حضرموت تستعد للاحتفاء بذكرى نصرها المؤزر ضد تنظيم القاعدة    الجنوب ومحاذير التعامل مع العقلية اليمنية    "استيراد القات من اليمن والحبشة".. مرحبآ بالقات الحبشي    غرق شاب في مياه خور المكلا وانتشال جثمانه    بن بريك يدعو لتدخل إغاثي لمواجهة كارثة السيول بحضرموت والمهرة    "ليست صواريخ فرط صوتية"...مليشيات الحوثي تستعد لتدشين اقوى واخطر سلاح لديها    "سيضيف المداعة في خطبته القادمة"...شاهد : خطيب حوثي يثير سخرية رواد مواقع التواصل بعد ظهوره يمضغ القات على المنبر    ثلاث مساوئ حوثية أكدتها عشرية الإنقلاب    فيديو اللقاء الهام للرئيس العليمي مع عدد من كبار الصحفيين المصريين    دوري ابطال اوروبا ... ريال مدريد يطيح بمانشستر سيتي ويتأهل لنصف النهائي    اليمن: الكوارث الطبيعية تُصبح ظاهرة دورية في بعض المحافظات الساحلية، ووزير سابق يدعو لإنشاء صندوق طوارئ    على رأسهم مهدي المشاط ...ناشطة حوثية تدعو إلى كسر الصمت حول قضية السموم الزراعية في اليمن    مأساة إنسانية: صاعقة رعدية تُفجع عائلتين في تعز    الرئيس الزُبيدي يطمئن على الأوضاع في محافظة حضرموت    العين الاماراتي يسحق الهلال السعودي برباعية ويوقف سلسلة انتصارات الزعيم التاريخية    حكومات الشرعية وأزمة كهرباء عدن.. حرب ممنهجة على الجنوب    سحب العملة الجديدة في صنعاء... إليك الحقيقة    رافقه وزيري العمل والمياه.. رئيس الوزراء يزور محافظة لحج    دراسة حديثة تحذر من مسكن آلام شائع يمكن أن يلحق الضرر بالقلب    رافينيا يوجه رسالة حماسية لجماهير برشلونة    أنس جابر تنتزع تأهلا صعبا في دورة شتوتجارت    استقرار أسعار الذهب عند 2381.68 دولار للأوقية    مفاجأة صادمة ....الفنانة بلقيس فتحي ترغب بالعودة إلى اليمن والعيش فيه    المجموعة العربية تدعو أعضاء مجلس الأمن إلى التصويت لمنح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة    محافظ المهرة يوجه برفع الجاهزية واتخاذ كافة الإجراءات الاحترازية تحسبا للمنخفض الجوي    وفاة وإصابة 162 مواطنا بحوادث سير خلال إجازة عيد الفطر    أمين عام الاشتراكي اليمني يعزي الرفيق محمد إبراهيم سيدون برحيل زوجته مميز    توكل كرمان تجدد انتقادها لإيران وتقول إن ردها صرف انتباه العالم عما تتعرض له غزة    إيران: مدمرة حربية سترافق سفننا التجارية في البحر الأحمر    عن صيام ست من شوال!    رسميًّا.. برشلونة خارج كأس العالم للأندية 2025 وأتلتيكو يتأهل    مصر: ختام ناجح لبطولة الجمهورية المفتوحة " للدراجون بوت "ومنتخب مصر يطير للشارقة غدا    حزب الإصلاح يكشف عن الحالة الصحية للشيخ ''الزنداني'' .. وهذا ما قاله عن ''صعتر''    أبناء الجنوب يدفعون للحوثي سنويا 800 مليون دولار ثمنا للقات اليمني    القوات المسلحة الجنوبية تسطر ملاحم بطولية في حربها ضد الإرهاب    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    وفاة طفل غرقًا خلال السباحة مع أصدقائه جنوبي اليمن    10 أشخاص ينزحون من اليمن إلى الفضاء في رواية    محافظ عدن يلزم المنظمات باستصدار ترخيص لإقامة أي فعاليات في عدن    مصير الأردن على المحك وليس مصير غزة    من هم الذين لا يدخلون النار؟.. انقذ نفسك قبل فوات الأوان    نيابة استئناف الامانة تتهم 40 من تجار المبيدات والأسمدة بارتكاب جرائم بيئية وتعريض حياة الناس للمخاطر    خطة تشيع جديدة في صنعاء.. مزارات على أنقاض أماكن تاريخية    الكشف عن آخر تطورات الحالة الصحية للفنان عبدالله الرويشد    ارنولد: انا مدين بكل شيء ل كلوب    دوري ابطال اوروبا: دورتموند يخالف التوقعات ويُحرج دفاع الاتلتيكو برباعية    الضالع: القوات المشتركة تُحافظ على زخم انتصاراتها وتُحبط مخططات الحوثيين    بعد تراجع شعبيتهم في الجنوب ...المجلس الانتقالي الجنوبي يعتزم تعيين شخصية حضرمية بديلاً عن عيدروس الزبيدي    وللعيد برامجه التافهة    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    أبناء المهرة أصبحوا غرباء في أرضهم التي احتلها المستوطنين اليمنيين    حكم الجمع في الصيام بين نية القضاء وصيام ست من شوال    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    تراث الجنوب وفنه يواجه.. لصوصية وخساسة يمنية وجهل وغباء جنوبي    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    تخيل أنك قادر على تناول 4 أطعمة فقط؟.. شابة مصابة بمرض حيّر الأطباء!    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبدالحميد الحدي: كنت مشاغبا في طفولتي وظلام القرية منحني الشجاعة
نشر في المصدر يوم 24 - 08 - 2010

تنشر صحيفة "السياسية" الصادرة عن وكالة الأنباء اليمنية "سبأ" حوارات أسبوعية تتناول جوانب مخفية عن شخصيات سياسية واجتماعية عرفنا نصف حياتها لكننا لا نعرف شيئاً عن نصفها الآخر.

المصدر أونلاين وبالاتفاق مع الصحيفة ومع الزميل صادق ناشر الذي قام بإجراء هذه الحوارات يعيد نشرها، وفيما يلي الحلقة الأولى من الحوار مع عضو مجلس الشورى عبدالحميد الحدي.

* بعد هذه السنوات، ماذا بقي من ذكريات طفولة عبد الحميد الحدي؟
عشت في منطقة "وادي بنا"، تحديداً في النادرة، وهي منطقة من ناحية إمكانياتها الزراعية أفضل من أية منطقة أخرى، ونتيجة لخصوبة الأرض وغزارتها فقد تنوعت عاداتها وتقاليدها وأهازيجها الشعبية، وهذا الأمر ترك أثره على أبناء المنطقة، حيث خرج العديد منهم منذ وقت مبكر واتجهوا إلى ثلاث وجهات؛ الأولى تعز؛ بحكم أنها كانت مركزاً ثقافياً وسياسياً. والوجهة الثانية كانت مدينة عدن، بكل عطاءاتها الفكرية والتنويرية، رغم أنها كانت ترزح تحت نير الاستعمار البريطاني. فيما كانت صنعاء الوجهة الثالثة لأبناء المنطقة، باعتبار أنها المركز الأساس.

في صغري رعيت الأبقار والأغنام والجمال، رغم انتمائي -من الناحية الاجتماعية- إلى فئة اجتماعية تعتبر حينها ميسورة، فقد كنت ابن شيخ وعندي إمكانية أفضل من غيري.

تعايشت مع الأهازيج الشعبية، من الغناء الشعبي إلى الزوامل والبالة، وهي أنواع من النشيد الشعبي العاطفي والمتغني بالطبيعة والجمال، وهو يعكس دوراً للمرأة التي كانت تقوم بتوفير الطعام للبتول (المزارع) وبقية المشتغلين في الأرض عند وضع البذور، وهذه من الأشياء الجميلة، خاصة عند قدوم مواسم معينة، مثل "عيد عرفة"، باعتبار أن هذا العيد هو المناسبة الجامعة لكل أبناء المنطقة المتواجدين خارجها، فالبعض يأتي من عدن والآخر من تعز ومن الحديدة ومن إب ومن صنعاء... ويومها تشهد المنطقة ما يعرف ب"أمير العيد"، وأمير العيد هذا عادة ما كان يرتدي جلد الخروف، ثم يوضع على وجهه "نوعة الخروف"، ويحمل في يده اليمنى ذيل الثور، ثم يأتي ليأمر "العبد"، والعبد يكون شاباً وسيماً يصبغ وجهه بصباغ أسود يسمى "النيلة"، ثم يأتي شخص آخر يحلق له شاربه وذقنه ويلبس التاج، يمثل جارية، ويمكن أن يسمى هذا الثلاثي "المسرح البدائي". وتستمر هذه الأفراح لمدة تسعة أيام، حيث يتنقل الناس من قرية إلى أخرى.

وهناك عادة أخرى اسمها "العون"، ويعني مساعدة الناس بعضهم بعضا، مثلاً بناء جدار منزل أو سور أرض زراعية خرب نتيجة لنزول الأمطار، إذ يأتي الجميع ليساعدوا المنكوب مجانا، أو مثلاً في الحصاد، حيث يأتي الكل ليساعد في حصد الذرة أو الرومي أو ما يسمى "الذرة الشامية" أو البر أو الشعير.

وهناك عادة تعلم السباحة في البيرة، (أي: البئر)، والتي تنشأ نتيجة لمصبات السيول، وفيها يلعب الطفل مع زملائه ورفاقه، وفيها من الضرب، وفيها من البكاء وفيها من النكتة وفيها من الضحك... أي: حياة أطفال جميلة، وتستطيع أن تقول إنها حياة تميزت بها منطقة النادرة. ووادي بنا عموماً هم أناس طيبون ومسالمون.

* في أية قرية ولدت بالضبط؟
- ولدت في "حصن حنول"، فوق النادرة مباشرة، وهو حصن حميري. ولا أعرف تاريخ مولدي بالضبط، لكنه قد يكون بين عامي 1949 و1950، لست متأكداً من العمر بالضبط.

* البعض يتذكر تاريخ ولادته بحدث أو بمناسبة معينة؛ فهل قالت لك الوالدة في أية مناسبة كان قدومك إلى الدنيا؟
- حسب ما كانت تقول لي والدتي رحمها الله أن مولدي كان أثناء ما كان الحسن بن يحيى في منطقة دمت بإب؛ لأن والدي بعدها توفي وأنا لم أره في حياتي، لكن تاريخ مولدي المسجل في جواز سفري هو 28 مارس 1946، أي أكثر من العمر الحقيقي الذي أنا عليه؛ والسبب هو الدراسة؛ لأنني كنت أريد دخول كلية الشرطة في القاهرة.

* أين أنت من بين إخوتك؟
- أنا أصغر إخوتي، وقد تيتمت مبكراً، فلم أعرف والدي رحمه الله. شقيقي الكبير هو المرحوم علي سيف الحدي، وكان في قوات الحرس، والآخر مازال عايشاً، وهو شقيقي من أمي، اسمه حمود، وقد هاجر إلى أميركا وعاد وهو موجود اليوم بيننا. وعندي شقيقتان، الأولى من أمي والثانية من أبي، وكلتاهما تعيش مع أولادها في الولايات المتحدة الأميركية.

* وكم لديك من الأولاد؟
- عندي ست بنات وولد واحد اسمه صفوان، والذي تزوج قبل فترة بسيطة، وهو رقم ثلاثة بين أخواته الست.

* هل تتذكر زملاءك القدامى؟ هل منهم من مازال موجودا، أم أنهم تفرقوا؟
- البعض مازال موجوداً، والبعض توفاه الله. عدد أصدقائي كثير، ولا أستحضر أسماءهم كلهم، لي أصدقاء ورفاق طفولة من بيت الشامي، من بيت صويلح، كان معي زميل واسمه محمد صويلح، وكان ضابطاً في القوات المسلحة وهو مازال يعيش بيننا أطال الله في عمره، ومن بيت الطيب، ومن بيت الغزير، ومن بيت المرادي، ومن بيت الناموس، وكان معنا الأخ عباس الديلمي- رحمه الله، وهو غير عباس الديلمي الأديب المعروف في الإذاعة.

وأتذكر أيضاً عباس الشامي الصحفي المشهور. وكان لي أصدقاء من بيت الكهالي، ومن بيت المضواحي من بينهم المرحوم السفير محمد المضواحي، الذي توفي قريباً. وهناك عدد كبير من الأصدقاء لا تسعفني الذاكرة في تذكرهم جميعاً.

* بحكم أنك تيتمت مبكراً، كيف كانت مشاعرك وأنت تلعب مع الأطفال الذين معهم آباء؟ هل كانت هناك مشاعر مختلفة تتجاذبك؟
- الرعاية التي تمتعت بها وأنا صغير جعلتني أشعر بالانطلاق أكثر مما جعلتني أشعر بالانطواء أو بحالة من حالات الضعف، فكنت، كما يقال عني، مقداماً في بعض التصرفات، يعني لا أستسلم بسرعة ولا أشعر بالحزن؛ كانت حالة من حالات التمرد، ولو أنني كنت في سن مبكرة على مثل هذا الأمر.

* هل زاد غياب الوالد من جرعة حنان الأم وشعرت بها في طفولتك؟
- نعم، بكثير؛ لكنني كنت أتألم عندما أمر على أناس يعرفون الوالد، فيترحمون عليه، ويشيرون إلي بالقول: هذا ابن فلان رحمه الله. كان ذلك يكون لدي الرغبة والحنين وتمني وجود والدي إلى جانبي.

كانت والدتي امرأة قوية الإرادة ومتفتحة؛ لأنها قرأت القرآن الكريم، وهذه كانت حالة نادرة في تلك الفترة، فقد كانت تحفظ سوراً كثيرة من القرآن الكريم وكثيراً من الحكم والقصص الشعبية، وكان ذلك يعود ربما إلى كونها من بيت قاض، فهي ابنة القاضي محسن محمد الطيب. هذه البيئة هي التي جعلتها تهتم بأولادها، ولهذا كانت دائماً تحرضنا على التعليم، أنا وأخي علي رحمه الله، الذي توجه إلى تعز ودخل المدرسة الأحمدية، وأنا دخلت مكتب الأيتام هنا في صنعاء.

قرار الرحيل إلى صنعاء
* ما هو القرار الذي اتخذته مبكراً في حياتك؟
- كان ذلك عندما كان عمري لا يتجاوز الثماني سنوات، عندما انتقلت إلى صنعاء ودخلت مكتب الأيتام. أتذكر أنني طلعت إلى صنعاء وفي جيبي 15 ريالاً، وكان هذا المبلغ في تلك الفترة، أي في عام 1958، كبيراً. وقد عانيت أثناء خروجي من المنطقة؛ لأننا كنا نسير على الأقدام من النادرة إلى يريم.

وكان أول ما أدهشني بعد وصولي إلى يريم كثرة السيارات والزحمة في الشوارع، وكانت أول مرة أدخل فيها شيئا اسمه "المقهاية". وكانت هذه المرة الأولى التي أخرج فيها من منزلي وقريتي.

كانت الأمطار غزيرة عند وصولنا يريم، يومها كانت حالتنا متعبة، وكنا نشعر بالجوع، كما كنا قلقين مما سيواجهنا في المساء، خاصة وأنني كنت أصغر المجموعة. ولما وصلنا طلبنا عشاء، وذبحوا لنا دجاجة وأعطونا الهريش والملوج (الخبز) وبدأنا ندفأ قليلاً بعد ساعات من التعب والمعاناة.

* كم استغرقت الرحلة من النادرة إلى يريم؟
- استغرقت حوالي 8 ساعات، وقد كنت -بحكم صغر سني- لا استطيع أن أجاري الذين كانوا يخطون أضعاف خطواتي؛ بحكم أنهم أكبر مني سناً. أول وصولنا كان إلى المريمة، وهذه المنطقة كانت خارج يريم، وحالياً أصبحت جزءاً من يريم، وفيها كان يتم سقي المواشي، وكذا راحة للمسافرين. ثم بدأنا صباح اليوم التالي الاستعداد للسفر إلى صنعاء بواسطة سيارة نقل كانوا يسمونها "زوبة أبو شنب" (مخيفة)، وهي محملة ببضاعة من عدن إلى صنعاء. وأتذكر أن السائق كان يدعى "العبسي"، أي: من الأعبوس بتعز. والبضاعة لا أذكر بالتحديد إلى أين كانت متجهة، يمكن إلى السنيدار أو إلى غمضان في صنعاء، المهم كانت بضاعة قادمة من عدن. وقتها بدأنا نفكر كيف نطلع ونمسك بالبضاعة فوق سيارة النقل، ولكننا توكلنا على الله. قبل الطلوع إلى سيارة النقل، أفطرنا، حيث عملوا لنا ما نسميه في البلاد "الشموط"، رغم أنني كنت مجهزاً نفسي من البلاد، كان معي الشموط وبعض الكعك، والشموط كان عبارة عن خبز أشبه ب"خبز الطاوة". وطلعنا سيارة النقل ووصلنا إلى "قاع شرعة"، أمام بيت المصري. عند الخروج من يريم باتجاه ذمار وقبل الوصول إلى بيت الكوماني تكون الطريق إلى الشرق، وهذا القاع تتكون تربته من طين لزج (مري)، وكان الركاب الذين فوق سيارة النقل عليهم أن ينزلوا لإخراج السيارة من الطين، حينها كانت هناك أمطار شديدة، ولم نكن نلبس ما يقينا من البرد، فقد كنا نرتجف من البرد طوال الرحلة التي كنا نشعر بأنها طويلة جداً، وكذا تكررت الحالة في قاع الديلمي وقاع جهران.

على العموم وصلنا إلى صنعاء قبل المغرب، وقبل أن يغلق باب اليمن. وقد ذهلت كطفل لما رأيته، وبدأت بالتفكير بأمي وكيف تعيش، وبدأت تتولد عندي رغبة بالعودة إلى البيت، فقد كنت حينها لا أعلم إلى أي مجهول أنا ذاهب.

* بالمناسبة، كيف كانت مشاعر الأم وهي تودعك في القرية؟
- كان من حسن حظي أن أمي لم تكن موجودة في البيت وقت رحيلي، فقد كانت ترفض أن أذهب بعيداً عنها، مع أنها كانت دائماً ما تشدد على ضرورة أن الواحد يتعلم في المكتب في النادرة، فلم تكن هناك في تلك الفترة مدرسة ابتدائية، بل مكتب، وهو أشبه ب"الكُتَّاب"، وكان الكثير ينصحني بالدراسة، من بينهم فضيلة القاضي محمد عقيل الإرياني أطال الله في عمره، والذي كان حينها حاكم النادرة، والقاضي محمد الغرباني، الذي كان عامل في النادرة (مدير المديرية)، والمرحوم نصر الطيب (السوادي)؛ لأنهم كانوا يلاحظون عليّ الاهتمام بالدراسة، خاصة وأن الالتزامات اليومية التي كنت أقوم بها للبيت والمجيء بها من المدينة التي كانت تبعد عن الحصن نحو كيلومتر تقريباً جعلتهم يخافون عليّ من أن تجرفني هذه الالتزامات وتبعدني عن الدراسة.

* هل كان قرار الخروج إلى صنعاء قراراً ذاتياً أم بدفع من الآخرين؟
- لم يكن قراراً ذاتياً، بقدر ما كان عبارة عن نصائح من الآخرين، كنت أسمعها من كثيرين وأحاول أن أتبناها، لكن ليس بمفهوم اليوم، بل بمفهوم ما كانت عليه الأوضاع في تلك الفترة؛ كان حديث الناس عن أنني فلان ابن فلان، وحثهم لي على الطلوع للدراسة في صنعاء أو تعز حافزاً لي ورغبةً بترك النادرة وخوض مغامرة جديدة، وكان ما كان.

* أنت ابن شيخ، لكنك كنت راعي غنم، كيف كانت تُقرأ هذه المعادلة؟
- هناك مبالغة في وضع المشايخ باليمن، المشايخ ليسوا كلهم أغنياء، فقد يكون ابن الشيخ أفقر من ابن أصغر تاجر في المنطقة؛ لكنني لا أدعي الفقر في تلك الفترة، فمقارنة بالآخرين كانت أحوالي طيبة، لهذا فإن آلية الانتماء ليس لها تأثير كبير، ما كنت أشعر به هو عطف الناس عليّ بكوني يتيم الأب؛ مع ذلك فإن أكبر تركة تركها لنا والدنا هي السمعة الطيبة؛ فكما عرفت من الجميع أنه كان محبوباً في المنطقة وكان يقدم الخدمات للآخرين بدون مقابل.

* هل تتذكر أنك كنت طفلاً مشاغباً مقارنة ببقية إخوتك وأقرانك في تلك الفترة؟
- نعم، كنت مشاغباً ونتيجة لمشاغباتي حصل لي بعض المواقف؛ فقد أصبت في صدري وأنا طفلا صغيرا عندما كنت ألعب بالقرب من المنزل، ولم أشعر بذلك إلا عندما ذهبت إلى مصر للدراسة في كلية الشرطة، حينها رفضت الهيئة الطبية قبولي في الكلية في القاهرة، فاضطررت للذهاب إلى مكتب الرئيس أنور السادات لمعالجة الأمر.

كان يومها هناك ما يسمى "مشروع تعليم أبناء المشايخ" أعده الإخوان المصريون أيام الرئيس المشير السلال على أساس كسب ولاء المشايخ للنظام الجمهوري، وقد دخلت مع أخي ضمن هذا المشروع، فذهبت لمقابلة الرئيس السادات، والذي كان المسؤول عن شؤون اليمن، واستقبلني مدير مكتبه رحمه الله اللواء حافظ أبو الشهود، الذي أدخلني لمقابلته، ووجه بقبولي في الكلية بطريقة استثنائية.

*عشت رمضان القرية ورمضان المدينة، هل تشعر بفرق بين رمضاني هنا وهناك؟
- المدينة حياتها أكبر ونشاطها أوسع وأصدقاؤها أكثر، لكن الروحانية في تقديري هي أجمل في القرية، لأنه لا يوجد فيها جو ملوث، ولا سيارات كثيرة، ثم أيضاً تتجدد ذكرياتك مع الناس الذين عرفوك وعرفتهم طوال سنوات حياتك وعرفوا أهلك، منهم من ما يزال حياً، صحيح أن حالة السمر محدودة لا تطول في الريف، لكن أيضاً فيها متعة، ثم فيها حياة البساطة، فأنت تعود إلى مطبخ عادي طبيعي ليس كما هو في المدينة.

الجانب الروحاني في الريف يهيئ لك الفرصة أن تعود إلى الله سبحانه وتعالى أكثر؛ لأن حياة القرية فيها هدوء وسكينة ووداعة، ما يساعدك في قراءة بعض الكتب الدينية سواءً في السيرة أو الفقه وتلاوة القرآن الكريم، هذه مظاهر توجد في الريف أكثر بكثير مما هو عليه الحال في المدينة. أمنيتي أن (أرمض) العام القادم في القرية، كأنك قرأت أفكاري.

* متى يجتاحك الحنين للعودة إلى القرية فتقرر فجأة العودة إليها؟
- أتمنى أن أعود إلى القرية بشكل دائم، لكن تكاليف الحياة تجبرك على أن تكون رحلاتك قصيرة، فمهما تحركت اليوم إلى أية منطقة في اليمن فلا بد من صرفيات والتزامات، وهذا مسألة تجعلك تباعد بين رحلاتك إلى القرية.

ليس بالضرورة أن يكون هناك هدف معين لتقرر الذهاب إلى القرية، وإنما للخروج والفسحة، وكأنك تجدد حياتك، أو كأنك تريد النزول إلى مدينة ساحلية مثل عدن أو المكلا أو الحديدة، هي نفس المشاعر، لكنها تكون أجمل عندما تصل إلى بيتك، فذلك لن يكلفك عناء البحث عن فندق لتأوي إليه، ولا البحث عن مطعم لتأكل فيه، فأنت تصل إلى البيت وفيه كل شيء، وعندما تصل إلى منطقة وادي بنا؛ فإنك تشاهد حديقة طبيعية مجانية، وهي ملك للناس جميعاً.

* أما من أناشيد كنتم ترددونها وأنتم صغارا؟
- كان هناك بعض الأناشيد التي تربينا عليها، وأتذكر أن الأستاذ حميد العلفي رحمه الله، وكان أستاذي في النادرة وأستاذي في الأيتام، كان يركز على أنشودة "بلاد العرب أوطاني"، فهذه الأنشودة كانت تشدك إلى واقع أمتك وإلى آفاق واسعة دون أن تدري أين هي مصر أو الشام أو نجد أو بغداد، التي كنا نرددها في الأنشودة، لكننا كنا نحفظها غيباً.

* ما هي القصص والحكايات التي كانت تروى لكم في فترة الطفولة من قبل الجدة أو الأم مثلاً، ولا تزال عالقة في ذهنك حتى اليوم؟
- في خاطري أشياء كثيرة جداً، لكن يصعب الإجابة على ذلك في الوقت الحاضر؛ لأن تفكيري لم يعد تفكير ذلك الطفل الذي كان يسمع الحكايات والقصص؛ لكنني أتذكر أن أمي كانت تلجأ إلى تخويفنا ونحن صغارا من "خلوة الدار"، وهي أشبه ب"طاهش الحوبان"، خاصة وأن المنازل كانت عند حلول الليل تبدو مظلمة وموحشة؛ إذ لم تكن هناك في ذلك الوقت كهرباء ولا إنارة. وهناك مخوفات أخرى، مثل وجود جن وغيرها، حتى يتم ردع الأطفال عن الخروج ليلاً والنوم مبكراً.

* هل كان ظلام القرية في الليل يمنحك الشجاعة لأن تسير بدون خوف؟
- بالتأكيد، خاصة فيما يسمى "الثلاث البيض"، وهي الأيام: 13، 14، و15، من كل شهر، وهي عادة جميلة في المنطقة، فبعد العشاء يصل المزارعون من الوادي فيتناولون الطعام ثم يخرجون إلى القرية لإحياء "البالة "، وفيها تصطف الفتيات في صف مقابل صف آخر بطريقة جميلة، ثم ينشدن نشيداً لا أتذكر للأسف شيئاً منه، لكنه كان إنشاداً من أجمل ما يكون.

كانت البنات يخرجن بكامل زينتهن، وكان الشباب ينظرون إليهن نظرة طبيعية وفي حالة من حالات الاستمتاع، وكانت النظرة أنقى من نظرات اليوم وأكثر براءة، وليس هناك أي تفكير من الذي يفكر فيه شباب اليوم، كانت هناك طهارة وصفاء ذهني وتقدير واحترام للمرأة بشكل لا يتصور.

* عندما يعود عبد الحميد الحدي إلى مسقط رأسه، ما هي الأماكن التي مازالت محفورة في ذاكرته، التي يشعر وكأنه يعيشها اليوم؟
- من أهم الأشياء التي أتذكرها وأشعر بالحنين إليها شلالات المياه في النادرة، فقد كانت فيها متعة غير عادية، خاصة عندما كانت منطقتنا غزيرة المياه والأمطار، وليست بحالها اليوم، فقد كنا ونحن أطفالا نسبح في البرك التي تتشكل بفعل الأمطار. كما كنا نطرب لسماع كثير من الطيور وهي تغرد، وهذه كانت متعة بالنسبة لي، بالإضافة إلى التمتع بالوجبات الغذائية الطبيعية وسط الحقول، خاصة أنها كانت تترافق مع شعور بالجوع.

وأتذكر أنني عندما كنت أرعى الغنم كان عندي شيء اسمه "القمطي" وهو أشبه ب"الجحينة" في صنعاء، نأكلها، من الذرة الشامية أو الذرة البيضاء أو الحمراء، أو "الملوج" من الشعير أو البر، وأضع عليها حليبا في "الطنجرة" الخاصة بالماء، والتي أسقي بها الغنم، وأحلب المعزة، وحليبها أفضل من حليب الشاة، وأقوم بفتها وأكلها.

باختصار: كان الواحد في ذلك الوقت يشعر وكأنه ملك الدنيا كلها. لكن هذا الأمر لم يعد موجوداً اليوم، أو ربما إحساسنا به لم يعد كذلك.

* ما ذا عن ارتباطك بالأرض؟ هل مازال عندك الحنين نفسه، الذي كان وأنت طفلا؟
- الحمد لله هذا الإحساس مازال موجوداً، لكن ليس بنية التملك، بل بنية الاستمتاع بها، للأسف معظم الخلافات بين الأسر سببها الأرض والإرث، وحتى أسرتي المحدودة المحصورة بأبناء العمومة لم نطلب حتى الآن قسمة التركة؛ لأنني أدرك أن واحداً من أسباب التمزق والخلافات والصراعات وما نتج عنها فيما بعد في المناطق الوسطى كان الخلاف على الأرض.

أنا أحب الأرض وأستمتع بالزراعة وأتمنى لو يدور الزمن وأشهد عملية ما يسمى "الذري"، أي عندما يذرون الذرة أو الحب؛ لأنها عادة جميلة جداً في المنطقة، فكل من يقوم بالذري يومها في الأرض يجهز نفسه لذلك، فهو يذهب مع ابنه إلى الحقل وتلحقه زوجته أو ابنته بغداء متميز فيه السمن البلدي والمرق، وهذه لا تكون في كل يوم، فقد كانت نادرة، وكانت تتم خلال يوم في الأسبوع، عادة تكون يوم الجمعة؛ لكن يوم الذري أصلاً له نكهة خاصة، ونساء المنطقة يُجدن عملية العصيد والهريش، حيث تكون بشكل يشبه الشكل الهرمي وتأتي بما تسمى "الجفنة" وهي من الفخار أو من الطين وتأتي بشكل جميل جداً ثم يسكب فوقها المرق وتؤكل في وقت الجوع وبمن حضر، حتى لو كان أحدهم ماراً في الطريق فإنه يدعى لتناول الغداء مع الجميع؛ لأن الطعام يكون كثيراً، وهي تكون بمثابة مباركة لعملية الذري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.