اختفى الذين يقتلون القتيل ويمشون في جنازته، هذا الصنف من القتلة يبدو أطيب من هؤلاء الذين يقتلون القتيل ويحرمونه من الجنازة. ليس في هذا تهمة لتحديد قاتل أمجد، بل لصياغة مثل جديد لبعض جنائز المستقبل. كان الخبر واضحاً على شريط الجزيرة: مسلحو الحزام الأمني يمنعون جنازة الشاب المثقف في شوارع عدن. لتتكشف البنية العقائدية المتشددة للحزام، التطرف يعشب وسط الأجهزة الجديدة للدولة، فتؤصد أبواب المقابر بعد فرز قلوب الموتى وتمحيص إيمانهم من قبل الحوذيين. لا حوذي في المقبرة، ولا ميت يرحب متفاخراً بشهامة اليمني المطوقة بالتعاسة: ارحبي ياجنازة لا فوق الأموات. الجثمان المتنور على النعش مثقوب بأربع رصاصات، والمشيعون حيارى.
فضحت جثة أمجد وهم حكام عدن، هشاشة الأصدقاء السياسيين، حالة الفصام الذي يحاول أن يخفيه المتحالفون الجدد خلف صداقة هشة يحاولون تغليفها بطابع الانتصار لانفصال الجنوب. عيدروس، المحافظ المقال، يبرم وعده على طراوة الدم ويتعهد: سنصل إلى القتلة ونثأر للشاب المناضل، يذيل وعده المكتوب بمنصبه المزعوم: رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي. وهو المجلس الذي شكله الرجل حنقًا من قرار الإقالة، لكن مسلحي الحزام منعوا الجنازة من المرور إلى المقبرة، بل وصرخوا: ولا يقبر في مقابر المسلمين. تحول السلس العادي على رقبة القتيل إلى دليل كفر بواح. والقتلة ومانعو الجنازة اجتازوا ما هو أبعد من الثيوقراطية..
عندما شكل عيدروس مجلسه، وضع له نائبًا يدعى بن بريك، وقد كان هذا وزيرًا أقيل وأحيل للتحقيق في اليوم نفسه، يوم إقالة المحافظ، وعندما وعد الرئيس المزعوم بملاحقة قتلة أمجد، كان أشياع نائبه يمنعون الجنازة.
كثير من الأحداث تطوف حول الجثة، تؤكد بأن أمجد لم يكن عادياً، ثلاثة من الأصدقاء خرجوا من منزل عبدالرحمن والد أمجد بعد أداء مراسيم المواساة قبل الدفن، الثلاثة اعتقلتهم قوات قيل إنها تأتمر بأوامر نجل الرئيس. ما هي الفائدة المرجوة من قيادة اليمني إلى الحيرة واليأس، وجعله متوجسًا من أمر جثته، إذ تبدو الأطراف وهي تتصارع عليه وتثخنه حتى وهو مضرج بالدماء في انتظار توحدهم ولو عند إهالة التراب. الدين والسلطة يظهران حول القتيل، ويغيب الإنسان، الضائع الموجوع الذي نفتقده.
في قصة "جنازة الأم الكبرى"، لماركيز، يظهر كل شيء في جنازة الأم، والأم هي امرأة كبيرة أسطرها ماركيز، سلطتها فوق السلطات، تعين رؤساء وتدعم أحزابًا حاكمة، باليمني يمكن أن نطلق عليها: شيخ الرئيس. ببركة نفوذها يتمسح رجال الكنيسة، يفوز من تريد بما تريد، ملكات الجمال اللواتي فزن بكل شيء في الحاضر وسيفزن بكل شيء في المستقبل حضرن جنازتها، المتطرفون والمتزمتون، الصحفيون ينشرون صورها بتحاسين فنية خالية من التجاعيد، حتى صاحب الفاتيكان يدعو لتأخير الدفن حتى وصوله ليزورها، وحدهم أبناء القرية فاغرو الأفواه لا سلطة لهم غير النظر. لكنها ماتت.. ومات المجد الذي عاشته والنفوذ رغم فخامة الجنازة.
الواقع معكوس في جنازة أمجد. شاب ينشر ثقافة قبول الآخر، سلطته صفحته على فيس بوك، يحرم من تشييع يليق به. لقد كانت جنازة الأم في ظروف طبيعية في وضع الحرب تتغيير الطقوس.
في رواية "الموت عمل شاق" للسوري خالد خليفة، تفاصيل عشناها ونعيشها، كما لو أنه تحدث عنا. عمل مذهل ليس لقراءة سوريا وجراحها الأخيرة من خلال جثة، بل وقراءة أي بلاد تعيش الحرب. رجل يموت ويوصي أولاده بأن يدفن في مقبرة القرية لا غيرها، ينطلقون بالجثة من المدينة، في السيارة ثلاثة أحياء وميت في تابوت، نقاط الأسد تحتجز الجثة، البلاطجة، فصائل المعارضة، الإرهابيون المتطرفون، الجيش الحر، مع اختلاف في التعامل، حجز وإفراج، حجز وإفراج، بعد الوصول الشاق وفتح تابوت تظهر الجثة وعليها الدود. أليس من حق الميت اليمني أو السوري على الأحياء أيًا كانوا، حق القبر؟ * مقال خاص بالمصدر أونلاين