لم أكن أظن أن يصل الحال بصعدة إلى ما هي عليه اليوم، غير أن ما كرهناه أصبح واقعاً لا مهرب منه. فالمساكن مدمرة والأسواق خالية والمدارس والمجمعات الحكومية كلها أصبحت أثراً بعد عين. الدمار هو المشهد الأبرز في صعدة. على مدى الحروب السابقة كانت صورة الدمار لا تغيب بعد كل حرب، غير أن الحرب السادسة نالت الحظ الأوفر هذه المرة من الدمار، لاسيما وقد دخلت الحرب مديريات جديدة لم تعرفها الحروب السابقة، مثل "شدا" و"الظاهر" الحدوديتين، وصعده القديمة القريبة من عاصمة المحافظة. وقد لعب الموقع الجغرافي لهذه المناطق الدور الأكبر، والسبب الأبرز في هذا الدمار. المحطة الأولى لزيارتي كانت منطقة الملاحيظ، وقد ذهلت لهول ما رأيت، فمن يعرف المدينة بسوقها ومبانيها لن يصدق أن هذه هي الملاحيظ، فالمباني مدمرة، والأسواق خالية، والذي لازال قائما هو بقايا أعمدة بقيت تحكي للزائر مأساتها. محطتي الثانية كانت منطقة "الحصامة" القريبة جداً من الحدود السعودية، وهي المنطقة التي دارت فيها معارك بين الحوثيين والسعودية، وقد بدا أثر الحرب واضحاً عليها، فالدمار في كل مكان في المنازل والمحلات التجارية وحتى في المدارس لم يتبق منها سوى كوم من حديد. بعدها واصلت السير نحو مديرية شذا التي لم تختلف عن سابقاتها من المناطق، غير أن ما أذهلني فيها هو منظر المجمع الحكومي فيها وقد تهاوت أركانه وأصبح كومة من الأعمدة الأسمنتية. كانت مديرية رازح هي محطتي الأخير ذلك اليوم- وهي من أكبر مديريات صعدة مساحة وكثافة سكانية- وقد بدت آثار الحرب واضحة عليها، فالدمار والخراب ظاهر بقوة تستطيع رؤيته في أكثر القرى في هذه المديرية. ويكفي أن نعلم أن منطقة واحدة خسرت أكثر من 120 شخصاً قضوا نحبهم جراء القصف على منازلهم في مدينة النظير، حتى أن بعض الأسر أبيدت جميعاً، ولم يتبقَّ منها أحد، وللمعلومة فكل هؤلاء العدد ليس بينهم حوثي واحد، بل كانوا أكبر أنصار الدولة. الأيام التالية من زيارتي كانت لأغلب مناطق صعدة، وما تستطيع رؤيته دون أدنى جهد هو مشهد الدمار في كل مكان.
وضع مختلف. مع أن أحد بنود الاتفاق الذي أوقف الحرب ينص على تسليم الحوثيين لأسلحتهم وإنهاء المظاهر المسلحة إلا أن الوضع الميداني مختلف جداً، فالحوثيون لا يزالون يجوبون مديريات صعدة بأسلحتهم كما كانوا أيام الحرب بل في الأطقم العسكرية التي استولوا عليها أثناء الحرب. وإذا ما سألت أحد المواطنين عن جدية تسليم الحوثيين أسلحتهم، فإنه سيجيب بالنفي، وهو ما أكده أحد الحوثيين في نقاش أجريته معه في زيارتي هذه، وهو ما يفسر عدم عودة النازحين إلى منازلهم رغم مضي أكثر من شهر على وقف إطلاق النار، فنظريتهم تقول: مادام أن الحوثيين يحتفظون بالسلاح، هو ما يعني عودة الحرب في أي لحظة، إذاً فالحرب السابعة مسألة وقت، كما يقول عبد الله فيصل من أهالي رازح.. ويضيف، وهو يحزم أمتعته للعودة إلى صنعاء بعد زيارة تفقديه لبيته ومحله: مادام أن الحوثيين بأسلحتهم والجيش بهذه العدد البسيط، وهم- يقصد الجيش- لا يستطيعون حماية أنفسهم فإن الحرب أقرب ما تكون. مشدداً على أنه لن يعود حتى يرى الجيش كما كان سابقاً في كل المواقع. وعلى كلٍ فإن 90% من النازحين لا زالوا خارج صعدة، حسبما أفاد أكثر من شخص في أكثر من منطقة بصعدة. حرب سابعة تختلف وجهات النظر بين الناس هنا في صعدة، غير أن ما أجمعوا عليه هو اندلاع حرب سابعة، وقلما تجد شخصاً لا يجزم بعودة الحرب سواء من أنصار الدولة أو حتى من الحوثيين أنفسهم، وكلٌ له رؤيته في السبب الذي سيؤدي إلى هذه الحرب، فهناك من يرى أن الدولة لا تريد أن تنهي الحرب لحاجة في نفوس المسؤولين لا يعلمها إلى الله. وآخر يرى أن الدولة غير حازمة في الضغط على الحوثيين لتطبيق البنود، في حين تكتفي لتطبيقها على الأوراق في التلفزيون، وثالث يرى أن الدولة أحست بضعفها فقررت التصالح على هيئة المنتصر. عودة الجيش الأسبوع الماضي أعلن الحوثيون انسحابهم من ثلاث مديريات هي رازح وشذا والظاهر، بعدها وصل إلى هذه المديريات عدد من الجنود لا تتجاوز نسبتهم 10% من عدد الجيش الذين كانوا موجودين فيها قبل اندلاع الحرب السادسة، وفي حين تمركز الجيش في موقع واحد هو مركز المديرية، فإن الحوثيين لا يزالون موجودين- بشكل غير مباشر- في سبعة مواقع في رازح على سبيل المثال، بل إن بعض مراكز الشرطة أصبحت سكناً للحوثيين كما في مركز بين "الحياف" و"النظير". ومن المفارقات العجيبة التي رأيتها أن الحوثيين يستقلون الأطقم العسكرية، في حين يركب الجنود سيارات عادية تحمل لوحات خصوصي، وهو منظر يعطي أكثر من دلالة على الوضع الحالي في صعدة، وما خفي في بنود الاتفاق.