بعد الأحداث المتسارعة والتَّداعيات "الدّراماتيكيّة"، التي شهدها العالم العربي، وخصوصاً بعض دُولِه، على إثر ما بات يُعرف اعلامياً ب(الرَّبيع العربيّ)، وجدت (الحركة الإسلاميّة) نفسها أمام تحدِّياتٍ من نوعٍ جديدٍ، ذات طبيعةٍ مختلفةٍ، وأشكالٍ غير معهودة، وأساليب جديدةٍ، لا قِبَل لهم بها، تتمثَّل في مواجهة الواقع السِّياسيّ برُمَّته؛ بكلِّ تعقيداته وتلوُّنَاتِه، وبما تراكم فيه من فسادٍ وظُلمٍ وترهُّلٍ وضعفٍ وعمالةٍ، هذا فضلاً على تحمّل أعباء ذلك الواقع ومواجهة تحدّياته وإدارة شؤونه، وحلّ مُشكلاته، بكلِّ ما تعنيه تلك الأعباء من ثقل المسؤولية وعبء الواجب، وقد كشفت تلك التَّجربة، على وجازتها، عن ضعف مزدوج في أداء (الحركة الإسلاميّة)، يقتضي واقع الحال الوقوف عنده والإشارة إليه، وقراءته برؤية موضوعيّة بعيداً عن النَّظرة العاطفيّة. أمّا فيما يتعلق بالوجه الأول من أوجه الضعف، فيتمثل في ضعف أداء الحركة على مستوى التَّنظير والتَّأصيل الشَّرعي للقضايا السياسيّة المعاصرة، في حين يتمثّل الوجه الثَّاني من الضعف في حجم الحضور الميداني (للحركة الإسلامية) على مستوى الممارسة السّياسيّة والفعل السياسي، ومدى غياب الخبرة السياسيّة.
بين الوَاقع .. والشِّعار منذ الانطلاقات الأولى والحركة الإسلاميّة ترفع شعارات اسلامية برّاقة، تختزلها في الشِّعار المعروف: (الإسلام هو الحلّ)، بمعنى أنّ الإسلام هو المخرج الوحيد لأزمات الأمّة من كل المشكلات التي تُثقل كاهلها؛ سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وهو الوحيد الذي بمقدوره أن يطرح الحلول البديلة ويعالج الواقع الإسلامي الرّاهن، وينهض به، ويُحقّق له ما كان يطمح إليه، ويرغب فيه، أقرب إلى (المثاليات العُمريّة)؛ من عدلٍ ورخاءٍ وحريّةٍ واستقرار وأمن وغير ذلك من المفاهيم السِّياسيّة الجوهريّة التي تكاد تنعدم في واقعنا اليوم، وقد ظَلّ هذا الشِّعار حيناً من الدَّهر بمثابة (ختْم الشَّرعية) على كل المشروعات الفكرية المطروحة، دون أن يخضع ذلك الشِّعار للواقع المعاش أو أن يتمّ اختباره على محكّ الممارسة الواقعية، فالشعارات لوحدها لا تبني نظاماً سياسياً منشوداً.
ولاشك، من النّاحية النَّظريّة، أنَّ الإسلام، من حيث أنَّه دين يتَّسم بالواقعيّة والشُّمول، له من القُّوة والقدرة ما يخوِّله أن يضع الحلول المثلى للمشكلات المعاصرة، وأن يقود الأمَّة نحو السّيادة والرّيادة، أو بتعبير القرآن الكريم نحو (الخيريّة) المنشودة، لكن لا يمكن بأيّ حالٍ من الأحوال أن تتحقَّق تلك الصُّورة المثلى على أرض الواقع، أو تستحيل إلى كينونة واقعيّة حقيقيّة مجسّدة ملموسة، دون اعتبار للواقع، وفهم تعقيداته، ودراسة مكوّناته بكل تفاصيلها؛ بل والقدرة على التَّكيّف معه، ومعرفة مخارجه ومداخله، ونقاط قوته وضعفه.
ضعف التَّأصيل النّظري والشَّرعي ذلك أنَّه من النَّاحية النَّظريّة أو ما يمكن أن نُطلق عليه ب(التَّأصيل الشَّرعي للمفاهيم السِّياسيّة)، نجد في أدبيات (الحركة الإسلاميّة) ضعفاً بيِّناً وضُموراً واضحاً، في دراسة المفاهيم السّياسيّة المعاصرة دراسةً عميقةً، وتكييفها من النَّاحية الشَّرعيّة، كما نجد ضعفاً في مجال البحث عن الأدوات التَّنزيليّة الواقعيّة المُساعدة على تطبيق الأحكام الشَّرعيّة على الواقع محلّ النَّظر، في إطار قراءة جادّة وعميقة للواقع من جهة وللنصوص الشَّرعيّة من جهة أخرى، بحيث تجري الأحكام الشَّرعيّة على المستجدات السّياسيّة على نسقٍ منهجي، يُراعي المكوِّنات الثَّلاث للتطبيق الواقعي لأيّ حُكمٍ شرعي؛ (فقْه النَّص) و(فقْه الواقع) و(فقْه التَّنزيل).
والمتابع لأدبيات (الحركة الإسلاميّة) في هذا المجال، يجد أنَّ ما كُتب في إطار (الفقه السِّياسيّ) لا يعدو أن يكون مجرّد كتابات نظريّة محضة، في معظمها، مكرورة لا جديد فيها، بحيث تعالج القضايا الدَّقيقة جداً بعموميات وإسقاطات فضفاضة، لا يختلف فيها اثنان، ولا يتناطح فيها عنزان، كما يُقال، ومن ثمّ فهي لا تعطي إجابات وافية عن الكثير من القضايا السّياسيّة المطروحة في الميدان، ولا أعتقد أن مثل هذه الكتابات، مهما علا كعب أصحابها، يمكن أن تعالج الفجوات الفكرية العميقة بين أبناء الحركة الإسلامية على اختلاف مرجعياتهم، وتنوع مصادر معرفتهم، فضلا على أن تقوى على الصمود أمام بقية التَّحدّيات الأخرى.
ويمكن أن أشير هنا إلى بعض الأمثلة لا غير، التي من شأنها أن تعطي صورة أوضح للقارئ الكريم، وهي أمثلة مأخوذة من واقع الحال، وذلك للإشارة إلى مدى الاختلاف والتَّنازع الحاصل بين أبناء التّيار الإسلامي، بالرّغم من أنّهم يشكِّلون كُتلةً، على الأقلّ، مُنسجمة فكرياً وثقافياً فيما يبدو للمتابع الخارجي، ومن هذه القضايا المطروحة: كيفية التَّعامل مع الحاكم الظَّالم، ومدى مشروعيّة الخروج عليه، أو تغييره، أو المطالبة بِتَنْحِيَتِه، وما هي الأسباب التي تقتضي ذلك، وما هي وسائل التَّغيير المناسبة؟ وهل عمليّة التَّغيير تبدأ من رأس الهرم، أم من قاعدته؟ وما هو الموقف الشرعي من المفاهيم السّياسيّة المعاصرة، مثل: (الدّيمقراطيّة) و(التَّداول السِّلمي للسلطة)، و(الدُّستور) و(التَّعددّية السّياسيّة)، وتشكيل الأحزاب، ودور المعارضة السّياسيّة، وأساليب مُمارسة العمل السياسي، والتَّحالفات السّياسيّة، والعلاقة مع مختلف مكوّنات المجتمع السّياسيّ ك(العلمانيّة) و(القوميّة) و(الاشتراكيّة) وغيرها، ومفهوم (المواطنة)، وما هي حدودها؟ وعلاقة كلّ ذلك بمفهوم (الولاء والبراء)، وما هو مفهوم (الدَّولة المدنيّة) و(الدَّولة الدّينيّة)؟ والنَّظرة الشَّرعيّة (للحرّيات العامّة في الدَّولة)، والعلاقة بالمجتمع الدَّولي، وبمنظماته الدَّوليّة، وما هو الأساس النّظري الذي تقوم عليه العلاقة مع (الآخر)؛ الحرب أم السِّلم؟ وغيرها من الموضوعات الدّقيقة التي تمس حياتنا السياسية بشكل مباشر.
ولعلَّ نظرة سريعة في أدبيات (الحركة الإسلاميّة)، وفي إنتاجها الثَّقافي المنشور، من شأنه أن يمنحنا صورة عامّة حول حجم الاختلاف الكبير والواسع الموجود بين مختلف مكوّنات (الحركة الإسلاميّة)، خصوصاً فيما يتعلق بتحرير المفاهيم السّياسيّة المذكورة أعلاه ومدى تكييفها شرعياً، في إطار صياغة رؤية شرعيّة موضوعيّة حولها؛ ذلك أن درجة الخلاف تصل في كثير من الأحيان إلى مستويات في غاية السوء والإقصاء، مثل (التَّكفير) وربَّما إلى درجة (التَّبْديع) و(التَّفسيق) و(التَّخوين) و(العمالة) كحدٍّ أدْنى، وهو، بلا شك، ما أدّى إلى التّنازع والفشل وذهاب الرّيح.
إن غياب الأرضيّة الفكريّة الثّقافيّة الشَّرعيّة المشتركة، المبنيّة على مُراعاة المصلحة العامّة واعتبار فقه المآل والنَّظرة المقاصديّة الواعية، بين مختلف المكونات الفاعلة في تيار (الحركة الإسلاميّة)، حالت دون وقوف الجميع صفاً واحداً، كأنَّهم بنيان مرصوص، أمام تحديات (ثورات الرَّبيع العربيّ)، كما كشفت الوقائع الجارية عن وجود فجوات فكرية عميقة، أدّت إلى انقسام الصّف واختلاف القلوب، وهذا ما يقتضي –حقيقة- إعادة القراءة الشرعية الواعية للمستجدات السياسية والتَّطورات الاجتماعيّة المتلاحقة، والعمل على ايجاد أدوات منهجية أكثر فاعلية من أجل تقريب وجهات النّظر بين مختلف القوى الإسلامية؛ مراعية النَّظر الشَّرعيّ والفعل الواقعيّ.
ملاحظات عامة على المواقف الفكرية للقضايا السياسية للحركة الإسلامية ويمكن في هذا الإطار الإشارة إلى بعض الملاحظات السَّريعة حول مواقف القُوى الإسلاميّة من القضايا المطروحة، وذلك على النَّحو التَّالي: من الملاحظ أن الاختلاف بين الرُّؤى الفكريّة المطروحة على السّاحة الإسلامية حادٌّ جداًّ، ويصل إلى درجة التّناقض، ويُوحي للمتابع بعدم وجود أيّ تقارب في وجهات النَّظر بين أطراف (الحركة الإسلاميّة)، خصوصاً وأنّ كلّ طرفٍ منها يتحصّن ب(النّص الدّيني) ويحتمي به، ويعتقد وَصْلاً بالكتاب والسنة؛ فالنَّظرة إلى (الحاكم)، على سبيل المثال، نجدها تسبح في بحر من الرُّؤى المتناقضة، بين من يرى مشروعيّة الخروج المسلّح على (الحاكم)، وبين من يرى ضرورة اعتماد منهجيّة التَّغيير السّلميّ، في حين نجد البعض الآخر يحكم ببدعيّة المظاهرات، لكونها أدوات غربية، وأن طاعة الحاكم واجبة (وَإِنْ جَلَدَ ظَهْرَكَ)، وفريق آخر آثر الاعتزال وعدم الخوض في السّياسيّة، على مذهب: (لعن الله ساس ويسوس وما اشتق من السّياسة)، وبين هذا وذاك تجد مواقف وفتاوى أخرى مختلفة، أشبه ب(الفسيفساء الفقهيّة أو الشَّرعيّة)، ولو ذهبنا في استعرض بقيّة المفاهيم الأُخرى لَظَهر لنا حجم الاختلافات الموجودة بين أبناء (الحركة الإسلاميّة)، وهي اختلافات عميقة جداَّ، تستحضر في أغلبها دوائر (الكفر) و(الإيمان)، وليست مجرّد وجهات نظر عابرة، قائمة على قاعدة الشافعي: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب)، ولا يخفى على القارئ أن هذه المفاهيم أساسيّة ومهمة، تقتضيها إدارة المرحلة القادمة.
فماذا نتوقع من قوى اسلاميّة، تطمح للخروج بالأمّة من عنق الزجاجة، ومما هي فيه من تخلّف وفقر، وهي لا تكاد تلتقي على تحرير مضامين المفاهيم الأساسيّة، التي تعدّ بمثابة الأدوات الضرورية لخوض معركة النّهوض والتّقدم والتّحرّر، ويزداد الأمر سوء في ظلّ عدم وجود أطراف حيادية ومخلصة (مجلس حكماء)، تعمل على (التّقريب الفكري) وتنضيج الرّؤى الشّرعيّة، وتحرير النِّزاعات الحزبية والاختلافات الفقهيّة، في الوقت الذي بذلت فيه الأمّة جهودا مضنية للتقريب بين طوائف لا يجمعها رابط حقيقي، في حين أن التقريب بين القوى الإسلامية أولى بالاهتمام والمتابعة.
الملاحظة الثانية هي اعتماد بعض الأطراف منهجية السّطحيّة والسّذاجة والفردية في معالجة القضايا المعقّدة والسّاخنة، بحيث تجري رؤاهم الشرعيّة على (مبدأ التحريم لكل ما هو جديد)؛ لكونه (بدعة) ما أنزل الله بها من سلطان، وذلك حرصاً منهم على (المتابعة النبويّة) والعودة بالحياة إلى عصور سابقة قد لا تحظى بالقبول في واقعنا المعاصر، في حين أن القضايا الكبيرة التي تهم الشأن العام، كان لابد أن تلقى اهتماماً بالغاً، وبحثاً صارماً، وتحقيقاً دقيقاً، في منهجية صارمة لا تقل شأن عن المنهجية التي أُثِرَت عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)؛ أنَّه كان إذا ألمّ به أمر عظيم جَمع له أهل بدر.
وبالتالي، نحن في حاجة إلى إعادة النظر في استخدام هذه المنهجية وطرح بدائل أخرى أكثر جدّية وصرامة في معالجة المستجدات الطارئة.
الملاحظة الثَّالثة: أن التّنظيرات السياسية الجادة لبعض القُوى الإسلاميّة، لا تلقى اهتماماً كبيراً من أتباعها من النَّاحية العمليّة، حيث لم تتحول تلك التنظيرات إلى قناعات حقيقية، تنعكس على أرض الواقع في صورة برامج عمليّة وسلوك ميداني، مما يُفهم معه أنَّ هناك نظرة ازدواجية لدى تلك القُوى؛ فهي من جهة تُصدر تنظيرات موضوعية متوازنة تستجيب لمتطلبات الواقع والمرحلة، ويمكن أن ترضي أطرافا معينة، ولكنها من جهة ثانية تعمل على تنفيذ قناعاتها الداخلية، التي تختلف عن رؤاها النظرية، ولا شك أن مثل هذا النوع من السلوك يفقد الحركة الإسلامية من رصيدها ويجعلها عرضة للانتقادات اللاذعة وفقدان المصداقية.
تعيش معظم أطراف (الحركة الإسلاميّة) في جزر معزولة، كل يعمل على شاكلته، فلا يوجد بينها رابط، أو قنوات تسهل عمليه تبادل التجارب وانتقال الخبرات، أو أطر تنظيمية للحوار البناء لمعالجة القضايا الطارئة، ولا شك أن هذه العزلة والمفارقة، تزيد من هوة الاختلافات وتعميق الفجوات الفكرية، مع أننا من الناحية النظرية نجد قناعة كبيرة جدا لدى الجميع من أن الحوار هو السبيل الأمثل لمعالجة مشكلاتنا، لكن لا نجد له حقيقة في الواقع، وقد يستاء القارئ الكريم إذا عرف أن الصورة الذهنية للآخر تتشكل من خلال ما يصلنا من وسائل الإعلام، بما يحتويه من غث وسمين، فما أحوجنا إلى تجسير العلاقة من خلال قنوات ثابتة تكون مهمتها نقل التجارب وتبادل الآراء وفتح حوار مفتوح حول القضايا الكبرى التي تهم الأمة جميعاً.
أما الملاحظة الأخيرة، وليست الآخرة، فهي غياب الرُّؤية الواقعيّة لبعض القوى الإسلامية، حيث لايزال البعض متأثراً بالمثاليات والرّؤى الفاضلة (أو الطوباوية)، التي خطّها الفيلسوفان: (أفلاطون) (والفارابي)، وهي منهجية ساذجة وبعيدة كل البعد عن المنهج النبوي، الذي كان يتعمد على منهجية الأخذ بالأسباب المادية وتسخير السنن الكونية والاجتماعية؛ لبناء مشروعه الحضاري، وواقع الحال يؤكد لنا هذه الحقيقة، ولازال بعضنا إلى حدّ الآن، وإلى هذه اللحظة، يعيش على تفسير الرّؤى المنامية وتعبيرها، ويبني عليها مشاريعه، ويعتبر ما جاء فيها من تعبيرات هو المخرج الأمثل من الأزمة.
(2) تحدّثنا في الجزء الأوّل من هذا المقال عن ضعف أداء (الحركة الإسلاميّة) على مستوى التَّنظير والتَّأصيل الشَّرعي للمفاهيم السّياسيّة المعاصرة، ونقصد بذلك، التَّنظير والتَّأصيل الشَّرعي على مستوى الواقع السّياسيّ والأدوات التّنزيليّة المتعلّقة به، وليس مجرّد الكتابات النّظريّة العامّة، التي تقتصر على الحديث عن (النِّظام السّياسيّ في الإسلام) أو (السّياسة الشَّرعيّة)، فهذه فيها وفرة عدديّة لا نوعيّة، وفي هذا المقال، نستأنف حديثنا عن ضعف (الحركة الإسلاميّة) على مستوى الممارسة السّياسيّة.
ويمكن القول: أنّ بضاعة (الحركة الإسلاميّة) على مستوى الممارسة السّياسيّة، بضاعة مُزجاة، لسبب بسيط وهو أنَّها كانت بعيدة عن واقع الفعل السِّياسيّ الرّسمي، وذلك منذ بزوغ فجرها، حيث ظلّت على هامش أو ضفاف الحياة السّياسيّة العربيّة، ولم تتمكن من اختراق الحظر المفروض عليها من أجهزة الأنظمة الرّسميّة، وهو ما جعلها تفتقر للخبرة السّياسيّة والتّجربة الميدانيّة والمهارات اللاّزمة التي تؤهّلها لخوض الحياة السّياسيّة بجدارة واقتدار.
وفي هذا السّياق لابد من توضيح مسألة في غاية الأهميّة، وهي أنّه قد يعترض البعض عن هذا النّقد، مشيراً إلى أنّ للحركة تجربة سياسيّة في أكثر من بلدٍ عربيّ وإسلاميّ، خصوصاً بعد ثورات (الرّبيع العربيّ)، حيث باتت (الحركة الإسلاميّة) تتصدّر المشهد السّياسيّ، وتدير دواليب الحكم في أكثر من بلدٍ، وهذا فيه دلالة قطعيّة على أنّ (الحركة الإسلاميّة) تحظى بخبرة سياسيّة جيّدة، وتجربة ميدانيّة لا بأس بها، وهو ما من شأنه أن يأتي على قواعد (النّقد المزعوم) المشار إليه سالفاً فيخرّ سقفه على قائله.
وهذا يستدعي منا تحرير مصطلح (الممارسة السياسية).
ما المقصود ب(الممارسة السّياسيّة)؟ من المهم في البداية أن نعمل على تحرير مصطلح: (الممارسة السّياسيّة)، وبيان دلالته، وماهي المعاني المقصودة من ورائه، حتّى نتمكّن من سدّ الفجوات التّي يمكن أن تترتب عن أي سوء فهم للدلالة المقصودة من خلاله أو أيّ اختلاف ناتج عن صورة ذهنية مُسبقة تتضمن قناعات معيّنة.
وبعيداً عن التَّعريفات الأكاديميّة، والتّنظيرات الجامدة، التي قد لا تعنينا كثيراً في ما نحن فيه، فإنّنا نبادر إلى القول بأنّه: لا يعتبر مجرّد تولِّي منصبٍ سياسيٍّ أو موقعٍ قياديٍ في أيّ مؤسّسة رسميّة (حكوميّة) أو الحصول على حصّة محدّدة من المقاعد في البرلمان، أو تولِّي أي موقع من المواقع السّياسيّة "الشكليّة" التي ليس لها تأثير مباشر على واقع الحياة السياسيّة ومجريات الأحداث الجارية وصناعة القرارات المؤثِّرة، لا يعدّ ذلك (ممارسة سياسيّة) بالمعنى الذي نتحدَّث عنه في هذا المقال، فهذه المواقع، على أهميتها، تظلّ مواقع شكليّة، غير مؤثِّرة، استلزمتها قواعد اللّعبة السّياسيّة أو (الديكور الديمقراطي)، من حيث أنَّها ضرورة ملحّة لتحسين الصُّورة لدى الغير (الرأي العام)، وإبراز مدى التَّنوع الحاصل في المشاركة السياسية، في حين أنّ (الدّولة العميقة) هي اللاّعب الحقيقي، والفاعل السياسي المؤثر، التي تقود دواليب الدَّولة، وتنسج خيوط اللُّعبة السّياسيّة، تهب (فُتات السُّلطة والنُّفوذ) لمن تشاء وتنزعه ممن تشاء.
وأكبر دليل على ذلك، تجارب (الحركة الإسلاميّة) في الحكم، الماثلة أمامنا اليوم، في كل الدول التي بات يُطلق عليها دول (الرّبيع العربيّ)، حيث لم تكن الحكومات المنتخبة هي التي تحكم، أو تدير شؤون الحكم والسّياسة؛ وإنّما كانت (الدَّولة العميقة)، كما بات يصطلح عليها، هي الحاكم الحقيقي، أو هي (حكومة الظّل) التي بيدها مقاليد الأمور السّياسيّة والاقتصاديّة والإعلاميّة، فهي التي تُخطِّط وهي التي تُنفِّذ، وهي التي تحرّك الشَّارع، وهي التي تُخمده؛ في الوقت الذي كانت فيه (الحركة الإسلاميّة)، ظاهرياً أو شكلياً، هي التي تتربع على سدّة الحكم؛ بل وتقف على رأس هرمه، ومن ثمّ كانت هي التي تتحمل المسؤولية السّياسيّة أمام شعوبها، في حين أنّ واقع الحال يسير على غير هدىً ولا كتاب منير.
وبناءً على ما سبق، فإنّ المقصود ب(الممارسة السّياسيّة)، في هذا المقال، هي: الخبرة السّياسيّة العميقة، والتَّجربة الميدانيّة العمليّة، في كيفية إدارة شؤون الحكم والدّولة، بل وإدارة المواقع المفصليّة في الدّولة؛ سياسياً ومالياً وأمنياً وعسكرياً وإعلامياً، بمعنى أن يكون (للحركة الإسلاميّة) نفوذ أو قوة حقيقيّة في المواقع المُتنفّذة، بما يجعلها قادرة على تحديد المسارات العامة، وإدارة الأمور على الوجه المطلوب، وهذا قطعاً ما لا تملكه (الحركة الإسلاميّة المعاصرة)؛ بل وتفتقر إليه، فجاء حُضورها ضعيفاً وباهتاً في مواقع التأثير والسُّلطة والنُّفوذ، أو بتعبير فقهاء القانون الدستوري: كانت تملك ولا تحكم.
إنّ (جوهر السِّياسة)، كما يذكر د. جاسم سلطان، هو القُّوة وتوزيعها بين الأطراف، والسُّلطة والوصول إليها والاحتفاظ بها، والنُّفوذ لحماية القوة والسلطة معاً؛ وهذه هي الحقيقة الغائبة عند الكثيرين، فمجرّد اعتلاء سدّة الحكم، حتّى ولو كان عن طريق انتخابات حرّةٍ ونزيهةٍ، دون أن يكون هناك نفوذ حقيقي، لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال أن يغيّر من واقع الحال شيئاً، إنّ (القّوة التي لا تتمكن من فرض إرادة أصحابها ليست إلا قُوَّة مُتوهَّمة).
نظرة سريعة في أدبيات (الحركة الإسلامية) إنّ الواقع السّياسي للحركة الإسلامية اليوم، وما برز فيه من ضعفٍ واضحٍ على مستوى الممارسة السّياسيّة هو نتيجة طبيعة ومنطقيّة، في تقديري، لما آل إليه حالها، وذلك لعدّة أسباب، ممكن الإشارة إلى بعضها، منها: ضعف المناهج والأدبيات الفكريّة والتّربوية في تناولها للفكر السّياسيّ وأهميته، والكيفيات والوسائل المتعلقة به، حيث كان الطرح التَّاريخي المثالي هو الغالب، فضلاً على تكريس لغة ضعيفة، يدور رحاها، حول مقولة مشهورة: (نحن لسنا طُلاَّب حكم)، حتَّى بات السَّعي للسلطة وفق الوسائل الديمقراطية المتعارف عليها، سَوْءة يظلّ صاحبها، بسببها، وجهه مُسوداً وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما دعا إليه، وهذا الجانب، بلا شك، يحتاج إلى تفصيل كبير لا يتسع المقام إليه هنا. بل نجد أن أطرافاً أخرى في (الحركة الإسلاميّة) ذاتها، لا ترى ضرورة لوجودها في العمليّة السّياسيّة برُمَّتها، وأنّها لم تخلق لذلك، ودورها الأساس هو التَّوعية الدّينيّة ونشر العلم الشرعي وتربية الجيل على المفاهيم الدّينيّة، ومنها: (الطَّاعة العمياء أو المطلقة لولي الأمر)، وما تمّت الإشارة إليه هو غيض من فيض؛ ذلك أنَّه تُوجد رؤى وأفكار ومواقف وفتاوى أخرى تدور حول تحريم ممارسة العمل السياسي وتجريمه، ولكن البارز في هذه الملاحظات وغيرها، أنّها تصب باتجاه ضمور جانب الفكر السياسي في المناهج التَّربوية والأدبيات الفكريّة. بل توجد الكثير من الفتاوى –أيضاً- التي تحرّض على ترك العمل السّياسيّ، لما فيه من مساوئ، وتدعو لاعتزاله واجتنابه، على مذهب: (إنَّما السّياسية رجْسٌ من عمَل الشَّيْطَان، فَاجْتَنِبُوهَا)، مما زهّد الكثيرين في متابعة الشَّأن السِّياسيّ، فضلاً على المشاركة فيه، وهو ما أتاح للقوى الأخرى فرصةً ثمينةً لملء الفراغ، وتَصَدُّر المشهد السّياسيّ؛ ف(الطبيعة لا تهوى الفراغ)، كما يقول (أرسطو). كما لم تحظ (الحركة الإسلاميّة) خلال تاريخها الطَّويل بفرصةٍ سانحةٍ لممارسة دور سياسي حقيقي، لاعتبارات عدّة، منها: فكرية أو شرعية، كما تمّت الإشارة إلى ذلك سالفاً، ومنها الحظر المفروض عليها من قبل أنظمة الحكم المتعاقبة، حيث كانت الاستراتيجية المتَّبعة مع (الحركة الإسلاميّة) هي التَّهميش والحظر، وكانت المساحة الوحيدة المتاحة لأي دور سياسي يمكن أن تقوم به، هو القبول بها في موقع المعارضة السّياسيّة، وحتّى هذه المساحة لم تكن بالمستوى المطلوب، فقد كانت المعارضة في الأنظمة العربية، تسير ضمن مسارات محدّدة مع وجود خطوط حمراء، لا يجوز الاقتراب منها، وهو ما جعل البعض يقول: أنَّ (الحركة الإسلاميّة) تُجيد فن المعارضة ولكنها لا تُجيد فن إدارة شؤون الحكم، ولا يعني هذا أنّ وضع (الحركة الإسلاميّة) في موقع المعارضة أمر محتوم يجب أن ترضى به، فلا توجد حتميات في العمل السياسي، وإنما هو وصف للواقع كما هو دون مساحيق تجميلية.
ملاحظات عامّة حول أداء (الحركة الإسلامية) على مستوى الممارسة السّياسيّة وفي هذا الإطار سنشير إلى بعض الملاحظات العامة حول الأداء السّياسيّ للحركة الإسلامية من خلال التَّجربة السّياسيّة الأخيرة، (ما بعد الرّبيع العربيّ)، وذلك من باب التَّمثيل، لا الاستقصاء والتَّتبع، وهي عبارة عن ملاحظات عامّة، تشي بمدى الضَّعف الموجود لدى (الحركة الإسلاميّة) على مستوى الممارسة والخبرة السّياسيّة، وإذ نذكر هذه الملاحظات فإننا نهدف إلى رسم ملامح عامة للمشهد السّياسيّ لا غير، للعظة والاعتبار، وسنعرض هذه الملاحظات في ضوء كتاب علمي قيّم للمفكّر القطري (د. جاسم سلطان)، بعنوان (قواعد الممارسة السّياسيّة)، الذي حاول من خلاله أن يُبيّن الفروق الجوهريّة الموجودة بين (علم السّياسة)، من حيث هي علم نظري أكاديميّ محض، وبين (الممارسة السّياسيّة)، التي تعني الوجه التّطبيقي للعمل السّياسيّ، وهو كتاب في غاية الأهميّة يحتاج له كل من كان يطمح لممارسة العمل السّياسيّ، أو يسعى للسلطة، ومن هذه الملاحظات الآتي:
حُسن النَّوايا والعمل السّياسيّ لاشكَّ أن الخلفية التّربويّة والدّعويّة لأبناء (الحركة الإسلاميّة)، تؤثِّر على سلوكهم السّياسي بشكلٍ عام، ومن ثمّ تُصبح المنطلقات الدَّعوية هي الفاعل المؤثّر، في التَّعاطي مع الأحداث واتّخاذ القرارات، وهي عادة محمودة بلا شك، ولكنّ الأمر في (عالم السّياسة) في حياتنا المعاصرة مختلف تماماً؛ بل ربّما تُفهم –للأسف الشَّديد- تلك الخلفيّة بمنطلقاتها الدَّعويّة على أنّها سذاجة وسطحيّة، وهذا ما حدث بالفعل في أكثر من بلد عربي، وعلى رأسها أمّ الدُّنيا مصر، ويُؤكّد هذه الحقيقة، الدكتور محمد محسوب، وزير الشُّؤون القانونية، في عهد الرئيس المعزول، د. محمد مرسي، في (شهادته على العصر) مع الإعلامي أحمد منصور.
وفي سياق حديثنا عن حسن النَّوايا والعمل السّياسيّ يشير د. جاسم سلطان في كتابه المذكور، إلى قاعدة في غاية الأهمية، والتي تنصّ على أن: (حسن النَّوايا قد يجُرُّ إلى الهزائم المتتالية إنْ لم يُحسن رجل السِّياسة استخدام قواعد اللُّعبة)، ويشرح هذه القاعدة فيقول: (فالسّياسة ليست لعبة النَّوايا الحسنة أو المبادئ السَّامية فحسب، إذْ ليس بالضرورة أن ينتصر صاحب المبدأ، إنَّها أشبه بلعبة الشّطرنج، يتدخل فيها عامل الذَّكاء والاستعداد والإلمام الجيّد جداًّ بقواعد اللّعبة.
وصاحب المبدأ لن ينتصر إذا افتقد أدوات تحقيق النّصر، إن العناية الإلهيّة تتدخل لنُصرة الحقِّ، لكنَّها لا تنحاز غالباً إلى أصحاب البطالة والسَّذاجة، (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُم وَلاَ أَمَانِيّ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءً يُجْزَ بِهِ)، والقعود عن الاعداد سُوء، والزُّهد في امتلاك أدوات الفعل السّياسيّ سُوء، وكل تقصير في فهم السّياسة كما هي سُوء يؤدِّي بصاحبه إلى الخسارة، وإن عظمت نيَّته، وخَلص قلبه، وسما هدفه.
ولتقريب الصّورة يضرب المؤلف مثلاً تاريخياً يتحدث فيها عن تجربة الحُسين (رضي الله عنه) في خروجه على يزيد بن معاوية؛ حيث يقول: (فرغم أنَّ الحُسين (رضي الله عنه) كان يمتلك النّية الحسنة، إلا أنَّ الهزيمة لَحِقَتْه ومَن معه، وقد كتب العلاَّمة (ابن خلدون) في (مقدّمته) عن مقتل الشَّهيد الحسين (رضي الله عنه) في (كربلاء)، وذكر أنَّ الحُسين (رضي الله عنه) ارتكب خطأً منهجياً في تقديره لاستعداد أتباعه في العراق وقوَّتهم، لكن (ابن خلدون) لم يغفل التنبيه على أنَّ ذلك كان (خطأً دنيوياً لا دينياً) حسب تعبيره، أي أنَّه قُصور في الخُطّة والأداء وليس تقصيرا في الشَّرْعِ والمبدأ).
ويضيف: (وكما أنَّ مجموعة القُرّاء كان فيها 15 من خيرة فقهاء الكوفة من أبرزهم (سعيد بن جُبير) و(عامر الشَّعبي)، إلاَّ أنَّها مُنيت بهزيمةٍ ساحقةٍ، وأُزهقت أرواح طاهرة على يد (الحجّاج)، فقُتل منهم (سعيد بن جُبير) واعتذر (الشَّعبي) و(الحسن البصري) فعُفِيَ عنهما، وعمد فقهاء المدينة إلى الافتاء بتحريم الخروج على السُّلطان ولو كان ظالماً).
ويُعلِّق الدكتور جاسم سلطان على ذلك فيقول: (إنّ حُسن النَّوايا وحده لا يبني مجتمعاً ولا يُغيِّر وجهة التَّاريخ).
الواقع .. بين الواقعيّة والمثاليّة من الملاحظات اللاَّفتة للانتباه أيضاً في سياق التَّجربة السّياسيّة للحركة الإسلاميّة، نظرتُها للواقع وكيفية التَّعامل معه، وهي نظرة مبنية على السّطحيّة والمثاليّة المفرطة، والثّقة المطلقة في التفاف الشُّعوب حول (المشروع الإسلامي)، وقد أثبت الواقع أنَّ الشُّعوب العربيّة تُعاني فقراً مُدقعاً على مستوى الوعي السّياسي وتقدير الموقف، وأن قناعاتها في المشروع غير راسخة بالمستوى المطلوب، هذا فضلاً عن سوء تقدير قوّة (الدّولة العميقة)، وحجم تأثير المحيط الإقليمي والدّولي على الوضع المحليّ، وفي هذا السياق يأتي ذكر القاعدة السادسة من (قواعد الممارسة السّياسيّة)، والتي يقول فيها د. جاسم سلطان أنّ: (الفاعل السّياسيّ يرى الواقع كما هو، وليس كما يتمنَّى أن يراه حين يتّخذ قرار الفعل أو الممارسة السّياسيّة).
بمعنى أنّ الفاعل السّياسيّ ينطلق من الواقع الذي يعيشه بهدف تغييره، بحيث يراه كما هو على حقيقته، في إطار رؤية موضوعيّة واقعيّة، دون أن يترك مجالاً للتأثيرات والقناعات الشّخصيّة أن تجد لها سبيلاً في التأثير على تقدير الموقف، لذلك ربما يكون مقبولاً أن يشرد الفاعل السّياسيّ في الحلم الذي يتمنَّاه، لكن من غير المقبول أن يسيء تفسير الواقع الذي يعيشه، فيتَّهم خصمه بالغباء، في حين أنّه هو المسيطر، أو يتحدّث عن أنَّ فكرته إلى زوال، رغم أنّه لا يملك أسباب إزالته، أو يرى كل ما يخالفه خطأً، أو أن خُصومه كتلةٌ واحدةٌ لا يجب الحديث مع أيٍّ منها.
والنَّماذج التَّاريخيّة تشهد بوجود قادة حالمين، يبتغون عالماً أفضل كما يظهر لهم من زاويتهم، ولكن الكثير منهم سقطت أحلامه في وادٍ سحيقٍ عندما أخطأ قراءة الواقع وتقديره على الوجه الصَّحيح ووفق المعطيات العلميّة الدَّقيقة.
وهكذا هي طبيعة السّياسة، كما عرّفها أهل الاختصاص بأنّها (فنّ الممكن)، بمعنى أنّ الفاعل السّياسيّ – فرداً كان أو دوْلةً أو جماعةً سياسيّةً- لا يتعامل مع الأحلام ولا مع ما ينبغي أن يكون؛ وإنَّما يتعامل مع ما هو كائن وما يمتلكه من أدوات واقعيّة، بمعنى أنّه يتعامل مع حزمة الممكنات أو البدائل التي يملكها أو يُحدّد ما يملكه من أوراق القُّوة في مقابل الطّرف الآخر، إنّ السّياسة أبعد ما تكون عن الشّعارات الجوفاء.
حراك الأطراف المُعارِضة .. بين الوعي وسوء التّقدير أثبتت التَّجربة أيضاً أنّه لم يكن هناك وعي إدراكي بحقيقة التّحركات التي كانت تصدر عن الأطراف المعارِضة للسلطة المنتخبة، ولا الغايات التي كانت تسعى إليها، وهو ما حال دون وضع التّقديرات والسّيناريوهات المناسبة لمآلات تلك التّحركات؛ حيث استطاعت (الثّورة المضادّة) أن تُوقع القوى الثّوريّة في مستنقع الأحداث الجزئيّة والمطالب الآنيّة، كما نجحت في استنزاف طاقتها وتشويه سمعتها، وقد تحدّث الدكتور محمد محسوب عن ذلك بشكل مفصّل، ولعلّ المقام لا يتسّع لذكر تفاصيل ما تحّث فيه، ولكن يكفي أن نقول، كما جاء في القاعدة الثّامنة من (قواعد الممارسة السياسية): (على رجل السّياسية أن ينظر إلى أفعال الأطراف الأخرى، ولكنَّه يجب عليه أن يهتَمَّ أكثر بمنطق هذه الأفعال، بمعنى أنْ يتتبَّع الأمر الذي سيؤول إليه هذا الفعل، أو إلى أين يصبّ في الصُّورة النّهائيّة)، وهو ما يطلق عليه (فقه المآل).
لاشك أن ما تمّ طرحه من ملاحظات لا يغطّي المشهد بأكمله، فالموضوع أكبر من أن يُستوعب في مقالٍ، ولكن هي مجرّد إشارات ولفتات اقتضتها المرحلة الحرجة التي تمرّ بها الأمّة، (إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).