لقت أنباء استقالة الرئيس اليمني ورئيس الوزراء صدى كبيرا في الإعلام العربي والدولي، ويتهيئ بعض أطراف الحراك الجنوبي للانفصال في هذا الوضع الحرج. فالتطورات المتلاحقة في المشهد اليمني هي مسلسل درامي مؤسف وما هي سوى حلقة من حلقات لعنة الزمان وعبقرية المكان لهذا البلد العريق بحضارته وبشعبه المبتلى بساسة مهووسين بالسلطة وعقدة الإقصاء وشيطنة الأخر سواء أكانوا أحزابا إسلامية او أحزابا انتهازية أخرى. ما حدث في الأسابيع والشهور الماضية من تدهور الحالة الأمنية وتهجير أعداد كثيرة لا احد يعلم حجمها، وتسليم كل مؤسسات الدولة بهذه السهولة لم يكن لولا تواطؤ زعيم الفساد ومؤسسته العسكرية والذي خلق جيشا طائفيا منقسما ولم يؤسس دولة مدنية، والا لما حدث كل هذا. فالأنظمة الاستبدادية كلما طال استبدادها تكون تبعات التغيير مكلفة. والحالة اليمنية حالة فريدة لاعتبارات اجتماعية واقتصادية.
تأتي استقالة رئيس الجمهورية ورئيس الورزاء كتحصيل حاصل لما يحدث. رئيس الوزراء يحترم نفسه بينما استقالة الرئيس هادي جاءت في الوقت الضائع. التخبط السياسي وفرض الامر الواقع ليس في مصلحة اليمن، الامر ليس طبيعيا ولو حتى كانت العملية السياسية المُسخ مسنودة بغطاء ودعم دولي وجمال بن عمر، واعتقد بأن ضغوط بن عمر لاستمرار هادي جعلته يصحا في الوقت الضائع، اليوم اختلطت الاوراق ورب ضارة نافعة وسيلطف الله باليمن.
لم يقبلوا باحمد بن مبارك، وقبلوا على مضض المرشح المستقيل اليوم، وحدثت مساومات في منح الثقة منها سحب اتهامات لصالح وأنصار الله بأنهم معرقلو العملية السياسية ورغم ذلك لم تجد نفعا.
رئيس منزوع الصلاحيات وغدا مجرد محلل لزعيم يفترض ان الثورة قامت ضده، ورئيس وزراء اختطف ثلاثة ايام، ومسئولون يغادرون الى عدن. هذه ليست دولة ولا مقدمات دولة مدنية. لن نصبر اكثر من نصف قرن كي نعود للمربع الأول، ولم نثور في فبراير 2011 من اجل بن عمر وسواد عيون أميركا وإيران.
سياستنا أخطاء مركبة. ما بني على باطل فهو باطل، وأولها المبادرة الخليجية وآخرها اتفاق السلم والشراكة. وغدا أطول حوار في التاريخ لتسعة اشهر تكفي لميلاد جنين وليس دولة هشة، تم القفز عليه والعودة للمربع الاول، لابد ان تسمى الأشياء بمسمياتها.
قالت العرب قديما: اشتدي يا أزمة تنفرجي ورب ضارة نافعة. أكثر شخص مستفيد من تعثر العملية السياسية هو من عبث باليمن لعقود، وأكثر متضرر من الاستقالتين هو تحالف أنصار الله مع زعيم الفساد، فكيف يراد لهؤلاء الاخوة الأعداء المتحالفين ان يرسموا مستقبل اليمن.
إذا كان صالح قد قسم اليمنيين سياسيا، فان انصار الله قد قسموا اليمن مذهبيا، وليس مستبعدا إعلان الانفصال في الساعات المقبلة. وقد تسوء الأحوال. لانهم من سبتمبر مستمرون في اسقاط المدن والفتوحات، بعد الجرعة القاتلة التي ستذهب باليمن إلى الجحيم.
مشاكل اليمن لا يمكن حلها سوى بأيدي أبناء اليمن، بصورة توافقية دون فرض القوة والأمر الواقع. ما جرى ويجري حالة استثنائية. الحل في دولة مدنية وليست على طريقة فرض الأمر الواقع وأسلوب الغلبة.
لا مستقبل للإسلام السياسي بشقيه المذهبيين لان اليمنيين غالبيتهم ليسوا من مذهب الفاتحين الجدد. سيكون ذلك مجالا خصبا للقاعدة لو استمروا في عنجهيتهم. والغرب والخليج لا يريدان من اليمن سوى محاربة القاعدة نيابة عنهم. وينظران لليمن فقط من منظور امني. ولم يدركا ان اكبر ارهاب في اليمن هو الفقر ومشكلتنا اقتصادية قبل ان تكون سياسية، وستثبت الايام صحة ذلك.
يفترض من كل القوى السياسية ان تفسح المجال لانصار الله لتشكيل حكومة ويتولون كل المسئولية كاملة فالسلطة غير التسلط، وهي مغرم قبل ان تكون مغنما.
شخصيا أنا متشائم منذ سبتمبر. فالإطاحة بالملكية استمر ثماني سنوات بينما في الجمهوريات العربية الاخرى في ليلة وضحاها، وسبتمبر 2014 انقلاب بالتقسيط، رغم ان كل السلطة أصبحت بيد أنصار الله. فلماذا لا يستلموها كي يصبحوا امام الامر الواقع وتحت المسئولية الأخلاقية، لا ان يكونوا مثل العراق المرجعية هي التي تحكم.
لعل افضل حل لليمنيين ان يتركوا اهل الحل والعقد من العلماء والساسة من كل الاطياف لكي يجتمعوا على كلمة، او ترك انصار الله وتمكينهم من تسلم السلطة.
الإشكال في اليمن والذي كان قد ضرب مثلا غداة الربيع العربي في نقل السلطة سلمياً وحينها تغنى الكثيرون بالحكمة اليمانية، ولكن المبادرة الخليجية كانت بالفعل ناقصة وملغمة بقصد او بدون قصد حيث إزاحت صالح من الرئاسة وأبقته فاعلا سياسيا من خلال حزبه «المؤتمر الشعبي العام». بدليل بقاء اللاعبين الأساسيين فاعلين ومؤثرين بل ويزدادون نفوراً وعتواً كأسرة صالح والذي لم يتحكم فقط لمدة ثلث قرن باليمن، بل ويرسم ملامح المستقبل لما بعد الربيع العربي. فالرئيس السابق هو من فرض نائبه كرئيس مؤقت وسماه بالأيدي الأمينة، وبالفعل ظل يمارس مهامه كنائب للرئيس وليس له صلاحيات تذكر، وفي حفل احتفالي سلمه العلم ولم يسلمه السلطة!
الحالة اليمنية فريدة بالفعل مقارنة بنماذج الربيع العربي الأخرى. فلا يمكنك أن ترى كل أمر أو إشكال من زاوية واحدة، بل عليك أن تتفاجأ كل يوم بزاوية جديدة لكل قضية. فهي تجمع فقر الصومال، وطائفية العراق، وتنظيمات سوريا، وقبلية ليبيا، ولعبة العسكر والإخوان على الطريقة المصرية. وإضافة إلى كل ذلك، فهي تشبه لبنان كساحة يتصارع فيها الأقوياء في الإقليم الكبير، وإن بصورة أقل.
وكذلك في تفاعل المشهد اليمني مع المجتمع الدولي والأمم المتحدة. فأخر زيارة للمبعوث الاممي جمال بن عمر اواخر يناير الجاري وتعد الزيارة (36). هل هذه الرحلات المكوكية ستطوي وتمحي تعثرات السنوات العجاف؟
اللافت بأن الإعلام المتناقض ووسائل التواصل الاجتماعي قد زادت من تشتت الروئ وأضاعت الحقيقة. فأنصار الله المتحكمون اليوم باللعبة السياسية لا ينفذون ما يُتفق عليه رغم ان الاتفاقات ذاتها فرضت فرضا بقوة السلاح. ومن هنا يفترض بمن يطالب بالسلم والشراكة ليست القوة المهيمنة التي فرضت رؤيتها بقوة السلاح وقفزت على الإجماع اليمني وأعادت المشهد السياسي للمربع الأول وكذا ليست الدولة العميقة التي تواطئت مع الفاتحون الجدد وهي المؤسسة العسكرية التي تدين بالولاء للرئيس السابق علي عبدالله صالح، بل هي تلك القوى المهمشة والتي لم تعد لاعبا سياسيا أساسيا في هذا المشهد الضبابي وهي قوى الشباب التي خرجت في ثورة فبراير 2011 وأحزاب المشترك وسواهم. ومن هنا فالاحتقان الشعبي واضح للعيان، فالاتفاقات التي فرضت منذ سبتمبر الماضي ما هي الا إملآت المنتصر لمن يتشبث بالسلطة وكذا من يحن للعودة.
وأجمالاً لم يستتبب الأمر في اليمن وتنذر الأزمة السياسية بمخاطر كثيرة رغم تطمينات الحوثيين لبقية القوى والخارج الإقليمي الذي يستوعب ويحفظ مصالح جميع القوى بعد اتفاق معركة دار الرئاسة الأسبوع الماضي، الذي يؤكد على الشراكة السياسية ومحاربة الفساد ونزع السلاح. لكن هذا التفاؤل لاوجود له على أرض الواقع. فالميليشيات لازالت في كل مكان وحالة الاختطاف لم يفرج عنها، ويُواجَه اليمنيون بمخاوف يثيرها سلوك أنصار الله أنفسهم بعد إحكام سيطرتهم على الأرض، إذ سرعان ما بدأ تخويف وترهيب المواطنين في بيوتهم، وداخل المساجد، واقتحام المؤسسات العلمية والاجتماعية والاعتداء على الممتلكات. كما أن هذا السلوك يُولِّد ردود فعل لدى قوى أخرى، مثل تنظيم القاعدة الذي يملك القدرة على القيام بعمليات نوعية، ويسمح له بتمدُّد وتوسع حاضنته الاجتماعية، تماما كداعش في العراق والتي تمددت في حاضنة شعبية رغم تكالب اكثر من اربعين دولة اطلسية وشرق اوسطية.