رغم مرور ثلاثة وثمانين عاما بالتمام والكمال على رحيل الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي إلا أن منجزه الفكري والإبداعي لا يزال غضا طريا، وسيبقى حاضرا في مقام الأدب الإنساني الجميل حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ذلك أنه تجسيد صادق وحي لمفهوم الآية الكريمة (وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)، ولقد كان الأدب الرافعي وما يزال غيثا نافعا، ونورا ساطعا، دافع عن القيم في وجه الانحلال، وعن الهوية في وجه التغريب، وعن الإنسان في وجه كل عوامل التعرية الدينية والفكرية. ومما يحسب لهذا الأديب الفذ تأكيده العملي على أن الفكرة الإسلامية ليست نقيضا ضديا للجمال كما ادعى كثير من أعداء هذه الفكرة، وخاصة الذين جايلوا الرافعي، فانبرى لهم لا ليصدهم بردود أفعال نزقة مشتتة؛ ولكن باحتضان الفكرة الإسلامية نفسها والغوص في إدهاشاتها الجمالية، والكشف عن مكنوناتها الفريدة فكرا وأدبا ودينا ومنهج حياة، وكأن الله جل في علاه قد اختاره لهذه المهمة النبيلة الجليلة، وزوده بأدواتها الفاعلة من استيعاب واسع لشحنات اللغة نحوا وبلاغة وبيانا، إلى معرفة كبيرة بتاريخ العرب في مختلف تجلياته، إلى ملازمة دائمة لكتاب الله الخالد؛ إلى فكر ثاقب، وتأمل عميق، وأسلوب جمالي متميز يمتلك كما هائلا من أساليب الحجاج اللغوي والإقناع الفكري، وقد اختزل الزعيم المصري المعروف (سعد زغلول) وصف البيان الرافعي بعبارة كفت وأوفت حين قال عن كتابه (وحي القلم) بأنه "بيان كأنه تنزيل من التنزيل أو قبس من نور الذكر الحكيم". لقد عاش الرافعي في ظلال الفكرة الإسلامية ينجز ويبدع ويستخرج من أعماق اللغة الشاعرة جواهرها النفيسة تارة في حدائق القرآن والحديث الشريف وتارة في منابر الفكر وتارة في شرفات العشق والجمال فتأتى له بذلك أن يضيف إلى المكتبة العربية مؤلفات عبقرية متميزة منها وحي القلم والسحاب الأحمر والمساكين ورسائل الأحزان وأوراق الورد وحديث القمر وهي أسفار ماتزال حاضرة في المكتبة العربية وملازمة لاهتمامات القارئ العربي رغم ما واجهته هذه المؤلفات من تغييب وتهميش وإقصاء. وأزعم أن مؤلفات الرافعي تمثل بوابة إجبارية لكل من أراد الولوج إلى عوالم الأدب، بمختلف ضروبه وأجناسه، كما أزعم أنها تمثل نموذجا واضحا لفلسفة الجمال الإسلامي وأنموذجا بيانيا باهرا استرشدت به الأجيال اللاحقة به، فظهر صداه في مؤلفات الشيخ محمد الغزالي ومصطفى الشكعة ومحمد سعيد العريان لكن أنصع تأثير له ظهر في التحفة الجمالية (في ظلال القرآن) لسيد قطب، إذ يلحظ القارئ للظلال ولمنجز الرافعي كثيرا من التواشج والتماهي بينهما جماليا وفكريا. رحم الله الرافعي فقد كان وما يزال مدرسة أدبية قائمة بذاتها، وليس ثمة منصف قرأه إلا واعتبره معجزة البيان، وأمير البلاغة، والذروة في الإبداع فكرا وجمالا.. ومن حقه كواحد من نجوم الضاد أن نحتفي به قراء نهمين فهو أديب الأمة وقلمها المتوضئ بحق.