وبدون أي أفق جديد لحياتهم. لقد كان أغنى رجل في القرية هو جندي يتقاضى من الحكومة ما يقارب أقل من 200 دولار شهريا. بينما العديد من الرجال يبعثرهم الخمول، أو إنفاق اليسير من دخل الأسرة في شراء القات وهي نبتة شعبية مخدرة, تعمل الزوجات في حقول الذرة، بدون مردود للإرهاق أو راتب, باستثناء التعويض بحزم من قشور الذرة. وفي موكب متتابع تعود النساء حاملة على الرؤوس قشور العودة إلى القرية بعد ظهر كل يوم لإطعام الأغنام.. تقول منيرة ناصر, واحدة من نساء القرية: "أنا وأمثالي نقضي كل اليوم بين الحقول أو في المحلات التجارية أو العمل في المنزل". لا يوجد لمنيرة وغيرها من النساء في القرية القليل من الوقت للتفكير في التغذية لأنفسهن وأطفالهن أو أسرهن. تقول منيرة: "في بعض الأحيان، لا يتوفر وقت حتى لإرضاع الصغار". وتضيف على أنه ومنذ سن مبكرة يتعود الأطفال على التغذية الثابتة عن طريق أكل الخبز والأرز وشرب الشاي. بالنسبة للحم أو السمك فتقول منيرة إن ذلك نوعا من الترف لمعظم الأسر التي لا تراه سوى مرة واحدة في الشهر. بالنسبة للخضروات, تتوفر بقلة, مع أسعار غير معقولة, وتشتريها مرة واحدة في الأسبوع. حسب السيدة منيرة "لا يوجد عمل.. الجميع يعاني من البطالة, كل شيء هنا متعب, متعب, متعب". الأحوال في اليمن تتجه نحو الأسوأ من ذلك. ويواجه البلد الخراب المالي، ويقول دبلوماسيون ومسئولون إن الحكومة لا تملك المال الكافي لدفع رواتب موظفي الخدمة المدنية في الشهر المقبل. قد يكون تخفيض قيمة العملة أيضا وشيكا, ومن شأن ذلك أن يعمل على رفع أسعار السلع الأساسية، بما في ذلك الغذاء، الذي تعتبر كل صنوفه من واردات اليمن. * صدمات خارجية إلى جانب كل هذه التراجيديات, فقد تعثرت البلاد مرارا عن طريق الصدمات الخارجة عن إرادتها، بما في ذلك قرار المملكة العربية السعودية المجاورة الماضي, بترحيل مئات الآلاف من العمال المغتربين اليمنيين، الذين كانوا مصدرا هاما للتحويلات المالية, ومع هذا الترحيل السعودي القسري للآلاف من العمالة اليمنية فإن ذلك قد أضاف معدلا جديدا إلى معدل البطالة في البلاد الذي يسجل ما يقرب من 50%. كما تناقلت بعض المصادر فقد بدأ السعوديون بقطع مليارات الدولارات من المساعدات إلى اليمن، في إشارة واضحة من الذعر الكبير الذي سببه الحوثيون، الذين يعتبرون في نظر المملكة عملاء لإيران، المنافس الإقليمي للمملكة العربية السعودية. هذا الشهر، أعلنت الحكومة السعودية أنها ستوفر ما يقرب قيمته ب 54 مليون دولار من المساعدات الغذائية إلى اليمن وهو مبلغ يهدف إلى مساعدة ودعم 45 ألف أسرة يمنية. لكن مع ذلك, وأمام ما تقدمه السعودية من مساعدات غذائية إلى اليمن- البلد الذي يعيش نصف سكانه تحت خط الفقر، يبدو أن هذا المبلغ هزيل جدا في مستوى الحالة والوضع اليمني المحرج. حتى الآن, لم يتضح بعد, ما إذا كانت هذه المساعدات سيتم توزيعها في محافظة صعدة الشمالية فقط، موطن وسلطة الحوثيين الأول، حيث ما يقرب من 70% من الأسر لا تستطيع أن تأكل دون مساعدة، وفقا لبرنامج الغذاء العالمي. حجم الأزمة التي يعيشها اليمن تبدو واضحة, مجرد أخذ لمحة قصيرة في المنزل الضيق الذي تسكنه هدى بنت ناصر، وهي أم شابة من قرية شيخين، خارج مدينة تعز وسط اليمن. وتستقبل عائلة هدى المواد الغذائية لها -البيض والحليب- من البقرة التي تمتلكها والدجاجة التي تعيش في المطبخ، لكن الاحتياجات الأخرى من المواد الغذائية, لا زالت الأسرة تعيش في حالة صراع دائم من أجل توفيرها. أطفال السيدة هدى الأربعة يعانون من سوء التغذية بما فيهم الطفلة الأصغر هدية، التي تعاني بشدة من مرض سوء التغذية وتتلقى العلاج من فريق المتطوعين في الهيئة الطبية الدولية. * أحزاب تترك رسومها في قرى فقيرة في شرق قرية ميلاح, وسط وادي مقاطعة المقاطرة، حيث يعيش 50 ألف شخص، تتناثر قرى عديدة لا يمكن الوصول إليها إلا عبر تسلق الجبال، والسير مسافات طويلة على الأقدام. على الصخور الضخمة وفي جدران العديد من المنازل, رسمت بالطلاء العديد من الرموز التي تمثل الأحزاب السياسية في اليمن، وتعيش الآن حالة من الفوضى. ومن الواضح أن هذه الرموز واللوحات المرسومة بمثابة علامات الولاء والتعهد الكبير للسكان المغلوبين والفقراء هنا، إلا أن الوعود القطعية التي قدمتها ذات يوم جميع هذه الأحزاب نادرا ما عاد. في العيادة الكائنة أسفل الوادي، جاءت ندى عبدالله، البالغة من العمر 22 عاما، من أجل مراجعة الطبيب ومعالجة صبيها البالغ من العمر عامين -عبدالرحمن- الذي جاء إلى العيادة بعد أن توقف عن تناول الطعام. وكما تتحدث الأم الشابة فقد قضت خمس ساعات سيرا على الأقدام في الطريق الوعر من أجل الوصول إلى هنا. عبدالرحمن يعاني من سوء التغذية الحاد، وتحوم حالته في مكان ما أسفل الخط نحو حالة تهدد الحياة. تقول الأم الشابة ندى إنها لا تعرف أية طريقة لإطعام طفلها, إلا أن والدتها علمتها اتباع نظام غذائي متوازن يشمل الفواكه والخضروات، لكن يبدو أن جيل ندى بطريقة أو بأخرى أقل قدرة على رعاية الأبناء من جيل الماضي. ندى ذكرت قائمة من الكماليات المألوفة، مثل الدجاج والأسماك، والتي لا تتوفر للأسرة سوى مرة واحدة في الأسبوع وبأسعار معقولة. أما في الأعياد والمناسبات الدينية، تقول ندى إنها في بعض الأحيان قد تجد طريقا ما يجعلها قادرة على شراء اللحوم الحمراء. نييورك تايمز 19ديسمبر-2014 ترجمة | أمين الجرادي – صحيفة الناس