يبدو القطاران التركي والإيراني وكأنهما يسيران في خطين متوازيين لا يلتقيان ولا يصطدمان على الأرض السورية، أو هكذا يعطي قائدا قاطرتي القطارين (التركي والإيراني) الإشارات دومًا على أنهما قررا أن لا يصطدما. وبلغة أوضح، يبدو مستبعدًا وفق التصريحات السياسية والإعلامية حول المصالح المشتركة، أن يحدث صدام عسكري مباشر بين إيرانوتركيا على الأرض السورية، رغم الوجود العسكري الفاعل لكل منهما حربًا وقتالًا هناك، ورغم انحياز ودعم كل من إيرانوتركيا لأطراف متقاتلة فعليًا على الأرض. كل منهم يساند طرفًا يقاتل الطرف الذي يدعمه الآخر، أو لنقل أن كلًا منهما يشكل حالة قيادة للطرفين المتقاتلين بطريقة أو بأخرى. فإيران وميليشياتها تقف– أو هي من تقف– إلى صف بشار بالسلاح والقوات عبر الميليشيات وقيادات فيلق القدس والحرس الثوري، وتركيا تقف فعليًا إلى جانب الثوار وتوفر لهم مساحات الحركة السياسية والديبلوماسية، وهي كانت ولا تزال في موقع الداعم العسكري بطريقة أو بأخرى. وهي إذ تدخلت عسكريًا الآن ضد تنظيم الدولة وحزب العمال الكردستاني على الأراضي السورية مدعومة بغطاء من الأطلنطي، ففي جانب من هذا التدخل، هي تضعف خطط إيران وبشار على المناورة السياسية والعسكرية، وهي لا شك تثبت وجودها ودورها ومصالحها، وتدعم حلفاءها الثوار في "دولة" لا تنال السند في استمرار نظامها حتى الآن، إلا من إيران. فما هي حدود التماس وأبعاد واحتمالات الصدام، وهل يكفى القول بأن لا صدام محتمل إن كان هناك ما قد يدفع للاعتقاد باحتمالية الصدام؟، وماذا لو تدحرجت الهجمات التركية إلى حد إقامة منطقة عازلة أو آمنة على الأراضي السورية؟ واقع الحال أن الصدام قائم، وسؤال الصدام يتعلق بدرجته وباحتمالات توسعه، لا بوجوده من الأصل، إذ كلا الدولتين متصادمتين بالفعل على الأرض السورية، ليس فقط على صعيد المصالح، بل على الصعيد العملي الميداني. فتركيا حين تدعم ثوار سوريا، إنما هي تأخذ خيار تقليص النفوذ والدور الإيراني في سوريا، بل هي تواجهه عسكريًا، حيث الثوار الذين تدعمهم تركيا هم من يقاتلون إيران وجودًا ونفوذًا ودورًا ونظامًا في سوريا. والنظام والميليشيات الإيرانية– بأثوابها العراقية واللبنانية ومن كل مكان أتوا منه- ليسوا إلا مقاتلين إيراني الوجهة والمصلحة والدور والسلاح والمال، التي تعمل لتثبيت نظام بشار، الذي ترى تركيا أن لا بقاء له في حكم سوريا المستقبل. بل يمكن القول بأن الصدام بين إيرانوتركيا على الأرض السورية، وحول مصير النظام والمصالح والاحتمالات المستقبلية، هو في وضع أشد تعقيدًا ومباشرة ووضوحًا وتماسًا، من ذاك الصدام الجاري بين المملكة العربية السعودية وإيران في اليمن، بما يجعل الوضع مرشحًا لاحتمالات الانفلات أكثر. فالسعودية تدخل المعركة في اليمن كمواجهة مع إيران، وسط حالة إجماع عربي وخليجي وتحت دعم من قرارات الأممالمتحدة، كما يجري تدخلها تلبية لدعوة من سلطة شرعية يعترف بها العالم كله، وكذلك تخوض السعودية المعركة، دون وجود خطوط اتصال على الأرض أو من الجو أو البحر بين إيران والطرف الموالي لهم، الحوثيون، فيما إيران في سوريا في وضع التماس الجغرافي عبر لبنان والعراق، وفي وضع القتال العلني غير المخفي، وهناك تخوض تركيا معركتها في وضع سياسي واستراتيجي أصعب، بحكم طبيعة الموقف الدولي (الروسي والأمريكي معًا) من المعركة الجارية على سوريا، وبحكم طبيعة التدخلات المنفلتة من أطراف دولية وعربية، وبسبب حالة التعدد والتضارب والتطاحن التي تعيشها مجموعات الثوار.. إلخ. هل يصدم الطرفان عسكريًا في سوريا إذن؟، لا يبدو الأمر محتملًا وفق عوامل التقدير الاستراتيجي لطبيعة مثل هذا الصدام وتبعاته المحتملة. فعلى الصعيد الدولي، تسعى إيران وبشكل جهيد للانتقال بعضويتها من وضع المراقب إلى وضع العضو في مجموعة شنغهاي، التي هي تحالف دولي متنامي في مواجهة حلف الأطلنطي، الذي تتمتع تركيا بعضويته، وهو ما يعني أن صراعًا بين الطرفين سيصبح صراعًا دوليًا، وأن الدخول في مثل هذا الصراع هو قرار دولي وليس إقليميًا، وأن البلدان سيفقدان استقلال قرارهما السيادي إذا فكرا في الدخول في مواجهة عسكرية. وعلى الصعيد الإقليمي يبدو الأمر مستبعدًا أيضًا، إذ تدرك إيران أن صراعًا عسكريًا مع تركيا– في هذه المرحلة- سيذهب بالأوضاع إلى حرب إقليمية شاملة ضدها، في ظل تنامي علاقات التحالف بين تركيا والدول العربية إلى وضع أقرب إلى التحالف العسكري. وعلى صعيد كل دولة يبدو الأمر خطيرًا للغاية وغير محتمل، إذ أن حربًا تركية إيرانية ستحدث تدميرًا هائلًا لكلا البلدين، وفي الأغلب ستنتهي إلى تفكيك مجتمعي وجغرافي وسياسي لكياني المجتمعين والدولتين. وكلها تداعيات لا يستحقها الحصول على سوريا.. إلخ. وبكل ذلك، تبدو إمكانية الصدام المباشر واردة، غير أن التداعيات تجعل كلا الطرفين حريصًا على عدم الوصول إليها، ويبدو أن ثمة توافقًا غير مكتوب بين كل الأطراف الفاعلة في المنطقة- على تضاد مواقفها ومصالحها- أن يجري الصراع موضعيًا ومحدودًا ومحددًا في مناطق يجري التحكم في توسعها، وربما يمكن القول بأنها حرب النقاط والمواقع حتى الآن، والأغلب أنها قد تتوسع دون أن تنقلب إلى صدام عسكري مباشر، غير أن انسحاب الأمريكان وفتح الخطوط على بعضها، وتواصل الدور الأمريكي في عدم قدرة أي من الأطراف على حسم أي من المعارك، سيظل مهددًا بتوسع الحرب.