ثمة خدمة واحدة يستطيع رجال الحكم والسياسة في بلادنا أن يخدموا اليمنيين بها: يستقيلوا ويذهبوا إلى بيوتهم، وعلى من يريد أن يمارس السياسة من بعدهم أن يتعلم فضيلة واحدة فقط، أن يعمل بعكس ما كان يفعل من سبقوه، فهو إن فعل ذلك حصد النجاح أينما اتجه أو ذهب، وكان أحد الكتاب قد نصح رؤساء الدول بالتعلم من معمر القذافي بالقول: ما على رئيس الدولة سوى أن يرى ما يفعل الزعيم الليبي، ثم لا يفعل مثله، أو يفعل عكسه. لست مهتماً بمتابعة ما يفعله ملك ملوك أفريقيا وإمام المسلمين وعميد الحكام العرب، لكني مهتم بما يفعله رجال الحكم في بلدي، وأظن أن نصيحة التعلم السابقة يمكن الأخذ بها من الاثنين معاً، والشاهد أن سياسات الحكم خلال السنين الماضية قادتنا إلى الوضع المتردي الذي نحن عليه، والقارئ يدرك ذلك ولا يحتاج إلى من يذكره بالهم من حوله، أو يسرد له الأزمات في بلده. أعرف صديقاً كان يبادر إلى حك جسمه بمجرد سماعه خطاباً لأحد السياسيين في بلده، وعندما نسأله عن السبب، يقول أنه يعاني من حساسية تجاه الكذب، ويبدو أن حساسية الصديق من النوع المعدي، ففي نهاية الأسبوع الماضي شعرت بنفس الأعراض وأنا أتابع المؤتمر الصحفي للحزب الحاكم حول وقف الحوار مع أحزاب اللقاء المشترك، والسبب يتعدى الكذب إلى ما هو أسوأ من ذلك، وهو التعامل معنا نحن المواطنين المغلوبين على أمرنا على أننا مجرد متفرجين علينا الانبهار بقدرتهم على "الرطين" السياسي، والتصفيق لحنكتهم في الرد على الطرف الآخر، ثم هم بعد ذلك يغادرون المؤتمر الصحفي وهم يضحكون أنهم استطاعوا الضحك علينا..! ومع ذلك أتمنى أن لا يكونوا كما يبدون عليه، ولا كما يصورهم خصومهم أيضاً، أقصد الخصوم الذين أصبحوا يحملون الأعلام الأمريكية في الجنوب ويصفون رجال الحكم في صنعاء بما لا تجوز كتابته. رأيي أن رجال الرئيس لا يرغبون في حوار المعارضة إن لم يضمنوا أنهم قادرين بعد الاتفاق على فعل ما يخالفه. ومشكلة المعارضة أنها ليست من القوة بمكان تستطيع معه أن تحمي الاتفاقات التي وقعت عليها، ولذلك تحتاج إلى ضمانات غير عادية تجعل من الحوار أمراً صعباً، وهي في أغلب الأحوال تجيد الانتظار ورد الفعل، على الفعل القوي والمنظم الذي يجمع الناس من حولها، بمعنى أنها أبطأ بكثير من سرعة الأحداث المتلاحقة، والتوصيف المناسب الذي يحلو لبعض المراقبين من خارج اليمن وصف بلادنا به هو: حكومة فاسدة ومعارضة ضعيفة. والحقيقة أن الرجال في بلادنا هم أبناء جلدتهم، ولا يمكن القول أن هذا الفريق أو ذاك قادم من كوكب آخر، هم في نهاية المطاف حكاماً ومعارضة "معجونين" بالبيئة اليمنية التي أفرزت لنا هؤلاء الرجال الذين يحكمنا النصف منهم ويتحدث باسمنا النصف الآخر. الدكتور عبد الكريم الإرياني، وهو الرجل الداهية كما يحب أنصاره أن يطلقوا عليه، حمل نهاية الأسبوع الماضي أحزاب اللقاء المشترك مسؤولية فشل الحوار، وهم طبعاً ردوا عليه وقالوا "نأسف"، وأضافوا أن هدف المؤتمر الصحفي الذي ترأسه الإرياني هو إفشال الحوار، وزاد على مزايدة الاثنين سلطان البركاني الذي ظل متمسكاً بالميكرفون رغم محاولة من بجواره انتزاعه منه وهو يكيل التهم إلى حميد الأحمر متهماً إياه بشخصنة القضايا، وقال إنه "بحاجة إلى رؤية تنقذهم من رؤية حميد الأحمر"، وبدا واضحاً أن التهم التي وجهها للقيادي في اللقاء المشترك حميد الأحمر تليق به أكثر من حميد نفسه. حميد وسلطان بالنسبة لي مشايخ، وأنا والقارئ مجرد مواطنين عاديين ننتظر أن يحلوا مشكلاتهم التي يخوضونها باسمنا جميعاً حتى يتفرغوا لحل مشكلاتنا، هذا إن استطاعوا طبعاً، فاليوم يمكن لأي صبي صغير في هذه البلاد أن يقول لك وبكل بساطة: "الحل دائماً عند علي عبد الله صالح"، ويبدو أن "الرجل الكبير" لا يرغب فعلاً في الحل، ربما لأنه لم يعد بمقدوره ذلك، وربما يعتقد أن الحرائق المشتعلة من حوله يمكن إطفاؤها بالمال السياسي الذي ينتظره من "المانحين" بحجة محاربة الإرهاب ودرء مخاطر انهيار الدولة اليمنية. أقول دائماً إن توقف الحوار ليس حلاً، ونستحق نحن اليمنيين ما هو أفضل من هؤلاء السياسيين في الحكم والمعارضة. ولو كنت قادراً على استبدالهم بشخصيات أخرى عادية وبسيطة من عامة الشعب لفعلت، فهي وإن اختلفت ستجتمع في نهاية المطاف ويخرج من بينها من يقول "يا جماعة صلوا على النبي"، ثم يبرز المعدن الأصيل للرجال والنساء، ويصلوا لاتفاق يمنع النيران الغاضبة من التهام بقية المنزل الذي يقطنوه وأوشك على الانهيار. الوصول لاتفاق ينقذ البلاد ليس معادلة كيميائية إلا إذا حبينا نتفلسف، ولا يحتاج إلى رجال سياسة دهاة ومحنكين، هو يحتاج فقط إلى رجال قادرين على الفعل، ومخلصين للوطن وصادقين مع الناس ومع أنفسهم، تلك هي المسألة بكل بساطة، ويمكن التعامل مع بقية ما يقال ويكتب على أنه مجرد توصيفات لا أكثر. هذا ما أفهمه أنا ويدركه أي مواطن في الشمال أو الجنوب، ومن حق القارئ أن يعيد النظر في كل الأخبار والمقالات من حوله، وسيجد أن الجميع يتفق على الحوار لكن لا يوجد بين الجميع من هو رشيد وقادر على مفاجأة الكل بمعجزة صغيرة تبدأ بالجملة التي تسبق بالعادة الاتفاق بين أي فريقين يمنيين: "هيا صلوا على النبي". كتب الدكتور المقالح في منتصف التسعينات عن "الشفافية" وقال إنها فقدت معناها وبريقها لفرط ما استخدمها الناس في غير مكانها، وأخشى أن الشيء نفسه ينطبق على مفردة "الحوار"، كما هي عادة السياسيين في بلادنا في الاكتفاء بترديد مفردات الديمقراطية التي "كسروا رؤوسنا" بها وهم للأسف لا يعملون بها أبداً.