الاتحاد الأوروبي يجدد دعوته لرفع الحصار عن قطاع غزة    نائب وزير النقل والأشغال: العمل جار لإعادة جاهزية مطار صنعاء في أقرب وقت    تواصل اللقاءات القبلية لإعلان النفير العام لمواجهة العدوان    الأرصاد يتوقع استمرار هطول الأمطار الرعدية المتفاوتة ويحذّر من تدني الرؤية بسبب الضباب والرياح الشديدة    كهرباء تجارية في عدن سعر العداد ألف سعودي والكيلو بألف ريال يمني    صنعاء .. هيئة التأمينات والمعاشات تعلن صرف النصف الأول من معاش فبراير 2021 للمتقاعدين المدنيين    الصاروخ PL-15 كل ما تريد معرفته عن هدية التنين الصيني لباكستان    إصلاح المهرة يدعو لاتخاذ إجراءات فورية لمعالجة أزمة الكهرباء بالمحافظة    وزير الشباب والقائم بأعمال محافظة تعز يتفقدان أنشطة الدورات الصيفية    الزمالك المصري يفسخ عقد مدربه البرتغالي بيسيرو    فاينانشال تايمز: الاتحاد الأوروبي يعتزم فرض رسوم جمركية على بوينغ    خبير دولي يحذر من كارثة تهدد بإخراج سقطرى من قائمة التراث العالمي    وزارة الأوقاف تعلن بدء تسليم المبالغ المستردة للحجاج عن موسم 1445ه    وزير النقل: حركة السفن والبواخر بميناء الحديدة تجري بانسيابية    الجنوب.. معاناة إنسانية في ظل ازمة اقتصادية وهروب المسئولين    قيادي في "أنصار الله" يوضح حقيقة تصريحات ترامب حول وقف إطلاق النار في اليمن    اليوم انطلاق منافسات الدوري العام لأندية الدرجة الثانية لكرة السلة    هي الثانية خلال أسبوع ..فقدان مقاتلة أمريكية "F-18" في البحر الأحمر    اسعار الذهب في صنعاء وعدن الاربعاء 7 مايو/آيار2025    دوري أبطال أوروبا: إنتر يطيح ببرشلونة ويطير إلى النهائي    عشرات القتلى والجرحى بقصف متبادل وباكستان تعلن إسقاط 5 مقاتلات هندية    الإرياني: استسلام المليشيا فرصة تاريخية يجب عدم تفويتها والمضي نحو الحسم الشامل    النمسا.. اكتشاف مومياء محنطة بطريقة فريدة    الكشف عن الخسائر في مطار صنعاء الدولي    دواء للسكري يظهر نتائج واعدة في علاج سرطان البروستات    الحوثيين فرضوا أنفسهم كلاعب رئيسي يفاوض قوى كبرى    مكون التغيير والتحرير يعمل على تفعيل لجانه في حضرموت    إقالة بن مبارك تستوجب دستوريا تشكيل حكومة جديدة    وزير التعليم العالي يدشّن التطبيق المهني للدورات التدريبية لمشروع التمكين المهني في ساحل حضرموت    تتويج فريق الأهلي ببطولة الدوري السعودي للمحترفين الإلكتروني eSPL    في الدوري السعودي:"كلاسيكو" مفترق طرق يجمع النصر والاتحاد .. والرائد "يتربص" بالهلال    بذكريات سيميوني.. رونالدو يضع بنزيما في دائرة الانتقام    لماذا ارتكب نتنياهو خطيئة العُمر بإرسالِ طائراته لقصف اليمن؟ وكيف سيكون الرّد اليمنيّ الوشيك؟    طالبات هندسة بجامعة صنعاء يبتكرن آلة انتاج مذهلة ..(صورة)    بين البصر والبصيرة… مأساة وطن..!!    الرئيس المشاط: هذا ما ابلغنا به الامريكي؟ ما سيحدث ب «زيارة ترامب»!    بامحيمود: نؤيد المطالب المشروعة لأبناء حضرموت ونرفض أي مشاريع خارجة عن الثوابت    تواصل فعاليات أسبوع المرور العربي في المحافظات المحررة لليوم الثالث    الوزير الزعوري: الحرب تسببت في انهيار العملة وتدهور الخدمات.. والحل يبدأ بفك الارتباط الاقتصادي بين صنعاء وعدن    النفط يرتفع أكثر من 1 بالمائة رغم المخاوف بشأن فائض المعروض    إنتر ميلان يحشد جماهيره ونجومه السابقين بمواجهة برشلونة    أكاديميي جامعات جنوب يطالبون التحالف بالضغط لصرف رواتبهم وتحسين معيشتهم    ماسك يعد المكفوفين باستعادة بصرهم خلال عام واحد!    انقطاع الكهرباء يتسبب بوفاة زوجين في عدن    لوحة بيتا اليمن للفنان الأمريكي براين كارلسون… محاولة زرع وخزة ضمير في صدر العالم    لوحة بيتا اليمن للفنان الأمريكي براين كارلسون… محاولة زرع وخزة ضمير في صدر العالم    رسالة من الظلام إلى رئيس الوزراء الجديد    من أسبرطة إلى صنعاء: درس لم نتعلمه بعد    وزير الصحة يدشن حملات الرش والتوعية لمكافحة حمى الضنك في عدن    يادوب مرت علي 24 ساعة"... لكن بلا كهرباء!    صرخةُ البراءة.. المسار والمسير    متى نعثر على وطن لا نحلم بمغادرته؟    أمريكا بين صناعة الأساطير في هوليود وواقع الهشاشة    المصلحة الحقيقية    أول النصر صرخة    مرض الفشل الكلوي (3)    أطباء تعز يسرقون "كُعال" مرضاهم (وثيقة)    مقاومة الحوثي انتصار للحق و الحرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تبرير الكارثة
نشر في المصدر يوم 29 - 04 - 2010

في آخر تجليات رئيس الحكومة: المشكلة اليمنية اقتصادية محضة. يبدو أن هذا المنطق ليس حكراً على السيد مجوّر. فحتى منظّر رئاسة الوزراء السابق، محمد الصبري، يعتقد في مقاله المنشور في العدد الأخير من «المصدر» أن المشكلة اقتصادية في جوهرها، بتداعيات سياسية. وأن المعارضة فقط "تدّعي" هيمنة العنصر السياسي على الاقتصادي. نحنُ هُنا نفترض أنه كان ينظّر، في زمنٍ ما، وأنهم كانوا بالفعل يستمعون إلى تنظيراته. هذا على سبيل إبداء حسن النيّة.

يوماً ما، في فندق موفمبيك، وقف فيصل بن شملان أمام الحاضرين. كانت شمس رمضانية هادئة تستعد للهبوط. امتلأت القاعة بالحاضرين. شخصٌ متأنق، شديد الانتباه وقف بمحاذاة باب القاعة، إذ لم يجد له مكاناً شاغراً. تبادلت معه الابتسامات الخفيفة (حميد شحرة).

عند اللحظة المناسبة في خطابه صرخ بن شملان: من كان يعتقد أن المشكلة غير سياسية في أساسها فليستمر في أوهامه، وسيرى! صمت، وتأمل لفترة طويلة، فأدرك الراحل بن شملان أن النظام يتأسس على مجموعة من العناصر، العوامل، غير المدنية وغير الجمهورية: الجيش، المشائخ، رجال الأعمال. وأن هذا التكوين لا يمكن إلا أن يكون عائقاً على المدى البعيد أمام أي تحولات حداثوية على صعيد الوعي والسلوك والإنجاز.

كما لا يمكن أن يفضي إلى ظهور دولة مدنية أو مجتمع مدني جديد قابل للبقاء والمنافسة. المشكلة، في تصور بن شملان، سياسية محضة : فهذه العناصر الثلاثة مثّلت في الوقت ذاته الجهازَ الإداري للدولة. ولأن هذا الجهاز الإداري تشكّل على نحو غير مهني وغير احترافي فقد كانت النتيجة : كارثة اقتصادية هائلة على النحو الذي نراهُ الآن. في فترة غير بعيدة كان السيد الإرياني رئيساً للوزراء. لم يقدّم مشروعاً مدنيّاً يمكن أن يعيد تشكيل النظام الإداري في اليمن، وفقَ صورة تنتمي إلى العالم الجديد. صادف أنه كان رئيساً مباشراً لوزير العدل، على سبيل المثال، ولوزير الاقتصاد، لكنه لم يتنبّه إلى أي من الاعتلالات البنيوية في أي من الوزارتين، بالرغم من أنه يبدو وكأنه قد تنبّه أخيراً. وأخيراً هُنا تعني أن السيد الإرياني أصبحَ يقدم نقداً حاداً لبعض ظواهر الفشل الرسمي كما لو كان قادماً للتوّ من البحر المحيط. إنه الفشل ذاته الذي استمرّ بوتيرة متسارعة إبّان فترة رئاسته للوزراء، ولا يزال حتى الآن وسيستمر في المستقبل، حيثُ سيعمد الوريث إلى العمل على منوال أبيه، وبسبب ذلك ستكون اليمن قد تشظّت إلى عدد مخيف من اليمنات، استجابة لحدس الميثوس اليمني (يقول علي ولد زايد: من كان أبوه يظلم الناس كان القضا في عياله). ما يحدُث الآن هو ما كان يحدث في السابق، الفرق في الدرجة لا في النوع.

لم يحدث في الزمن الماضي القريب أن السيد الإرياني قاد "بيروسترويكا" من أي نوع، أو "غلاسونست" عند أي درجة. إمّا لأنه كان عاجزاً عن تفكيك بنية النظام اليمني، وفهمه، وبالتالي: إعادة تأهيله على نحو عصري مواتٍ وموازٍ لإيقاعات الحياة الحديثة، على طريقة تفكير فيصل بن شملان. أو لأنه وجد نفسه ينتمي إلى واحدة، على الأقل، من التكوينات غير الصحّية لهذا النظام. تحت الفرض الثاني سيكون الإرياني قد ساعد على نحو مدروس في تأجيل، أو تبديد، مشروع الدولة الوطنية القادرة (اليمن قادرة على أن تفعل أي شيء). وبتفضيل الاحتمال الأول، فثمّة عرفٌ أخلاقي وقانوني يجعل من قلّة الحيلة جريمة في حد ذاتها، حين يتعلق الأمر بإدارة الشأن العام.

لقد كانت السلطة التنفيذية، آنئذٍ، هي السلطات الثلاث، وهو ما عمل السيد الإرياني على تكريسه عمليّاً. يمكن أن نلمح في رد المجلس الأعلى للقضاء على حديث الإرياني حول فساد القضاء في اليمن ما يشير إلى هذه الواقعية التاريخية. يأتي الآن السيد الإرياني ليتطهّر من خطاياه بهجاء جهاز العدالة في اليمن، والسخرية من توقعات البنك المركزي. صحيح أن كثيرين من أبناء الوطن اشتركوا مع السيد الإرياني في السخرية والهجاء، لكن أحداً منهم يصعب عليه أن يبرّئ السيد الإرياني من دم اليمن الفقير، من إثم كل هذه التعاسة الأسطورية. إنه في تصريحاته الأخيرة، التي سرعان ما يدفنها وراءه بخفة مفزعة، يقف على حافة المصارحة التي أطلقها بن شملان: المشكل السياسي هو الأب الفعلي لكل المشكلات الكبيرة الأخرى. لكنه، أي الإرياني، ينأى ويقتربُ، بتعبير البردّوني. يريد دولة حديثة بشروط قديمة، تجعل منها حداثة نسق لا حداثة مضمون.

واصل السيد محمد الصبري تنظيراته، ويبدو أنه لطالما التقى مع السيد الإرياني في أحاديث كثيرة حول المشكلة اليمنيّة. في قمة أطروحته فاجأنا بانحرافه بعيداً عن المنطق العلمي: لا ضرائب في ظل المزايدات السياسيّة. لاحظوا أن مفردة "المزايدات" غير علمية. لقد جرى الزج بها في الثلث الأخير من الأطروحة إرضاءً لأناس لا علاقة لهم بالتفكير الاقتصادي، رغم حرص السيد الصبري على أن يبدو موضوعيّاً خطيراً. من بمقدوره حل هذه المعادلة: التنافس السياسي في بلدٍ ما (أطلق عليه السيد الصبري لقب: مزايدات) يحول دون أن تتمكن أجهزة ومؤسسات الدولة من تحصيل الضرائب؟ هناك انحراف علمي أكثر شراسة من هذا. فالسيد الصبري، وهو منظّر تقليدي، يعتقد على نحو لاهوتي أنه لا توجد علاقة اطّرادية بين طبيعة النظام السياسي والنمو الاقتصادي في بلدٍ بعينه. الدليل، بالنسبة للصبري، هو : سوريا، تونس، لبنان. يُشار إلى هذه الدول، عادةً، بحسبانها دول "على وشك أن تفشل" أو أنها "يمكن أن تفشل" في أحسن الأحوال. بيد أن السيد الصبري فضل عدم الرجوع إلى التقارير الدولية فيما يخص هذه الدول. لقد اعتبرها أمثلة ناجزةً على قدرة الديكتاتوريات على قيادة عملية نهضوية ناجحة على كافة المستويات. أداتُه الوحيدة هي: مقارنة هذه الدول باليمن. إن مجرّد وضع هذه الدول في خانة المقارنة مع اليمن يعني ببساطة صِرْفة أن هذه الدول تقع في قائمة العالم، في قاع الكوكب.

لقد بدا واضحاً أن السيد محمد الصبري يمارس تسويق فكرة "الجمهورية السلالية" للقارئ اليمني بأسلوب علمي مغشوش. إن ما فعله يشبه تماماً جريمة المغيرة بن شعبة أمام معاوية بن أبي سفيان. لقد كان المغيرة يطمح في الاستمرار والياً على الكوفة، وكان المدخل إلى قلب معاوية هو "بوبّوس" كما في الفيلم الأخير لعادل إمام. واحدة من الحملات المبكّرة لمشروع التوريث، يجدر مواجهتها وكشفها على قارعة الطريق بطريقة منهجية شرسة.

انتظرتُ من أطروحته أن تحقق اختراقاً ما في تفكيك العلاقة بين الليبرالية السياسية والليبرالية الاقتصادية. بمعنى أكثر وضوحاً: هل تستطيع دولة ما أن تتحرك باتجاه المستقبل كالبطة العرجاء، برجلٍ واحدة. أن تكون ليبرالية اقتصادياً، متجاهلة الليبرالية السياسية (الديموقراطية في صورتها الغربية)؟ بمعنى آخر: ما هو شكل المواطن الافتراضي الذي سيكتشف في منتصف الطريق أنه يمتلك سهماً اقتصاديّاً ولا يمتلك سهماً سياسيّاً، أو العكس؟ هل يمكن أن يوجد مثل هذا المواطن، في الأساس، دون أن يكون من المناسب علميًا وعملياً تسميته بالعبد السعيد أو العبد التعيس طبقاً لامتلاكه أي من السهمين؟

الدوغماتيكية التي تحدث بها السيد الصبري أصابتني بدوار شديد. إنّ أحداً من الاقتصاديين العالميين لم يجرؤ على أن يقفز إلى هذا الاستنتاج، وبهذه المجانية الصرفة. سأحيله إلى كتابات حديثة، قدمت التساؤل ذاته حول فكرة السوق المحرّرة في دولة غير ديموقراطية، وبطرح جدلي عميق: المفكر الإنجليزي جون برادلي في كتابيه "السعودية من الداخل، ومصر من الداخل، 2008". إن الديموقراطية هي جرس الإنذار، هكذا بالفونت العريض في " فخ العولمة"، حيثُ تحول دون أي انهيار اقتصادي مفاجئ. وإن دولةً لا تهتم بتحصيل الضرائب – يا سيد صبري- هي دولة لا تهتم لمستقبل مواطنيها، يقول هانس بيترمارتن، المحرر الاقتصادي في دير شبيغل.

عندما كان الصبري أميناً عاماً لرئاسة الوزارء كان السيد الرئيس يخاطب الجماهير: اسألوا عبد العزيز عبد الغني. كأنه كان يقول لهم: وحده عبد الغني يدرك كيف يفعل الاقتصاد فعله. وعندما طال صمت عبد الغني، رغم الأسئلة الملحّة والزمن الحرج، تحدّث الصبري بالرغم من أن السيد الرئيس لم يكن يشير إليه البتة. على مدى سنين عديدة تخيّلنا أن السيد عبد الغني يمثل الفيض اللانهائي من الإجابات الاقتصادية العميقة. بيد أننا بعد أن تعلّمنا الكتابة والقراءة أدركنا أن هذا الفيض لم يعُد قادراً على ضخ إجابات عميقة ومنهجية للإشكالات المادية والجدلية الأكثر حضوراً. وربما لم يكن قادراً في الزمن القديم، بحسب المعطيات التي تتوفر لدينا الآن. لقد كان يمثّل الاقتصادي النبيه في بلدٍ تعيش مرحلة ما قبل السوق الحديثة. أمثولة عربية بامتياز توازي كوميديا: الكاتب المدهش الذي ليس له مؤلفات تستحق الذكر، والشاعر الكبير الذي ليس بمقدور قرّائه أن يشيروا إلى قصيدة واحدة مدهشة، في كل أعماله!

لنعُد إلى السيد الصبري .. لدينا مثال عملي: قال رئيس مصلحة الضرائب لصحيفة «26 سبتمبر»، قبل شهرين، إن 80% من الضرائب لم تحصّل في العام الفائت. بمعنى: 6 مليارات دولار. جاء السيد الصبري ليبرر هذه الكارثة: بالطبع، فلا ضرائب في وجود مزايدات سياسية! أيهما المجرم الأكبر: المتهرّب الضريبي، أم المنظّر الذي يبرّر هذه الجريمة الوطنية؟ اللص أم مشرّع اللصوصية؟ في رأيي: هما، وشخص ثالث أتاح لهما حريّة ارتكاب الجريمة والتبرير لها، عند الدرجة نفسها. الشخص الثالث: النظام الذي تأسس على عناصر لا يؤدي تفاعلها المشترك إلى إنتاج دولة قادرة، متماسكة.

بيد أنّ أكثر الأمور غرابة في أطروحة السيد الصبري تبدو على هذا النحو: لقد أورد الرقم 7 مليارات دولار كعائد ضريبي للخزانة العامة في سوريا. في المقابل أورد الرقم 2.9 مليار دولار عائد ضريبي في اليمن. فجأة يفترض السيد الصبري أن العائد الضريبي في اليمن لا بد وأن يكون متطابقاً مع العائد الضريبي في سوريا، وأن الفاقد الضريبي في اليمن يساوي 1.4 مليار دولار! لم يوضح كيف وصل إلى هذا الاستنتاج الغريب، ولا كيف سمح لنفسه أن يتخيّل تطابق نظام الحياة والسوق والمعيشة في سوريا واليمن! في الواقع: هذا ثاني أغرب استنتاج قرأته منذ نصف عام، علماً بأن الاستنتاج الأوّل كان أيضاً للسيد الصبري في محاولاته شرح أزمة العملة اليمنيّة. تحديداً عند إشارته لأزمة النمور الأسيوية. قال إنها بدأت في ماليزيا، بالرغم من أنها بدأت في بانكوك، مع الإفلاس الشهير للبنك المركزي التايلاندي قبل ماليزيا بعامين.

بالعودة إلى السطر الأول: لقد تحدّث السيد مجوّر، في آخر لقاء متلفز، كما لو كان بالفعل رئيساً للوزراء. سخر، بطريقة غير عميقة، من البيان الذي أصدره "صحفيون ضد الفساد": فساد 2009 بلغ 6 مليارات دولار. وبالرغم من أن رئيس مصلحة الضرائب قد تحدث بوضوح فاقع عن هذا الرقم، إلا أن السيد مجوّر يقول: المعارضة تبالغ في الحديث عن الفساد، فكم هي الميزانية في الأساس حتى يكون لديك فساد بستة مليارات دولار (أنت كم ميزانيتك أصلاً، قال مجوّر).

هذه تقليعات مثيرة للكراهية، تلك التي تنكر وجود الكارثة بسطحية فجّة، ولا تمتلك تعريفاً إجرائياً لدالة الفساد. يوجد مكانٌ في هذه القصّة للسيد الصبري: إن شكل النظام السياسي، في اليمن، بأقانيمه الثلاثة خلق الواقعية التالية: تشكيل الجهاز الإداري بالاعتماد على "رغبات" ثلاثة خطوط؛ أعني: العسكر، التجار، القبائل/ المشائخ. سقطت الكفاءة، الكفائية، لمصلحة: السيطرة.

وفي المحصلة النهائية: جهاز إداري فاسد، وفاشل، تتحكم فيه وتدير فساده نزوات سياسية تحكمية أكثر ما تفتقر إليه هو التفكير الاستراتيجي بروح وطنية. المحصلات الكلية تسيلُ على لسان محمد أبو لحوم، القيادي المؤتمري المرموق: إن المؤسسة الوحيدة الفاعلة في اليمن هي مؤسسة الفساد. هكذا: سقوط الدولة في حضيض الاقتصاد، في حضيض الإدارة، وغياب القانون بصورة شبه كلّية. ملحوظة: اعترف رئيس الحكومة في مؤتمر لندن بأن سيادة القانون تتراوح ما بين 19 و 30%. ثمّة مثال أكثر قسوة وهمجية: صادرات قطر من الغاز المسال تعادل صادرات اليمن 11 مرّة. في الفترة الزمنية نفسها: عائدات قطر من الغاز المُسال تساوي عائدات اليمن 160 ضعفاً. الإدارة تجسّد الكارثة، هنا. كما أن الإدارة الفاشلة هي مجرّد قفاز للسياسة الرخوة. هذا بالضبط هو : الحلزون الخبيث! Vicious spiral!

في السياق ذاته توجد طرفة مثيرة للحزن: تحدث السيد الإرياني قبل فترة قصيرة عن اتفاق فبراير. قال الإرياني باستعلاء مذهل: إذا أصر المشترك على لجنته التحضيرية فليبحثوا عن شخص غيري يوقع معهم على الاتفاق. حسناً: شخص غيري. كما لو أنه فعلاً بمقدوره أن يوقّع، وأن يلغي. سنلصق هذه الفقرة الاستعراضية بأحدث الأخبار السياسية: الإرياني يوقع على المحضر، والرئيس يلغي توقيع الإرياني! بالعودة إلى الأسطر المبكرة في هذه المقالة: الرافد العظيم لمشاكل اليمن هو المشكلة السياسية، نظام البطريرك السياسي الذي يفعل كل الأشياء بالرغم من أنه ليس خبيراً في أي منّها! طبيعة النظام السياسي بتكويناته غير المدنية، وغير الجمهورية، وغير الوحدوية. بمقدرونا الآن رسم صورة كاريكاتورية للنظام اليمني: نزوة مستلقية على ظهرها تقهقه بصورة خليعة.

إن هذا البلد يعجّ بشخصيات عالية الذكاء والتأهيل، بمقدورها أن تفسّر نظريات آين شتاين في النسبية الخاصة، وتبتكر حلولاً اقتصادية قابلة للبقاء كما ابتكر إمبراطوريته التاريخية في فجر التاريخ. لكنّ الجمهورية، بصورتها الأكثر كهنوتية وسلالية، كسرته من المنتصف على نحوٍ شنيع.

هامش:

1- ناشد عمران محمد محمود الزبيري، لاحظوا الاسم المهم، السيد الرئيس عبر صحيفة «الناس» أن يوفّر له عملاً يتواءم مع المكانة التاريخية والنضالية لأبيه. من مكاني حاولتُ أن أفكّر في ذلك العمل الذي يتوقع عمران أن يكون مكافئاً لمكانة أبيه التاريخيّة. لم أجد سوى عملٍ وحيد: النضال من أجل الجمهورية الحقيقية. وبرغم أن هذا المقترح قد يبدو جيّداً من الناحية العقلية، إلا أن الأخ عمران فضّل أن يختم اللقاء الصحفي بتأكيده على السير "على خطى الشهيد الزبيري". قال عمران، ليؤكد هذا النهج: وإذا ما فكّرت في الانضمام إلى حزب سياسي فسأنضم إلى المؤتمر الشعبي العام. هذا ما كان الشهيد الزبيري سيفعله بالضبط، طبقاً للنجل عمران. متى كانت آخر مرة استمعتم فيها إلى أغنية: أنا مش كافر، بس الجوع كافر!

2- نظرة كلّية إلى سماء العاصمة صنعاء: توجد أربع سقّالات في كل صنعاء. ثلاثٌ منها تعمل في محيط مبنى مجلس النواب، على نفقة دولة خليجية. قبل فترة ليست بالبعيدة حاولتُ أن أعدّ السقالات التي تعمل في مطار دُبي. شعرتُ بالملل بعد أن تجاوزت عيني العدد 50. تبدو صنعاء وكأنها جثّة، مجرّد جثة ترشقها السماء بالمطر لكنها لا تهتز ولا تربو. دعونا نرجع إلى الأسطر الأولى من هذه المقالة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.