في مقالةٍ قديمة له، يذهب المفكر الراحل د. عبدالوهاب المسيري إلى أن السلوك الإنساني ليس مجرد أفعال وردود أفعال مشروطة تتحكم فيها قوانين الميكانيكا أو البيولوجيا. ويضيفُ: إن الإنسان لا يدرك واقعه، بشكل حسي مادي مباشر، إلا في حالات نادرة تتسم بالبساطة (كأن يتعرض لوخزة دبوس أو لسعة سيجارة)..! يقول كل ذلك ليصل بالقارئ إلى أن وعي الإنسان بمحيطه المادي يتحدد وفقًا لما أسماه المسيري: الخريطة الإدراكية. وهي عبارة عن مزيج من: الصور، والذكريات، والخبرات، والقناعات، والعواطف، والدوافع، والنوايا... "التي تحدد ما يراه الإنسان في الواقع الخام.. فهي تستبعد بعض التفاصيل وتهمِّشُها فلا يراها، في حين تؤكد البعض الآخر بحيث يراها مهمة ومركزية"
وخلافًا ل(كانط، وفخته، وهيجل)، لا يرى المسيري أن وجود الأشياء والظواهر مشروطٌ بإحاطة الوعي بها. بل يرى المسيري أن الله خلق كل الموجودات «خارج وعينا وإدراكنا وإرادتنا»، وهي تؤثر في «تحديد بعض جوانب الفكر والسلوك بدرجة تتفاوت في مقدار عمقها من إنسان إلى آخر ومن لحظة زمنية إلى أخرى».
والأهم من كل هذا، يقرر المسيري أن الخريطة الإدراكية غير واعية في الغالب. وهو ما يحمل صاحبها على الاعتقاد بأنها الأقرب إلى المنطق مما سواها..!
شخصيًا، أجد في هذه الرؤية الفلسفية العميقة، إطارًا تفسيريًا لمواقف مؤيدي الانقلاب العسكري في مصر. وتحديدًا تلك المتعلقة بالعنف المفرط الذي انتهجه الحكم الجديد لحسم الخلافات السياسية والاختلافات الفكرية.!
ولكي نضع أيدينا على مكمن الداء، سأعيد صياغة ما أورده المسيري على أمل أن أكون موفقًا في ذلك، وألا أكون متعسفًا.
كأن الرجل أراد أن يقول: إن المواقف لا تتشكل وفقًا للمعطيات المادية التي توفرها الحواس لحظة الحدث. أي أن موارد الحواس قد تنتزع من سياقها الحقيقي وتوضع في سياقات أخرى تحددها «الخريطة الإدراكية»..!
ولا شك في أن هؤلاء جميعًا كانوا يرون الصورة مكتملة التفاصيل. إلا أن الخريطة الإدراكية، لكل فرد منهم، قامت بتصنيف هذه التفاصيل، فجعلت بعضها مركزيًا، وبعضها الآخر هامشيًا. ناهيك عن أنها انتزعت فعل القتل من سياقه الطبيعي (مصادرة حق الآخر في الحياة)، لتضعه في سياق ظرفي مختلف (مواجهة خطر الإرهاب المزعوم)..!
فالخريطة الإدراكية لم تكن في معزل عن الضخِّ الدعائي المكثف والمتواصل الذي حوَّل المواجهة السياسية الصرفة، إلى مواجهة مصيرية كبرى بين: الماضي والمستقبل، الهمجية والتحضر، العصابة والدولة، العمالة والوطنية، التطرف والاعتدال... وأخيرًا: أمريكا ومصر..!!!
ولذا، لم يكن مستغربًا أن تقوم الممثلة إلهام شاهين، على سبيل المثال لا الحصر، بتوجيه خطاب «تهنئة» للقائد العام للجيش في يومٍ يعتبر الأكثر سوادًا في تاريخ مصر الحديث!!
على أن الخريطة الإدراكية، كما يرى المسيري، لا يمكنها الصمود طويلاً أمام واقعٍ تتعاظم فيه القسوة. وغالبًا ما تطرأ عليها تغيرات جزئية أو كلية.
ولعل أقرب الشواهد التي تعضد الجزئية الأخيرة هذه، هو واقعة الصحافي المصري أحمد أبو دراع الذي سُمِحَ له بمرافقة القوة العسكرية المتواجدة في سيناء، وتغطية العمليات الميدانية هناك، دونما خروج عن السياسة التي تنتهجها دائرة الشؤون المعنوية.
أبو دراع حفظ التعليمات جيدًا، واستمر في تصدير صورة ما يجري في سيناء، كما يريد لها الجيش أن تكون. وظل محتفظًا بمكونات خريطته الإدراكية التي استلهمت جزءًا كبيرًا من العقيدة القتالية للجيش المصري في نسختها الجديدة..!
وفجأة، يتعرض مسقط رأسه (قرية المقاطعة - شمال سيناء) للنيران الغاضبة التي غيرت حدود خريطته الإدراكية كليًّا.. ليتحدث هاتفيًا إلى القناة التي يعمل بها، ويأتي برواية مغايرة تمامًا لرواية الجيش، فيبدو وكأنه يكتشف فظاعة الحروب للمرة الأولى في حياته..!