من المفيد بين الحين والآخر أن نتذكر الأسباب الحقيقية والمباشرة التي دفعت بالملايين للخروج إلى ساحات الحرية والتغيير في ثورات الربيع العربي؛ من تونس إلى مصر وليبيا وسوريا واليمن حيث كانت ثورة فبراير 2011 الشبابية الشعبية؛ مطالبة بتغيير الأنظمة السابقة، وبناء أوطان جديدة على مبادىء الحرية والمساواة والعدل، وإعادة الحياة والاعتبار لأهداف الثورات العربية ضد الاستعمار. مناسبة هذا الحديث فرضتها جملة من التقييمات والتصريحات لأنصار الأنظمة السابقة التي تحاول تزييف حقيقة ما حدث في الربيع العربي، وتوصيفها بأنها مؤامرة صهيونية أمريكية ضد الأنظمة وزعمائها اتخذت شكل الفوضى والتخريب، وهدفت إلى إبعاد رؤساء أقوياء مسيطرين وضامنين لأمن بلدانهم واستقرارها لمصلحة الصهيونية الأمريكية! صهاينة إلى الأبد.. من الاستخفاف بالعقول القول إن الصهيونية كانت وراء إسقاط زعيم عربي مثل حسني مبارك، لم يجد قادة سياسيين وعسكريين واستخباراتيين يحزنون عليه، ويشيدون به بتحالفه معهم طوال 30 عاماً أكثر من قادة الدولة الصهيونية نفسها! حتى وصفوه متفاخرين بأنه كان الكنز الاستراتيجي لهم! وكيف لا يكون كذلك وهو الذي شاركهم الموقف ضد المقاومة الفلسطينية، وأسهم في حصارها في غزة بإخلاص وعزيمة لا يفوقه فيها إلا النظام العسكري الانقلابي الحاكم اليوم في مصر؛ فمن شر البلية أن الحكام في مصر فاقوا مبارك في جريمة الحصار بجعله فوق الأرض وتحتها بتدمير مئات الأنفاق التي كانت تمد غزة بأسباب الحياة والمقاومة، بعد أن كان الحصار أيام مبارك براً وبحراً فقط.. فلما كان من الثابت أن النظام المصري الحاكم انقلب على سلطة منبثقة من ثورة الربيع المصري بتأييد صهيوني علني فإن القول إنها ثورة وراءها الصهيونية الأمريكية يصير استهبالاً كبيراً هو اليوم للأسف الشديد مهيمناً على كل شيء في مصر! وعلى المنوال نفسه؛ فمن تزييف الوعي القول: إن الولاياتالمتحدة؛ التي أقامت استراتيجيتها في المنطقة العربية تحالفا مع تشكيلة من الزعامات المرتبطة بها؛ سوف تتآمر لإسقاطها لصالح المجهول! وكأن دولة عظمى مثل أمريكا يحكمها قادة مثل الزعامات العربية التي يمكن لواحد منها أن ينقض في الصباح قراراً اتخذه في الليلة السابقة! أو يغير خططه وأهدافه في حرب داخلية يخوضها ضد تمرد داخلي لصالح مشروع شخصي ولو كان الثمن حياة جنوده! وصحيح أن الولاياتالمتحدة مثلاً غيّرت سياساتها من الدعم والتحالف السري والعلني إلى العداء والحرب تجاه أنظمة وزعامات (مثال: نظام البعث بقيادة صدام حسين!) لكن ذلك لم يتم في لحظة نشوة وتخديرة على الطريقة العربية؛ وإنما بعد أن خرج الزعيم الأوحد عن السيناريو، وبدأ جنون العظمة يدفع به إلى مشاريع عشوائية تضر بالاستراتيجية والمصالح الأمريكية كالتعرض للدولة الصهيونية بالشتائم وتهديدها بالكيماوي، والإخلال بالمصالح البترولية للغرب باحتلال الكويت! ولما كان الأمر كذلك؛ فلم يثبت أن الزعماء الذين أطاحت بهم ثورات الربيع العربي كانوا قد بدأوا يشكلون أدنى خطر على المصالح الأمريكية والصهيونية بأي نسبة ولو ضمن الحد الأدنى المعروف عالمياً للسيادة الوطنية! وكان إعلامهم يتفاخر ليل نهار بالعلاقات الوثيقة مع ساكن البيت الأبيض، واحترامه لهم وتقديره للدور الذي يؤدونه في الحفاظ على الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم؛ حتى أن الأمريكان في السنوات الاخيرة تناسوا مشروعهم للشرق الأوسط الجديد الذين أعلنوه أيام بوش الابن (الذي كان الهدف الشريف منه دفع الأنظمة القديمة لنوع من الممارسة الديمقراطية والانفتاح السياسي للتخفيف من الاحتقان الشعبي ضدهم، وشفقة عليهم من انفجار شعبي يلوح في الأفق) بعد أن أقنعهم الزعماء العرب أن هذا المشروع خطر على الجميع، ولن يؤدي إلا إلى وصول قوى المعارضة الرافضة للهيمنة الأمريكية السياسية والثقافية والاقتصادية، ومسار السلام مع الدولة العبرية، إلى سدة الحكم.. والجميع في غنى عن ذلك ولا سيما أن زعماء الضرورة لم يقصروا مع الأمريكان في شيء، وسمحوا لهم بدس أنوفهم في الشؤون الداخلية كما يريدون (بما في ذلك المناهج الدراسية من التربية الإسلامية والقرآن إلى النصوص الأدبية والاجتماعيات!) بالحذف والتعديل إذا كان فيها شيء من التطاول عليهم وقلة الأدب أو الإزعاج الديني والثقافي! ثورة من أجل الحرية والكرامة الإنسانية.. ثورة فبراير اليمنية تتعرض هي الأخرى لمثل هذه الهجمات والتشويهات، وهو أمر مفهوم فأعداؤها والمتضررون منا لن يسكتوا، وسيظلون يعملون دون كلل لإثبات أنها ثورة صهيونية أمريكية.. وفي أهون الاتهامات أنها ثورة غير مبررة.. أو كما حاول الرئيس السابق علي صالح أن يؤكده؛ في كلمة له الأسبوع الماضي مع أنصاره في أمانة العاصمة؛ أن نظامه يجب محاكمته بالإنجازات والإصلاحات التي قام بها؛ وخاصة في المحافظات الجنوبية؛ كإنشاء الطرقات والجامعات والمشاريع الحضارية! من المفيد أن نتذكر أن هناك المعايير الأساسية في تقييم أي نظام هي تلك المتعلقة بالجوانب الدستورية والقانونية التي تعني أن النظام السياسي القائم هو نظام يحقق العدالة السياسية للجميع دون تغول طرف، ويضمن الممارسة السياسية الحرة التي تجسد الخيارات الشعبية بنزاهة في الاستحقاقات الانتخابية، ويصون منظومة حقوق الإنسان والحريات العامة المعروفة. هذه المنظومة من المعايير هي التي تشكل الموقف الحاسم من أي سلطة حاكمة وتمنحها الشرعية أو تسلبها منها أو تجعلها فاقدة لها ولو كانت مهيمنة بالقوة والغلبة! وبناء على هذه المعايير؛ فإن ثورة اليمنيين في فبراير 2011 ضد النظام السابق لم تكن بطراً ولا تطاولاً على سلطة ديمقراطية ملتزمة بمعايير الحكم الرشيد، ومضامين النظام الديمقراطي المعروفة.. ولو شنئنا ان نذكر المتجاهلين لذلك فلا مانع من القول إن النظام السابق كان: - مفتقداً للممارسة السياسية النزيهة سواءً في الاستحقاقات الانتخابية أو الالتزام بمعاير الحكم الرشيد ومها: الفصل بين الدولة والحزب الحاكم، واستقلالية مؤسسات الدولة الرئيسية مثل القضاء، والإعلام الحكومي، ومؤسسات الجيش والأمن وكلها ظلت تحت هيمنة الحزب الحاكم وزعامته، وتسخر لخدمة أهدافها الخاصة والحزبية، وإقصاء الآخرين وتهميشهم.
- لقد أوصل النظام السابق البلاد إلى حافة الهاوية بإصراره على رفض كل مطالب الإصلاحات الدستورية والسياسية والإعلامية التي طالبت بها قوى المعارضة، وكان آخر مظاهر ذلك الإصرار على تعديل الدستور لتصفي عداد الرئاسة، والإصرار على تعطيل ما تم الاتفاق عليه من إصلاحات ضرورية باتجاه إجراء انتخابات نيابية بنفس مواصفات الممارسة السابقة القائمة على التزوير وتزييف الإرادة الشعبية التي تؤدي إلى إعادة انتاج السلطة القديمة! هذا هو السبب الحقيقي الذي أدى إلى انفجار شرارة الثورة الشعبية الشبابية؛ ودون أن ننكر أن هناك عوامل اجتماعية واقتصادية ساعدت على تحشيد الكثير من القوى غير المسيسة التي عانت الأمرين بسبب سياسات الإفقار، والفشل الحكومي، والممارسات الحزبية والمناطقية، واحتكار الثروة، وكانت تعيش على هامش الأحداث حتى توفرت الشروط العامة والخاصة للثورة فشاركت فيها دون تردد! لكن الأساس الأول الذي قامت عليه ثورة اليمنيين كان هو انحراف السلطة عن العقد الاجتماعي والسياسي الذي تجسد في الدستور ومعايير الممارسة الديمقراطية الحرة والنزيهة؛ بشكل لم يعد هناك أمل في إصلاحه بعد أن انسدت كل الأبواب، وفقد الناس الثقة في الوعود والشعارات الفارغة.
هذا الأساس الإنساني الحضاري لأي سلطة حاكمة هو الذي يجب أن يقوم عليه أمر محاسبتها وتقييمها قبل كل شيء وخاصة في الظروف التي نعيشها في اليمن، وليس كم كيلومتر من الطرقات رصف؟ أو كم مدرسة وجامعة بنيت؟ فماذا تنفع كل تلك الإنجازات المادية إن كان الإنسان محروماً من حريته وحقه الطبيعي في اختيار حكامه وتغييرهم في انتخابات حرة ونزيهة؟ وماذا نفع الاتحاد السوفيتي (السابق) أنه القوة العظمى في الدنيا؟ وماذا نفعه غزو الفضاء وامتلاكه ترسانة جهنمية من القنابل النووية والصواريخ عابرة القارات؟ بل ماذا نفعته المنجزات المادية غير المنكورة التي حققها مقارنة بالماضي؟ وماذا نفعته الشعارات الطنانة فارغة المحتوى عن البناء والتقدم والتطور؟.. فقد ذلك النظام الجبار يفتقد البعد الإنساني الذي يعني حرية الإنسان وكرامته، وحقه في أن يتمتع بحقوقه السياسية والثقافية، وهو ما لم يكن ممكنا أن يتوفر في ظل نظام شمولي استبدادي.. فكانت النهاية المخزية.. وفي ذلك عبرة لمن كان له قلب ولا يتعمد النسيان!