من يشاهد منذ ستة أشهر ويتابع يدرك أن ثورة اليمن مريضة وليست سلمية ، مريضة لأنها مثقلة بهموم كثيرة جداً بحيث أنه لا يمكن أن يكون شعب بصحة جيدة وهو يحمل مثل هذه الهموم ، فثمة لعنات تصيب هذا البلد منذ الثورة الأولى الفاشلة ، وثمة خلل كبير في تكوين البنية الإجتماعية لهذا البلد الكبير مساحة وسكاناً مقارنة بمحيطه ، هذا البلد أكل الإستبداد من كرامته ومن حريته ومن شخصيته حتى من اسلوبه وسياسة حياته، ودمرت سنوات طويلة تلك القدرات التي كان يتسم بها هذا الشعب العظيم ، هذا البلد جعل الفقر منه إنساناً هزيلاً لا يملك إلا أن يمد يده على استحياء ، وتارة يتحول إلى قطة مسجونة ليس أكثر تأكل ما تبقى مما تأكله الدول وتعيش على العطايا ، هذا البلد حكمة فرد بسلطته الكبيرة وأفراد هم من أبناء عمومته وأهله بعقليتهم القديمة ، يحكمه أعدائه من الخارج وينهشون جسمه النحيل بمعاملاتهم وأسلوبهم وطريقتهم حتى تجوف الداخل اليمني فلم يعد ثمة أعضاء ، ا لكل يحدق بعينية باستغراب كيف تقوم ثورة وقد مورس مع هذا الشعب كل هذه الاساليب ، في واقع الأمر ثمة أمور كثيرة تجعل من ثوار اليمن مختلفين ومميزين ومن الطبيعة اليمنية والتركيبات الإجتماعية المختلفة فيها أيضاً مختلفة تماماً عن كل الدول العربية .. فكل دولة عربية لها خصائصها وإذا سلمنا بذلك فإن الثورة اليمنية لها خصائصها المستقلة ايضاً والدليل التالي : أولاً : المشهد اليمني منذ البداية كان واضحاً بأن من خرجوا إلى الشارع ليبدأوا حراكاً ثورياً في البلد منذ 2007 واجهوا العنف بأقسى أنواعه وقوبلوا بشتى أنواع التشويه وإن أسهم ذاك الحراك إسهامات كثيرة جداً أساءت إلى الثورة التي بدأت في الجنوب ضد النظام لكنها كانت هي التي أطلقت الشرارة الأولى قبل أن نتحرك نحن بكثير وهذا قوبل على الأقل بعنف ما بعده عنف وتشويه لكل العناصر الوطنية في الجنوب وكان قد بدأ تمييز الناس وتحييدهم بالإضافة إلى إعتقال الكثير من القيادات ، هذا من باب أولى ذكره لكن ما هو أهم في مسألة الثورة الممتدة أن الحراك الثوري الذي بدأ لم يبدأ ثقافي وأنا كنت قد كتبت مقالاً بعنوان " هل بدأ الحراك الجنوبي حراكأً ثقافيا" وظننت بل أجزمت بأن الحراك لم يكن مبنياً على اساس ثقافي فكري والدليل بأن هناك عناصر كثيرة رفعت شعار الإنفصال بعد أن يأست من التغيير في الشمال وأفلس مشروعها السياسي والفكري والثقافي حتى إنتهى بنا الأمر في هذا العام لأن يتحول الشعب اليمني إلى شعب رافض للإستبداد والتبعية والفساد والإرتهان فخرج يعبر عن ذلك في كل الساحات والميادين الشمال والجنوب وانحسر مفهوم الإنفصال كما أنحسر مفهوم العودة إلى دولة الإمامة في الشمال وبدت الثورة تتوحد بمفاهيم جديدة منها الدولة المدنية .. ثانياً : في الدول الأخرى المؤسسة العسكرية تبدو شبة مستقلة وإن كان لها ارتباط في الزعيم لكنها قررت أن تقف مع الشعب في النهاية وهاهي الآن في مصر ترعى التحول الديمقراطي وفي تونس كانت السبب الرئيس في نجاح الثورة عندما قررت عدم طاعة الزعيم والإنصياع لأوامره ، وإن كانت هذه الدول ديكتاتورية لكنها لم تكن على الإطلاق تسيطر على كل المؤسسة العسكرية ، ففيها أستطاع الجميع تحقيق إرادة الشعب وفعلوا فلسفة قرآنية عميقة جدأً تتجسد بالآية القرآنية " كلا لا تطعه وأسجد واقترب " ، في اليمن كل القوة العسكرية بيد الرئيس وبيد أبنائه من الأمن العام إلى المركزي إلى القومي إلى الخاص وهذا ما يجعل الثورة مختلفة أيضاً ثالثاً: في الدول التي نجحت فيها الثورة بسرعة كانت المجتمعات تقريباً شبة مدنية قادرة على تفعيل حوار في أوساطها على أساس مدني بحت كما أنها كانت قادرة على صياغة الهم العام في مشروع ثورة حقيقية فالكل لا يمارس العمل السياسي بحرية ، والكل لا يستطيع الحديث إلا من الخارج ، والعمل السياسي في كلا البلدين قاع جاف لا يستطيع أحد أن يتحرك فيه فضلاً عن الغوص في أعماقه ، وبالتالي فإن الأحزاب السياسية القائمة في تلك البلدان لم تكن أحزاب سياسية معارضة بقدر ما كانت مناوئة أو منضوية أو منعزلة أصلاً عن الساحات الرئيسية بصحيفة هنا أو مقال هناك ، ومن ثم فإن الثورة اليمنية تحتاج إلى عمل سياسي وثقافي كبير وواسع فما كان يعطل العمل السياسي في كثير من الأحيان ويضع الخطوط الكبرى تحت شعارات الحرية والكرامة والإنسانية وحقوق الإنسان هو التيار القبلي الجارف الذي أرتضى ما جرى في المناطق الوسطى حتى أن أعلى سلطة تشريعية في البلد لم تستطع أن تصنع لنازحي الجعاشن شيء ، وبالتالي فإن الثورة كانت على كل شيء قبلي يمارس ما يمارسه النظام المتهاوي من عنجهية وقتل واستبداد وهذا ما اعاقها كثيراً وعطل مسيرتها حيث القبائل شريحة مهمة وكبيرة وفاعلة ومتوغلة ولها دور تأريخي في مسيرة البلد وهناك من القبليين من يرون أن مصلحتهم المتمثلة في إضطهاد الشعب والإسترزاق من قوته هي في بقاء هذا النظام ، وبالتالي فقد كان لا بد لهذا الوقت أن يبين وأن يطول حتى نرى القبيلة على حقيقتها ، ونرى تحالفاتها وممارساتها وقدرتها على طبيعته وإن كانت غيرت من تكتيكها هذه المرة لكنها على الإطلاق لا تستطيع أن تغير من سلوكها العام ونهجها القديم وإن بدى إستعدادها لذلك ، إلا إذا أمتلكت القبيلة الإرادة القوية في جعل أولوياتها في المرحلة الحالية والمقبلة ثورة ثقافية فكرية تعليمية تشمل الذكور والإناث فإن هذا منذر ببلد مختلف ووضع مختلف .. رابعاً : ما حصل خلال الفترة الماضية كان خطة لتفريخ الأحزاب السياسية وتجريف للعمل السياسي بحسب تعبير الأستاذ محمد حسنين هيكل حيث أن الأحزاب الكثيرة التي تشكلت ومارست العمل السياسي كانت كلها جزء من السلطة القائمة حتى أن أحد المرشحين الوهميين للرئاسة اليمنية في 2006 كان يدافع عن علي عبدالله صالح أكثر من دفاعه عن برنامجه السياسي ، ثم إن المعارضة الرسمية الحزبية التي خاضت معاركها بكل صمود رغم إنها كانت تعاني شيء من التشضي سببه الرئيسي الخلفيات التاريخية والسلوك العام حاول الرئيس أكثر من مرة وطوال مرحلة التعددية أن يقضي على الفكرة المعجزة وهي فكرة اللقاء المشترك وفكرة الحوار الوطني ، بأساليب لا يمكن أن يستخدمها رجل يحاول أن يحافظ على اللحمة الوطنية وعلى الوحدة كأساس يبني عليها المستقبل ، فكانت فكرة التعددية والحوار المطول هي عملية موت سريري ، وهذا ما جعل التعدد السياسي ايضاً صعب إلى درجة كبيرة وهذا عكس الدول الأخرى التي إما قمعية ليس فيها أحزاب تجعل الناس يفكرون ببدائل ، أو أحزاب مفرخة غير قادرة ولا يقبل معها حوار أصلاً فكانت عبارة عن مقرات وصحف ، باليمن مورس شيء من هذا النوع لكننا نبدو مختلفين جداً بحيث أن هناك عملية سياسية جرى الحوار بشأنها منذ ال2007 وحوارات كثيرة جداً اجريت لكنها كانت تضييع للوقت وعبث به تماماً كما تم العبث بالمبادرة الخليجية وهذه سجية الرئيس وأعوانه في الآوان الأخيرة .. خامساً : لم يكن يومأً على الإطلاق قرارنا قراراً وطنياً بل كانت التبعية هي اساس الحكم في البلد بدون مصلحة عليا ، فأحياناً الدول قد ترتهن للآخر ، وقد تتعاقد إلى درجة يظن المرء انها ولاية لدولة أخرى ، ولكن هذا يقف عندما يتعلق الأمر بمؤامرة على الشعب ، بأن هذه الدولة أو تلك تهدف من هذا كله سلب هذا البلد أو إعفائه من الحياة ، وسلبه جميع حقوقه ، حيث أنه في اليمن لم يكن هناك فساد دولة ، بل كانت دولة فساد من البداية قامت بتبعية و استمرت بهمجية مطلقة ، حيث غيب التثقيف والتعليم من البداية وسادت ثقافة النهب والسطو والحكم القبلي وغيب القانون وأنهار النسيج المجتمعي نتيجة لذلك وصودرت الحقوق وتسرب الخوف والقلق وانعدمت السكينة العامة وانتهى الناس باحثين عن سند وعن عشائر وتكتلات وعصابات وتقطعات ،وبالتالي فأنا أعتقد غير ما يعتقده الكثير من المحللون السياسيون بأن صالح يعيش وضعاً صعباً بين ضغوط العائلة وضغوط السعودية لأن هذا تجاوز لأبجدية التفكير إن صح التعبير فالجميع يسير باتجاه واحد والرئيس والعائلة لازالوا يسيرون بنفس خط التبعية المطلقة للمملكة والأمريكان ، فالولايات المتحدة تتحدث بخجل عن الأوضاع في اليمن لأن المهمة في المنطقة موكلة للسعودية ، والسعودية لا زالت ترى بأن هناك ثوب مفصل مسبقاً على مقاس الرئيس القادم لليمن وهذا الرجل لم يتم اختياره ... سادساً : ظهور الرئيس علي عبدالله صالح من الرياض متحدثاً لأنصاره في اليمن يدل دلالة واضحة بأن الثورة مثقلة بالهموم ، ويدل أكثر دلالة بأن التصعيد الثوري ليس موجوداً مع التضحيات الجسيمة الذي يقدمها الشباب في الساحات ، لكنها تضحيات فردية لا تدل بأن هناك ثورة ، وإنما تدل بان هناك إعتصام ينتظر أن تتنزل رحمة من السماء ليسعدوا بما فعله غيرهم كما حدث في النهدين ، وهنا أنا أعتقد بأن السيادة الثورية لم تكتمل بعد وبأن اللقاء المشترك بالإضافة إلى المكون القبلي كطرف أساسي في الساحة وفاعل ويمثل الاكثرية لم يصعد تصعيداً حقيقياً قادراً على تجاوز هذه الهموم وهو وإن كان حسب اعتقادي له مبرراته في ذلك إلا أنه وعن طريق أنصاره في الساحات يستطيعون أن يصنعوا الثورة من جديد وبآليات جديدة ..أتمنى ذلك سابعاً : وإن كانت الثورة وإستمرارها في الساحات ومدتها الطويلة قد عرفتنا الكثير فإنها أكدت الهموم اليمنية وأكدت ذلك الثقل الكبير الملقى على عاتق هذا الشعب المكافح بحيث يمكن رؤيتها عياناً ، فمجرد أن ترى وجه اليمني العابس والمحدق والآمل ترى رجل مختلف لم يرد له يوماً أن يكون حراً ، فحرم من أبسط الحقوق وقيدت حركته في بلده حتى أصبح مرتهناً للخارج كسياسة بلده ، فلا يكاد الشاب يبدأ الحلم حتى يغادر إلى بلد آخر ، وإن كانت الثورة قد أعطت الشباب دفعات من الأمل فإن استمرارها بهذا الشكل وبهذا السلوك سوف يؤثر سلباً على مجريات الأمور وسوف تطول أكثر وأكثر بصالح أو بدونه ، بالمبادرة الخليجية أو بدونها ، وتأسيس المجلس الإنتقالي الذي سوف يعلن من قبل قوى الثورة السلمية المختلفة سوف يكون على عاتقة حمل أكبر من مجرد الجلوس في الساحات ودعوة الناس للصبر حيث أنه يحتاج إلى عمل سياسي متواصل وتصعيد ثوري أيضاً متواصل وإلا فإنه سوف يكون وبال على الثورة وليس رافداً لها