في دراسة أدبية تاريخية يقدم المفكر والأديب الرائع “أدونيس” قراءة مغايرة لرفض الوالي كافور الأخشيدي تولية الشاعر الاستثنائي المتنبي أي منصب أو ولاية، ليس كرهاً أو احتقاراً من كافور للمتنبي، بل كما يرى أدونيس “خوفاً على المتنبي من أن تفسده السلطة”، فكافور رأى أنه لا شيء يفسد المثقف كما تفسده السلطة والمال والجاه. والتاريخ مليء بمثقفين تحولوا إلى جلادين وأساطين في التعذيب، ومن يسمع أو يقرأ للمفكر السياسي محمد حسنين هيكل وهو يتحدث عن ملك المغرب الراحل الحسن الثاني، وما فيه من بحور متلاطمة من الفكر والأدب والثقافة وفن الحوار والاقناع، والتنظير في كل شيء من نظريات الاقتصاد والسياسة إلى علم اللسانيات والموشحات الأندلسية، كل ذلك تجسد في شخص الملك الحسن، لكن الأغرب من ذلك أنه منذ وفاته في يوليو 1999 وحتى الآن ونجله وخليفته محمد السادس يسترضي المغاربة المقموعين من أبيه، وفي كل عام يشكل لجنة “ترقيع” لعهد أبيه، المثقف والمفكر الذي مسخته السلطة. أطلت كثيراً لأدخل إلى الحديث عن رجلٍ بحجم المثقف عبدالله منذوق عوبل وزير الثقافة الذي أصر على إقرار قانون “المصنفات والملكية الفكرية” في اليمن الشهر الماضي، وهو قانون سيدفع الكثيرين للغضب من وزير الثقافة شخصياً، ليس لأنه من مرر القانون، بل لأنه جاء إلى الوزارة على حساب قائمة المعارضة، التي كانت العمود الفقري في الثورة والتغيير. لا شيء يجرح الذكرى كالحديث عن “منذوق” أنه ابن مدرسة عمر الجاوي، الرجل الصلب الذي لا يختلف على وطنيته اثنان، فقد قاد اتحاد الأدباء، واشتغل في السياسة والأدب في أحلك وأخطر اللحظات التاريخية. و“منذوق” اليوم يطل بأنيابٍ مرعبة، ومرر قانوناً هو الأسوأ من نوعه، بعد قانون المطبوعات التركي الصادر في 1909، فلم يكن قانوناً بقدر ما كان ذريعة قانونية لضرب وإخماد أي صوت مرتفع، والقانون الأول للملكية الفكرية الذي عرفته مدينة البندقية الايطالية عام 1447 هو أفضل وأكثر مراعاة لحرية الفكر والابداع من قانون “منذوق”. وبنصف مسئولية تحركت نقابة الصحافيين واتحاد الأدباء والكتاب وأصدرا بياناً مشتركاً في 11 يونيو، نددا فيه بطغيان القانون ، ووصفاه ب“كارثي لا صلة له بالعصر ولا بالحياة ولا بمصالح الشعب وتطلعاته التي عبر عنها في ثورته الوطنية العظيمة”، واعتبراه “إعادة لإنتاج الأسلحة الفاسدة للنظام السابق”، ودعيا “قوى ومؤسسات المجتمع المدني والشخصيات العامة للتصدي لهذا الجنوح الفاشي المعادي للحرية والديمقراطية ، والثورة السلمية، فالمشروع مفتوح حسب المادة (81) على القوانين الأخرى والأشد منها”. والمادة 85 تمنح موظفي وزارة الثقافة سلطة الضبط القضائي، بمعنى: يحق لموظف بسيط في الوزارة أن يصادر كشكاً أو مكتبة أو كتاباً أو صحيفة ويعتبر تصرفه الأخرق حكماً قضائياً لا يُنقض إلا بحكم استئنافي... تخيلوا هذا، والساحات لا تزال مكتظة بثوارها، يهتفون، ويخرجون بمسيرات كل أربعاء، لمن، وضد من، لا يعلمون. وبحسب البيان المشترك للصحفيين والأدباء تجيز ذات المادة 85 الحق لموظفي الأجهزة التنفيذية سلطة تفتيش المنازل والدكاكين والأكشاك بحثاً عن ألغام الكتب وأفيون التأليف”. وبموجب القانون تحتكر الدولة كامل الموروث الشعبي الفلكلوري حسب المواد (56-57-58-61). ويقدم في المادة 83، مجموعة شروط مجحفة لطالبي النشر، وصلت إلى حد تحريم وتجريم المباحات، وفرض رقابة مسبقة ولاحقة على الكتب والمطبوعات. نصف المسئولية التي تحرك بها الصحفيون والأدباء كان لابد من إكمال نصفها الآخر، من خلال حشد الإعلاميين والأدباء والمثقفين والمنظمات المدنية وشباب الساحات والتحرك باحتجاج سلمي إلى أمام مجلسي النواب والوزراء، والمطالبة “بنذق” هذا القانون “المنذوقي”، فالقوانين الصادرة في عهد التشطير وما بعد الوحدة أرحم منه، وأكثر استجابة لحرية الفكر والابداع، فضلاً عن أن القانون يتعارض مع حرية الرأي والتعبير التي نص عليها دستور دولة الوحدة، في المواد 25، 27، 42، 48، وقانون الصحافة والمطبوعات، والمواثيق الدولية التي صادقت أو وقعت عليها اليمن، بما فيها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. استقالة المثقف الموسوعي عبدالباري طاهر من رئاسة الهيئة العامة للكتاب احتجاجاً على إقرار البرلمان لهذا القانون الجائر، تعني أن الرجل حفظ تاريخه، وضمن مستقبله في ذاكرة الأجيال القادمة.