لا بدّ من الخرافات الجماعية حيناً تلو حين. الخرافة سليلة المتخيل الذي هو الوجه الآخر للحياة. والخرافة تنتمي إلى العالم بمقدار ما ينتمي العالم إليها. وعالم لا خرافات فيه هو عالم مقفر خيالياً وحكائياً وإنسانياً، وإن كان أهله يعلمون في أحيان أنّ الخرافة خرافة وليست حقيقة أو واقعة. وكم أصاب المفكر الكبير ليفي ستروس في مقولته أنّ ليس من المهم كيف يفكر البشر في الخرافات بل المهم كيف تفكر الخرافات في البشر وعلى طريقتهم. الخرافة قاعدة التاريخ وفضاؤه المفتوح حتى ليستحيل الفصل في بعض مراجعه بين الحقيقة والخيال. عبرت أخيراً خرافة نهاية العالم التي وردت في روزنامة شعب «المايا» المنتمي إلى الحضارة المكسيكية القديمة والتي كانت حددت نهار الجمعة الفائت يوماً «أبوكاليبسيا» تنتهي فيه الحياة على الأرض. وكان على هذا التنبؤ الخرافي أن يشغل البشر والإعلام والفنون طوال عام وأكثر، مثيراً حالاً من الذعر لدى أناس وحالاً من اللامبالاة والسخرية لدى آخرين في العالم أجمع. وقام في الآونة الأخيرة أيضاً سجال حقيقي بين علماء ورجال دين وفلاسفة وجماعات قدرية لم يفضِ إلى موقف واحد أو رؤية واحدة. الأديان التوحيدية ترفض رفضاً جازماً مثل هذه الخرافات الآتية من مخيلات البشر والمخالفة للمشيئة الإلهية التي وحدها تعلم متى يحل اليوم الأخير. أما العلماء فوجدوا في هذا التنبؤ الأسطوري فرصة لاستعادة المشكلات الكثيرة التي يعانيها عالمنا والإنسان لا سيما غداة انطلاق الألف الثالث، وتحديداً في المرحلة التي تسمى مرحلة ما بعد الحداثة… على أنّ بعض المفكرين القدريين لم يحسموا الأمر نهائياً منتظرين المزيد من العلامات كما يعبّرون. المهم أنّ اليوم الرهيب الذي بعث الذعر في نفوس بعض أهل الأرض مرّ بسلام ولم ينتهِ العالم وفق الأسطورة المكسيكية القديمة. وبدا، وفق الكثيرين من الهازئين بهذا التنبؤ، أنّ العالم عوضاً من أن ينتهي بدأ بداية جديدة، على غارب عادته، كلما عرف كارثة وتمكن من تخطيها. وقد لا يلام الكثيرون من البشر الذي خافوا من مثل هذا التنبؤ الأسطوري وساورتهم الظنون والهواجس وتخيّلوا النهاية كما سمحت لهم مخيلتهم. والبشر معروف عنهم ميلهم اللاواعي إلى الخوف لا سيما في شؤون النهايات والقدر، عطفاً على قلقهم العميق إزاء الغد المجهول الذي يتربص بهم وبأرضهم وفضائهم… أليس الإنسان كما علمتنا الكتب كائناً يخاف؟ أما ما زاد من هذا الخوف والتوجس فهو الفن الذي وجد في «ثيمة» النهاية واليوم الأبوكاليبسي مادة غنية للاستيحاء والاستلهام، وكانت السينما سبّاقة في هذا الحقل تبعاً لاتساع أفقها التخييلي ولقدرتها على بناء واقع آخر على أرض الواقع. ناهيك عن الفن التشكيلي والرواية والشاشات الصغيرة التي أولت هذا اليوم اهتماماً جمّاً بصفته مادة تجذب الجمهور، أما الصحافة على اختلافها، فأفردت صفحات كثيرة لهذا «الحدث» الذي لم يحصل وخصته بأغلفة وعناوين جذابة. لكنّ «الحدث» هذا بدا سينمائياً بامتياز ونجح أكثر من فيلم في تجسيده وبلورته، انطلاقاً من القدرة الرهيبة التي تملكها السينما على الارتقاء الجمالي والبصري والفكري بالحدث الذي لا حدود له. ويكفي تذكر فيلم «ميلونخوليا» للمخرج لارس فون تراير وفيلم «2012» لرولان إيمريش وفيلم «شجرة الحياة» لتيرانس ماليك. وفي منأى عن البعد الخرافي لهذا اليوم، وعن وقوعه في «شرك» التوظيف الإعلامي والإعلاني، فهو يدفع فعلاً وبجدّية تامّة الى التفكير في مصير البشر والأرض، بعدما ازدادت «الخسائر» التي ما برح يتكبدها العالم، عالمنا الراهن… لن تزول الأرض الآن ولا غداً، هذا أمر غير قابل للشك، لكنّ الأرض لم تعد قادرة على احتمال التبعات الوخيمة التي يلقيها البشر على عاتقها. الحروب ما زالت تهدد العالم بعد استفحال السلاح النووي المدمر، الأوبئة تحصد الناس بمنجل من معدن، المجاعات تنتشر على خريطة البلدان الفقيرة، المناخ يتراجع والاحتباس الحراري يتمدد وخطره يطاول القطبين، الثورات العلمية المتلاحقة تترك آثاراً جارحة في الإنسان والبيئة، الطبيعة يلتهمها اليباس والجفاف، الغابات تتضاءل، البحر يزداد تلوثاً… كتاب التاريخ لم يعد يتسع للمزيد من الصفحات السود، ولا لأخبار الحروب والكوارث. يوم خرافي طواه العالم وغدا ينساه إن لم تتنبأ جماعة أسطورية أخرى بنهاية وشيكة للعالم نفسه الذي لا أحد من البشر يعلم متى ينتهي، لكنّ هذا اليوم الذي أثار من الرعب ما أثار من السخرية، كان لا بدّ منه ليتذكر البشر أنّ عالمهم بات مهددا وأنّ عليهم أن يتصالحوا معه ومع أنفسهم.