لو كانت هذه الرواية عربية، سييأس كاتبها، ربما تظل الطريق إلى القارئ بسبب نظرة الناشرين لها. من قلة صفحاتها يمكن أن تصنف كقصة طويلة أو رواية قصيرة. أما موضوعها فلا يستدعي الحماسة بتاتًا: عجوز يصطاد.
لكن الكبير همنجواي قام بمعالجة سيكولوجية لليأس من خلال القصة ومن حيث لا يتوقع القارئ، وحين فاز بجائزة نوبل 1954 عرجت اللجنة على عمل العجوز والبحر أكثر من الأعمال الأخرى، هي آخر ما كتب همنجواي، ما يعني أن الكاتب كان في ذروة نضجه حين كتب قصة عجوز سيء الطالع.
العجوز هو البطل الوحيد للقصة، هنا تكمن عبقرية الكاتب في صوغ الأحداث واختلاقها دون أن تجد خللًا في تركيب الوقائع، لا أشخاص ثانويين ولا امرأة، كان له غلام وبسبب شؤم العجوز هجره في ربع القصة تقريبًا، يقول العجوز سانتياغو بعدما يخبر الغلام بأنه سيوقظه الصباح: «الشيخوخة ساعتي المنبهة.. ولعلك لا تعرف لماذا يستيقظ العجائز مبكرين.. ليجعلوا أيامهم الباقية أطول من أيام الناس».
بقية الأحداث بلا جنس ولا ملهى، لا حرب ولا دين، لا جريمة ولا شرطة ولا أسرة، ومع ذلك يحضر الحوار الشبيه بمونولوج، يتعمق في البحر لأنه يعشقه رغم قسوة البحر، نعرف الأسماك وكائنات المحيط من التعليقات التي تتخلل القصة، يتأمل سانتياغو في السماء، في الشمس، في الألوان، يواصل رحلته مع الصيد، على الإنسان ألا ييأس وإن كان كهلًا، يخاطب العجوز الناحل نفسه: «... ولكن الحظ قد تخلى عني.. ومن يدري.. لعله لا يجانبني اليوم.. كل يوم هو يوم جديد يحمل أملًا جديدًا... ».
يتحدث عن البيسبول، عن بطله المفضل، يحاور نفسه بصوت مرتفع.. يعرف أن حظه سيء ومع ذلك يتعمق أكثر حتى يكون وحيدًا في المحيط.
فجأة تعلق سمكة أكبر من المتوقع، يبدأ التحول في القصة، بدأ يتشكك، تأكد من ذلك، قوته لا تتناسب مع حجم السمكة، راح يجذب الحبال بشتى الحيل، كان وحيدًا في الأعماق. يلوي الحبل حول ظهره، يدخل في تحد مع الحظ وفي تحد مع السمكة، يختلق الحيل.. يتهكم: لست أدري، أهي تسير وفق خطة مرسومة أم أنها تصارع مستحية مثلي؟ يمر النهار ويدخل الليل والعجوز يتصارع مع السمكة..
يصاب، يقول لأصابعه: «إن آلامي لا تهم». يوشك أن يستنفذ الحيل لسحب السمكة إلى الشاطئ، يخاطب جمجمته: «لا تفقد توقدك أيها الرأس».
يقول: « الرجال لم يخلقوا للهزيمة.. قد يتحطم الرجل دون أن ينهزم».
يقول: «إنها لحماقة أن يستولي اليأس على المرء كما أن اليأس خطيئة فيما اعتقد، ولكنك لن تفكر في الخطيئة هذه.. إنني لا أفهم معنى الخطيئة.. لا أفهمها.. لست واثقًا أني أؤمن بها».
وحين ينجح في توجيه دفة الزورق الذي يسحب السمكة، تهاجمه أسماك القرش، يشعر بالهزيمة، غير أن الرياح ساعدته بالاتجاه نحو الشاطئ: «الريح صديقة لنا مها تكن.. إنها كذلك في بعض الأحيان.. أما البحر الكبير فإنه معنا ومع أعدائنا».
سيصل إلى الميناء ليرى «ذيل السمكة منتصبًا خلف الصاري، عمودها الشوكي الأجرد، بقايا الرأس، هيكل المنقار، أكبر سمكة طولها ثمانية عشر قدمًا جرداء من اللحم».
أسماك القرش اصطادت صيده، ومع ذلك يصل بالهيكل ويتجه إلى كوخه لينام: «إن المخدع شيء مستحب.. إنه مريح حينما يعود المرء مهزومًا، لم أكن أتخيله مريحًا إلى هذا الحد»، وراح يسأل نفسه: ولكن من الذي هزمك؟ ويجيب: «لا شيء.. أنا الذي ذهبت بعيدًا..»
في الصفحات الأخيرة، الغلام يقنع العجوز بأنه سيجلب له الحظ.. وفي آخر صفحة سيظهر رهط من السائحين، فيما يكون سانتياغو في الكوخ «نائماً على وجهه يحلم بالسباع».
*** عمل كبير ب 116 صفحة الطبعة المترجمة إلى العربية، من المفترض أن يتعلم منها الكاتب والقارئ معًا، صبر العجوز وإصراره، الكفاح ضد اليأس، غير أن همنجواي نفسه مات منتحرًا سنة 1961.