"بين جس النبض الأميركي للسياسة الاسرائيلية و الدراسة الاسرئيلية للسياسة المستقبلية، يجد الفلسطينيون أنفسهم يراوحون في ذات المكان الذي كانوا فيه على مدار ثلاثة عشر عاماً من المفاوضات مع اسرائيل" ليس هذا فحسب ما ختم به مراسل الجزيرة في القدسالمحتلة تغطيته لزيارة جورج ميتشل -المبعوث الأميركي لما يسمى بالشرق الأوسط- قبل أسبوعين، بل إن هذه هي الحقيقة المُرة التي تصر يوماً بعد آخر أن تلاحق اصحاب "خيار السلام وطماطم الاستسلام"، في الوقت الذي اصبح فيه الصهاينة يضعون شروطهم و املاءاتهم لقبول السلام مع العرب، وقد كان هذا واضحاً من خلال تصريح ميتشل عقب انتهائه من لقاء الصهائنة: "قلت لهم إن السياسة الأميركية تحت إدارة الرئيس أوباما واضحة و لا تحتمل الشك، و هي أنه من مصلحة أميركا أن يكون هناك حلٌ سلمي شامل في الشرق الأوسط، بما فيه حلٌ للنزاع الفلسطيني الاسرائيلي، من خلال حل الدولتين: دولة فلسطينية تعيش جنباً إلى جنب مع دولة اسرائليلة في سلام و في استقرار و رفاهية"! مع مجيء جورج بوش الصغير إلى البيت الأبيض عام 2000م كان اسم ميتشل يتصدر الأنباء بتقريره الشهير الذي حمل اسمه، في مهمة تقصي الحقائق إبان انتفاضة الأقصى التي اندلعت عقب 28 سبتمبر 2000م، و هو يوم دخول شارون إلى ساحة الحرم القدسي الشريف، و قد تضمن تقرير ميتشل ما يمكن وصفه بمَسك العصى من المنتصف، أو ما سماه البعض بالتوازن، مع أنه كان و ما يزال يتجاوز الحقائق التاريخية المتعلقة بنشأة الكيان الغاصب، إلى الحديث عن دولتين، واصفاً إياه ب"الحل" و هو المصطلح الذي تلوكه ألسنة الكثير من معسكر خيار السلام وطماطم الاستسلام، دون التنبه إلى أن كلمة "حل" تعني وجود مشكلة، هذه المشكلة بحاجة إلى بحث في الأسباب و الدوافع، و إيجاد حل يتسق مع ما تم بحثه و الوصول إليه، أما ابتسار القضية و اختصارها إلى "حل الدولتين" فأتصور أن هذا تغابٍ سخيف، يثير سخرية الصهاينة أنفسهم، بعد أن كانوا يحلمون باعتراف دول العالم بكيانهم اللقيط ، فضلاً عن أن هذا الابتسار الخادع هو الذي يقف خلف الإخفاقات المتكررة لما يطلقون عليه "عملية السلام"، ولن يصل القوم إلى حل للمشكلة إلا إذا تعاملوا معها بصدق و شفافية، و هذا ليس مؤملاً في الوسطاء، عجمهم وعربهم على السواء! زيارة ميتشل الأخيرة للمنطقة، على ما نال فيها من استقبال صهيوني فاتر، فقد أعقبتها تصريحات واضحة في الرفض لما جاء ميتشل من أجله، فلا نتن ياهو على استعداد لسماع أحد، بمن فيهم وزير دفاعه باراك، و لا ليبرمان مقتنع بأي حق فلسطيني أمام القداسة التي يحيط بها بني قومه! لم تخرج زيارة ميتشل الأخيرة للصهاينة بأي بارقة أمل له، و هو الذي يوصف بأنه صاحب "مواهب خارقة" في التفاوض، بعد نجاحه في التوصل لاتفاق سلام تاريخي في إيرلندا الشمالية، المهمة التي قال عنها بأنها أقسى مهمة تولاها طوال حياته!، فكيف ستكون مهمته الأخيرة في ضوء ما يعتقده بأن "المشهد الدبلوماسي والسياسي في الشرق الأوسط سيكون حله أصعب بكثير من ملف إيرلندا الشمالية"؟!. عن عودة ميتشل إلى مربع الصراع العربي-الصهيوني كتب جاكسون ديل في مارس الماضي تحت عنوان "عودة ميتشل... لعبة جديدة على رقعة قديمة" في "واشنطن بوست" قائلاً: وعند ذهاب اللجنة –عام 2000- إلى منطقة الشرق الأوسط وجدت الأوضاع كثيرة الشبه بما هي عليه اليوم من نواح عديدة. فعندها كانت أخبار العنف الدموي الإسرائيلي/ الفلسطيني، تسيطر على عناوين الصحف والنشرات الإخبارية، بينما انهار مشروع حل الدولتين الذي تدعمه واشنطن. ومثلما حدث في ذلك الوقت، كان التقدم في استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي السابقة للانتخابات، من نصيب المرشح اليميني المتطرف، يقصد ارئيل شارون عن حزب الليكود وقتها، الحزب الصهيوني الذي يتزعمه اليوم نتن ياهو، و يحالفه في الحكومة مدير مكتبه السابق أفيغدور ليبرمان الذي ترك الليكود عام 1999م ليؤسس حزباً آخر أكثر تطرفاً "اسرائيل بيتنا"! يواصل جاكسون ديل حديثه بالقول: ولكن المشكلة أن خطة ميتشل لعام 2001، لم يكن نصيبها سوى الفشل. فبعد أن وافق عليها طرفا النزاع، وجرت المناقشات حولها لأكثر من عام، وتم تضمينها أخيراً في مشروع "خريطة الطريق" الذي تبنته إدارة بوش في عام 2002، كان نصيبها من الفشل نصيب "خريطة الطريق" نفسها التي لم تؤد إلى أي شيء إيجابي في نهاية الأمر!، هذا الكلام قاله ديل قبل أن تفرز انتخابات الدولة الصهيونية صعود نتن ياهو و حليفه ليبرمان، لكن ديل في ذات المقالة كان قد أشار إلى أن وصول نتن ياهو إلى رئاسة وزراء الحكومة الصهيونية سيقلل فرص النجاح لميتشل، قائلاً عن نتن ياهو بأنه "كرس ولايته السابقة لتسميم مفاوضات السلام مع الجانب الفلسطيني، إضافة إلى تسميمه للعلاقات مع واشنطن أيضاً"، ثم طرح تساؤله المهم: لمَ العودة إلى خطة ميتشل مرة أخرى؟، و هو نفس السؤال الذي ندور في فلكه هنا!، غير أن ديل يسعى يف بحث الإجابة مختتماً مقالته بالقول: وهكذا تعود الحلقة الشرق أوسطية المفرغة إلى نقطة البداية، مرة أخرى، ويعود ميتشل إلى وسط الحلقة مجدداً! على الرغم من مساحة التشاؤم المشاعة في هذا الجو، إلا أن الحقيقة كامنة في أن معادلة المقاومة هي الأقوى و الأصوب، بشهادة التعنّت الصهيوني، الذي يؤكد أنه مجرد احتلال ظالم و غاشم و ليس صاحب حق، و لا صاحب مظلمة تاريخية، كما كان يسوّق نفسه للعالم، و أن الجهود العربية التي يتم إهدارها في مسار السلام الخادع، حريٌ بها أن تنضم للمقاومة الصامدة برغم الخيانات و المكائد و المؤامرات الفلسطينية و الإقليمية و الدولية، لتفرض المعادلة الصحيحة للسلام العادل و الشامل، بما يحقق للفلسطينيين تطلعاتهم و يأخذ بثأرهم، و يشفي صدور العرب و المسلمين. ما سوى ذلك سنجد أنفسنا نراوح في ذات المكان كما قال وليد العمري، و في حلقة مفرغة كما ذكر جاكسون ديل، و كأن التاريخ سيعيد نفسه مرات و مرات بلا فائدة، تحقيقاً لما قاله هيجل "إننا نتعلم من التاريخ، أن المرء لا يستطيع أن يتعلم شيئا من التاريخ"، لكن التاريخ لا يعيد نفسه عبثاً، ففي كل دورة يعيد فيها التاريخ نفسه يحمل العبر لمن يعتبر، أما الذين لا يعتبرون فسيضعهم التاريخ في مزبلته!. إن إعادة التاريخ نفسه قضية جديرة بالتأمل و الحذر، و مهما كرر المشهد نفسه، و تكررت معطياته، فإن مخرجاته و نتائجه تتضاعف، بالصورة التي قال عنها ماركس "التاريخ لا يعيد نفسه, ولو فعل لكان في المرة الأولى مأساة وفي المرة الثانية ملهاة"، الملهاة تعبير عن أن الناس الذين يتعرضون للتاريخ نفسه أغبياء لا يفهمون، أو لا يريدون أن يتعلموا من الأحداث، مما يجعلهم سخرية بين الأمم، كما قال المتنبي: يا أمة ضحكت من جهلها الأممُ!.