من معركة الخندق إلى معركة الطوفان:(ولتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا). غربال التطبيع ليس بمقدوره أن يحجب الشمس، و كتابات الزيف المتزلفة ، و المتملقة، و المنبطحة ؛ ليس بمقدورها أن تطمس حقائق التاريخ. منذ كانت راية الهداية و التغيير ترسل أشعة النور مطلع فجرها بمكة المكرمة، برسالة الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم ، و تغالب عنت قريش و فجور خصومتها، شدّ وفد من قريش رِحاله إلى يثرب حيث كان قد لجأ إليها اليهود هربا بعد تشريدهم من كل مكان حلوا فيه؛ لخسة طباعهم و سوء سلوكهم في أي مكان يفرون نحوه، أو يلجؤون إليه. راح وفد قريش البائس يسأل يهود؛ و قد ضاقوا ذرعا بنور هدي محمد شأن البوم و خفافيش الظلام فسأل وفدهم اليهود أديننا خير أم دين محمد؟ فرد عليهم اليهود الذين يؤمنون بالجبت و الطاغوت بل دينكم خير من دين محمد. لم تكن عداوة اليهود للرسول عليه السلام،و للإسلام من بعد الهجرة إلى المدينةالمنورة، و إنما كانت مبكرة و الإسلام مايزال يضع نور لبناته الأُوَل. بَرِمَ يهود بهجرة الرسول و المسلمين إلى المدينة، و راحوا يكيدون ويمكرون ، و كانت المعركة الأولى مع بني قينقاع بسبب خيانتهم للعهد الذي كان أبرمه الرسول كدستور لكل مجتمع المدينة بمختلف طوائفهم و معتقداتهم ، ثم لحق تلك المعركة معركة المسلمين مع بني قريظة لغدرهم و خيانتهم أيضا. جمع حيي بن أخطب اليهودي كيده، و مكره، و حقده، و هو يُطرد من المدينة؛ ليبدأ بنسج خيوط كيده و حبال مكره من خيبر التي فرّ إليها. و وجد في مشركي قريش ضالته و هم الذين أتوا يهود من قريب يشكون دين محمد. و اليوم يأتيهم حيي بن أخطب و معه نفر من يهود يكيدون للرسول عليه السلام، و المسلمين، و يحرضون قريشا عليهم، و يعدونهم أن يكونوا معهم ، و يؤكدون لهم أنهم قد حشدوا معهم قبيلة غطفان، و قبائل مشركة أخرى، و يُمَنّون قريشا أنه قد آن أوان استئصال الإسلام و المسلمين. تبًّا لها غَطَفان، و هي تتخلى عن عروبتها ، و تبا لها قريش ، و قد أعماها الحقد، و غرقت في وحل منافعها، و الخوف على فقدان مصالحها ، فلم تبالِ منها أن تتنكر لأرومتها ، و حسبها و نسبها التي تدعي الفخر فيه، و الزهو به. أثمر حقد يهود أن جمع تحالفا ليستأصل به المسلمين ، و إبادتهم بزعم مخططهم، و على يد تحالفهم ! تفاجأ تحالف يهود حين وصل مشارف المدينة أن وجدوا أمامهم خندقا طويلا ، يحول بينهم و بين اقتحام المدينة، و طيلة مدة حصارهم لم يستطع تحالفهم أن ينال من المدينة أو يجد ثغرة ينفذ منها. أيعود يهود خائبين و قد جمعوا تحالف الاستئصال؟ و أنّى لهم إن عادوا خائبين أن يجتمع لهم هذا التحالف من جديد؟ و من يضمن لهم أنّ النخوة العربية لا تستيقظ؟ و من يأمن أن الحمية العربية لا تثوب إلى رشدها ؛ فتأبَى أن يكيد العربي للعربي، أو أن يقتل العربي العربي؟ و نبش حيي بن أخطب كل ما بداخله من كيد و حقد و مكر؛ ليهديه شيطانه إلى أن يمضي إلى آخر قبيلة يهودية في المدينة لاتزال على عهدها مع محمد ، هي بني النضير ، طالبا منها أن تغدر بعهدها، و تنقض الميثاق، لتمثل منفذا لتحالفهم ينفذون منه ؛ فتمنّع في البداية زعيمها مُقرا بأنه لم يَرَ من محمد إلا كل صدق و بر و وفاء ؛ غير أن شيطان يهود الأول ابن أخطب ظل يأتيه من كل ناحية و جانب، حتى أيقظ كل خسة في زعيم بني النضير، و أعاده إلى حقيقة يهوديته التي لا ترقب إلًّا ، و لا ذمة، و لا عهدا ، فأعلن غدر بني النضير ، و نقض الميثاق، و هي حقيقتهم منذ ما قبل السامري، و بعده، و حتى نتنياهو و من يخلفه. حينها في معركة الخندق لم يكن المسلمون، يأملون في نخوة عربية تتحرك، أو حَمِيّة عربية تثور. عروبة غطفان يومها لم تأنف أن تنقاد لحلف يهود ، و لا استهجنت أن تجد نفسها ذيلا لهم ؛ و لكنها حين عرض عليها الرسول ثلث ثمار المدينة على أن تنسحب من ذلك التحالف المشين، رضيت، و وافقت. ويحه ذلك الفخر و التفاخر بالنسب ، و الحسب ، و المحتد، و الأرومة الذي تموت نخوته، و تغيب حميته عند المبادئ و القيم ، و يمحو كل ذلك لُعاب الطمع و مزاعم المنفعة ، و أوهام المصالح، فيخور، و يسقط في أوحالها. و اكتمل بغدر بني النضير الحصار، و أُحْكِم التطويق، و قال قائل النفاق : ( إن بيوتنا عورة ) فيما قال من على شاكلته : ( فلنجاهد بالسنن )، و مهما تعددت الأصفار ، فهي مجرد غثا، و تبقى المبادئ ، و المُثُل العليا، هي من تقود إلى الكرامة و العُلا. و انتصر المسلمون في معركة الخندق ؛ بثباتهم على المبدأ، و صمودهم في وجه الطغاة و الطغيان: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه). فكيف تحقق النصر؟ إنه بيد الله، و بالكيفية التي يريد، يمنحه الصادقين المخلصين. و من الخندق إلى الطوفان ، زمن كله عبر ، و عظات، و دروس؛ لمن ألقى السمع و هو شهيد.