قد يتفهم المواطن المسكين مضطراً أن الدولة غير قادرة في الوقت الراهن على فرض نفوذها في مناطق شتى من البلاد؛ لأنها لا تريد أن تفتح جبهة قتال أو توتر جديدة في مناطق مثل صعدة، وعمران، وحضرموت، وأبين، ومأرب والجوف لمواجهة الجماعات المسلحة والأعمال التخريبية المنظمة لأسباب متعددة؛ مثل كونها دولة ضعيفة، ولا تسيطر على وحدات جيشها وأمنها سيطرة حقيقية، وأنها تعاني من وجود اختراقات في هاتين المؤسستين يجعلها تخشى من انقلاب الأمر عليها! كل ذلك يمكن تفهمه على مضض أو بقناعة؛ لكن ما الذي يمنع الدولة أن تواجه عمليات التخريب والفوضى الصغيرة، والتحدي لهيبتها في عقر دارها ونقصد بالتحديد: العاصمة صنعاءوعواصمالمحافظات الأخرى؟ خذوا مثلاً حكاية إغلاق بعض المؤسسات الحيوية مثل كلية الهندسة في جامعة ذمار أو توقف العمل في كلية العلوم في جامعة صنعاء أو إغلاق مستشفى الثورة في إب.. أو توقف محطات البترول في العاصمة صنعاء عن العمل وافتعال أزمة شديدة في الوقود؛ في الوقت الذي تقول وزارة النفط إن ملايين اللترات تتدفق إليها؟ كيف يمكن تفسير هذا التقاعس الرسمي عن مواجهة مثل هذه المشاكل عند وقوعها، وتركها تستمر في إيذاء المواطنين؟ نؤكد أولاً موافقتنا على صحة إعلان وزارة النفط أنها لم تقصّر في إمداد المحطات بالبترول، وكشاهد عيان فقد كانت إحدى المحطات المهمة في شارع الستين الغربي مليئة بالوقود قبل يومين؛ كما أخبرنا عامل محل تغيير الزيت الذي رأى عشية ذلك اليوم ناقلتي بترول تفرغان الوقود في الليل؛ ومع ذلك ظلت المحطة مغلقة حتى اليوم التالي بعدها عادت للعمل وتكدست طوابير السيارات أمامها، ولم يأتِ العصر حتى أغلقت أبوابها من جديد! وبصرف النظر عما يقال إن عديداً من محطات البترول تشارك في لعبة اصطناع الأزمات لعلاقات مشبوهة تربط مالكيها مع مراكز قوى متضررة في النظام السابق؛ لكن ما الذي يمنع الدولة (وأنا هنا أقصد تحديداً الرئيس بوصفه المسؤول الأول والفعلي عن أمن البلاد، وقيادة أمانة العاصمة وعلى رأسها: عبد القادر هلال) أن تتخذ إجراءات طوارىء لإجبار المحطات على العمل – بعد ضمان تزويدها فعلاً بالوقود- ولو بوضع اليد على تلك المحطات التي تمتنع عن العمل وتشغيلها من قبل أطقم تابعة لوزارة النفط، وبحراسة من قوات أمنية مؤتمنة.. وتقديم أصحاب المحطات المشاركة في اصطناع الأزمات إلى النيابة المختصة.. وكشف الحقيقة للرأي العام؟ محطات البترول في العاصمة ليست في قوة عصابات التخريب في مأرب ونهم حضرموت، ولا هي مثل فرق القاعدة في أبين، ولا هي مثل كتائب الحوثي المدججة بالسلاح حتى يحسب لها ألف حساب إلى درجة السماح لها بأن تتحدى الدولة إلى هذه الدرجة وفي عقر دارها؛ إلا إذا كانت العقيدة القتالية والأمنية اليمنية الموروثة من نظام المخلوع متخصصة فقط في ملاحقة أصحاب العربات اليدوية والبساطات.. وفي هذه الحالة فالأمر يستلزم إعلام الشعب بذلك لكيلا نحمل الدولة ما لا طاقة لها به! ولنقل مثل ذلك عن مدير مستشفى الثورة في إب الذي أغلق المستشفى احتجاجاً على تغييره، وكأن الوظيفة ميراث عائلي؛ كما جاء في الأخبار؛ ولم يتم إعادة افتتاح المستشفى إلا قبل يومين، وبعد أيام طويلة من إغلاقه، وبتدخل من قبل قوات الأمن.. فلماذا لم يحدث ذلك منذ البداية؟ أليست هذه منشأة عامة ومهمة لحياة المواطنين.. فكيف تتقاعس الدولة كل تلك المدة دون تقدير للعواقب على حياة المواطنين وهيبة الدولة نفسها؟ أما حكاية إغلاق كليتين في ذماروصنعاء لأسباب مالية أو خلافات إدارية فهي أغرب من الخيال، وخاصة أننا لن نسمع سياسيين أو إعلاميين يحذرون الدولة من التدخل كما يحدث مع الحوثيين خشية وقوع فتنة طائفية أو توريط الجيش في حرب نيابة عن حزب! وقد كان يمكن للدولة ووزارة التعليم العالي أن تتحرك بسرعة لحسم الأمر وحل المشاكل، ولو على طريقة صلح أعوج ولا شريعة سمحاء! ومهما تكن الأسباب في كل هذا التقاعس؛ فلا تفسير مقنعاً لما حدث ويحدث (نتحدث هنا عما يحدث فقط في عواصمالمحافظات) إلا أن هناك من لا يريد أن تحل المشاكل، ويتعمد تركها تتفاقم حتى يصل الأمر إلى درجة الانفجار على الطريقة المصرية التي مهدت لحدوث الانقلاب العسكري! ولأن الانقلاب العسكري مستحيل في الحالة اليمنية على الطريقة المصرية؛ فقد يكون المطلوب هو إيصال البلاد إلى هاوية الانهيار والتفكك الفعلي بدءاً من العاصمة والمدن الرئيسية؛ حتى يظهر بعد ذلك طبول الزفة في وسائل إعلام المخلوع وحلفائه الجدد ليقولوا للناس: "شفتم نتيجة ثورات الربيع العربي؟ وشفتم الفرق بين أيام الزعيم وأيام ثورتكم؟ أين الأمان الذي كنا نعيشه أيام الزعيم؟ أين الاستثمارات؟ أين السياحة؟" أو كما يدندن إعلام المخلوع هذه الأيام، ويعيد خطة القصف الإعلامي المصري بحذافيرها، ويروج بتشفٍ للفشل الحاصل مستغلاً الأزمات الحادثة، ودعممة الدولة عنها أو تساهلها في مواجهة المخربين العلنيين والمستترين!
**** بقيت ملاحظتان؛ الأولى هي أن بعض مكونات الدولة (رئاسة الجمهورية+ رئاسة الوزراء+ أحزاب حكومة الوفاق) تخطىء عندما تتعامل مع الأزمات الحقيقية أو المفتعلة بكل هذه اللا مبالاة أو الانتهازية، ومحاولة إلقاء المسؤولية على هذا الطرف أو ذاك، ورفع شعار"أنا بريء!" فالمسؤولية في هذه المرحلة يتحملها الجميع دون استثناء، ولا يستطيع أحد أن يتنصل منها تحت أي مبرر! ولا حل إلا بأن يعمل الجميع وخاصة من بيدهم القرار الفعلي والقوة المسلحة والأمنية على مواجهة الأزمات والمؤامرات بجدية وبحماس، ودون خوف من هذه الجهة أو تلك.. وإلا فلا عذر لهم.. ولن يستثني الشعب طرفاً من منظومة الحكم من المسؤولية عن حدوث الفوضى أو انهيار الوضع! الملاحظة الأخرى؛ أننا نستغرب أن قيادة الدولة وقيادة أمانة العاصمة التي تقتحم الأزمات وتشارك في لجان الوساطة في أخطر مناطق الاقتتال الأهلي ثم إذا بها مع مشاكل أقل حدة مثل هذه التي تحدث في العاصمة تتحول إلى هيئات مسالمة لا ينقصها إلا رفع الشعار المشهور "سلمية.. سلمية" الذي كان يرفعه شباب الثورة الشعبية في مواجهة آلة القمع التي كان يرسلها المخلوع وأفراد عائلته أثناء أحداث الثورة لفض الساحات والمسيرات! وهل يعقل أن أمين العاصمة الذي يحل مشاكل صعدة وعمران وهمدان وأرحب وغيرها؛ لا نسمع له حساً والعاصمة التي هي في ذمته تغرق في أزمات البترول المفتعلة؟ وهل يعقل أن اليمن التي ما تزال وفية لتراث المخلوع في تقديم المبادرات الدولية والعربية لحل مشاكل العالم تعجز عن مواجهة مشكلة كلية الهندسة في ذمار أو مستشفى الثورة في إب في الوقت المناسب؟
*** قد لا يكون الخطر الحقيقي على اليمن متمثلاً في سيسي يمني يعمل في الظلام، ويتآمر مع الخارج.. ولا في قنوات فضائية مسعورة وإعلاميين بلاطجة مثل لميس الحديدي وزوجها وأمثالهما.. الخطر قد يكون في حصان طروادة وطابور خامس مندس يعمل على تخذيل أي فعل حقيقي لإصلاح البلاد، وتجميد حركة الدولة حتى تصاب بالشلل التام والجلطة القاتلة!