مقالات الخضر سالم بن حليس عند نشوب أي خلاف علمي ينطلق حاملو «رايات الإجماع» يجوبون بها المنتديات والمنصات العلميَّة، يغلقون بها منافذ الخلاف، ويجعلونها حُجة في وجه كلِّ بحث وتحقيق، ينادون: لا فائدة فالإجماع قد انعقد، وباب الاجتهاد في هذه المساحة قد سُدَّ. ❍ هذا الولع بنقل الإجماع في كل قضية يحتاج إلى وقفة علمية جادة للحد من انتشار هذه الظاهرة في ساحات البحث العلمي، فتأثيرها على حركة التحقيق والنظر بات مؤثرًا، فليس كل ما أعلن فيه صحيح، ولا كل من تترس خلفه في وضع مريح. وقد نالت هذه الظاهرة اهتمام الإمام ابن تيمية(ت:728) ولفتت انتباهه، فزيف كثيرا من مزاعمها، وفي مناقشته لإحداها يقول: «وهذا الإجماع نظير غيره من الإجماعات الباطلة المدعاة في الكلام ونحوه، وما أكثرها، فمن تدبرها وجد عامة المقالات الفاسدة يبنونها على مقدمات لا تثبت إلا بإجماع مدعى أو قياس، وكلاهما عند التحقيق يكون باطلا» «الفتاوى الكبرى»، (5/127). وهكذا كانت تحقيقات حذاق الدرس الأصولي ترصد هذه الدعاوى وتلاحظ امتداداتها وانتشارها، وخطرها على حركة الفكر والنظر، فتفتقت قرائحهم تبيّن أن الإجماع المقرر في المنصة الأصولية يؤول المراد منه إلى ثلاث مراتب، والخلط على مشارفها هو الذي أحدث كل هذه الجلبة: ❍ *المرتبة الأولى:* اتفاق المسلمين جيلًا بعد جيل على إسناد قول أو فعل أو هيئة للنبي - صلى الله عليه وسلم - على إنها بيان مجمل، أو تشريع مؤصل، مثل صفة الصلاة وأوقاتها وكيفية الحج، وألفاظ القرآن وسوره. فهذا أصل عظيم في الدين، به فُسِّرت المجملات وأوِّلت الظواهر، وأُسِّست أصول الشريعة، وهو المعبَّر عنه بالمعلوم ضرورة، وبالمتواتر من الدين وبالإجماع العام، وهو الذي قالوا بكفر جاحده كما حكاه التاج السبكي(ت:771) في «جمع الجوامع». وهذا النوع هو الذي اقتصر عليه الإمام الجويني (ت: 478) في مدونته الأصولية المتينة «البرهان». ولا ينازع فيه أحد ولا هو مجال للبحث والنظر والعلمي طالما وهو إجماع على الدين وما هو معلوم منه بالضرورة. ❍ *المرتبة الثانية:* اتفاق مجتهدي عصر من عصور الإسلام على حكم لدليل عينوه، واتفقوا على العمل بمقتضاه من نص أو قياس أو مصلحة. ويسمى ب«الإجماع الاستقرائي»، وهذا الذي اخُتلف فيه الاختلاف الشهير. فأنكره جماعة منهم: الإمام أحمد بن حنبل(ت:241) وداود الظاهري (ت: 270)، وقال جماعة: «هو حجة ظنيَّة» منهم سيف الدين الآمدي(ت:631). وفي هذا النوع مساحة للبحث والنظر، طالما وهو يعمل في منطقة الاجتهاد، وفي كثير من دعاواه مجال بحث عند الفقهاء والأصوليين. وجوَّز القاضي عبد الجبار(ت:415) لمن بعدهم مخالفتهم، ويمكن تغييره باختلاف المصلحة وتبدل النتائج. ❍ *المرتبة الثالثة:* سكوت المسلمين في عصر على قول أو فعل صدر من مجتهد، وهو المعبَّر عنه ب«الإجماع السكوتي»، وفي أصل الاختلاف به خلاف شديد، والمحققون على أنَّه لا يحتج به كما أفاد الفخر الخطيب(ت:606) تبعًا للشافعي(ت:204) وإلى ضعف حجيته ونتائجه انحاز إمام الحرمين ثم تنازل لقبوله إذ طالت السنون وبلغ الجميع، فيكون حجة ضعيفة. وهذا النوع أيضًا بيئة اجتهادية لمن بعدهم من الأئمة والمجتهدين في تحرير إشكالاته، وحل دعاواه. ❍ وبفرز الأعمال الإجماعية ضمن هذه الثلاثية تتكئ أعمال البحث العلمي وينهض التحقيق في المسائل، والنظر في الأدلة، ويقوم الحجاج ويظهر للملأ الخراج والنتاج. وها قد رأيت الحدَّ الفارق بينهما، فبصرك اليوم حديد «فإذا رأيتم اختلاطه، فحقِّقوا مناطه، وفي أيديكم فيصل الحقِّ دونكم اختراطه». 1. 2. 3. 4. 5.