صباح الجمعة الماضية فتح الشاب الوسيم لطف العماد باب دكانه الصغير في حي شميلة، وهو يفكر بالطريقه المناسبة لعرض بضاعته واقناع زبائنه بأنها جيدة. «ما تفعل يا لطف واليوم جمعة»؟ يضحك الفتى وهو يرفع فنجان الشاي إلى فمه: «نطلب الله». وبعد دقائق قليلة كان الموت في صنعاء يعرض بضاعته على الفتى الصغير، جاءه على شكل قاتل لم يستطع لطف إقناعه بأن «البيع قول وشور»، سحب القاتل مسدسه وأطلق الرصاص، سقط لطف على الأرض ونافورة من الدم تتدفق من رأسه، وفي المستشفى تلاشى طعم الشاي المختلط بالدم في فم الفتى وذهب إلى لقاء ربه. في اليوم التالي كان ثمة شاب مقهور على لطف، وممتلئ بالغضب، خرج مع أهل القتيل في مسيرة سلمية لمطالبة قوات الأمن في مركز الشرطة القريب بالقبض على الجاني، وعندما ألتقى برجال الأمن، أطلقو الرصاص عليه، وأردوه قتيلاً.
كان لدينا في اليوم الأول بيت عزاء، وأصبح لدينا في اليوم التالي بيتين للعزاء، وأكثر من مصاب يبكي أهاليهم إلى جوارهم في المستشفيات.
كان الأب المكلوم، وهو يتحدث إلى الكاميرا بعيون حمراء مملوءة بالدموع، يئن ويقول: «كان لطف شاقي على عشرين نسمة»، وأضاف أشياء أخرى عن القبض على القاتل والاقتصاص منه، لكنه مثل أي أب من وصاب، كان يفكر بمصدر الرزق على «العشرين نفس» ولديه قلق دائم من الاحتكاك بالشرطة ورجال الحكومة، لأنه في كل مرة يخسر مواجهته معهم. لقد تعود على ذلك، ويهمه في الوقت الراهن الطريقة التي سيتدبر بها أمر عائلته، وكيف يتجلد أمام الكثير من أبناء قريته الذين يواسونه بحشو القات في فمه، ويقترحون عليه طرق عديدة للثأر من قاتل ابنه، ليس بينها فكرة عبد الله الحرازي التي كتبها على الفيس بوك: «يا أصحاب وصاب.. لا تعتصموا ولا تتعبوا.. افرقوا قيمة موترين، واحد لغريمكم الأول، والثاني لعبدالقادر قحطان».
ربما تكون فكرة الحرازي جيدة بالنسبة لرجل من وصاب يشعر باليأس لفرط ما اشتكى، ويشعر بالقهر لأن يديه فارغتان من الحلول، ويدرك اليوم وهو في مجلس العزاء أن أبناء عمومته وجيرانه لا يزالون يقتلون برصاص رجال الأمن، وأن وزارة الداخلية أصبحت غريماً قاتلاً ومسلحاً، هو يتذكر الآن أن الذين ضحوا من أبناء منطقته في جمعة الكرامة وشارع الزراعة وجولة كنتاكي كانوا يتجاوزون الثلاثين، كان أقاربهم في بعض الأحيان يتلقون التهاني، فقد توفوا أبطالاً في ثورة التغيير، واليوم لا أحد يدري ما الذي يمكن قوله لأهالي القتيل في الاعتصام السلمي، القتيل الذي قتلته قوات وزير الداخلية، الوزير الذي أتت به الثورة إلى هذا المنصب!
القتل لا يزال مستمراً بالنسبة لأبناء هذه الأرض الريفية في وسط البلاد، قبل الثورة وبعدها، وأثناءها، من يتذكر عبد الحميد الوصابي الذي اعتدى عليه أحد أفراد النجدة في مثل هذا الشهر من العام الماضي واطلق عليه الرصاص بالقرب من وزارة الداخلية، وتركه ينزف حتى الموت.
كأن الموت يلاحق الناس في الشوارع والطرقات، حتى من رجال الأمن والنجدة الذين يفترض بهما تأمين حياة الناس ونجدتهم وقت الحاجة، ولا أدري كيف يمكن تعزية رجل من قريتك، كنت حتى وقت قريب تطمنه، أن ثمة خير في الطريق، وأنه لا داعي للقلق، كان يجب تحذيره من مدينة مثل صنعاء يكثر فيها الرجال الذين يضمرون الشر، ويقتلون بائع «أكوات» لمجرد أنه بائع أكوات من وصاب.
لا شيئ أستطيع فعله تجاه أهل لطف أو أهالي الضحايا من قبله أو أهالي من سيقتل بعده، ولا أدري كيف سيتصرف «أصحاب البلاد» أو عبد القادر قحطان، أنا فعلاً لا أعرف، وقد يكون أفضل ما يمكن قوله لجيراني في تلك البلاد: لا تتوقفوا عن التظاهر والاعتصام من أجل حقكم في الاقتصاص من القتلة، لكني بصراحة لا أريد ذلك، أخشى أن تقتل الشرطة أحد أخوتي أو جيراني، وأنا لا أريد أن أفقد المزيد، يكفي الذين ضحوا لأجل الثورة ويخجل المرء في الوقت الراهن من تذكر وجوههم.
أشعر بالحزن فعلاً، والعجز أيضاً، واسمع المتحمسين للثأر و»التقطع القبلي» وأحزن أكثر، حتى وأنا أكتب عن لطف أخشى أنني لم افعل أكثر من استثمار موته في مقال فحسب، والكتابة عن منطقة كأنها كل اليمن، لكن هؤلاء أهلي، وأصوات النساء المفجوعات تلاحقني وأنا في آخر الدنيا، ويخطر في بالي بإلحاح: «من سيشقى على العشرين» الذين تركهم لطف؟
أتذكر وجه الأب المكلوم وهو وسط أولئك الناس، وكأنه في ذلك الوقت لم يكن يبحث عن شيئ سوى الطريقة التي تجعله يواصل حياته بقدر كاف من الكرامة، تجعله يتجاوز هذه الفكرة التي تعذبه: «القاتل طليقاً وابني في القبر».