في ليلة ذكرى تأسيس الإصلاح، تتنفس الكثير من الخواطر والأفكار والرؤى والتساؤلات. الحزب الذي يحضر بفاعلية في كل مراحل الأحداث لآخر أربعة عقود، سيودُّ كلّ يمني أن يقول له أو عنه أو فيه شيئاً، ينقد، يقترح، يتساءل، يعاتب، يشكر، يثني، يقدح، يتهم أو يدفع. يحدث هذا في ليلة ذكرى التأسيس من كل عام تقريباً، يحدث في السياق الطبيعي والمفترض، فما التنظيم السياسي، إن لم يكن حديث الناس، وملهم جدلياتهم، وموقد آرائهم واتجاهاتهم. الحقيقة أنه يمكن قول الكثير، فطالما كان الإصلاح عامل تأثير في مناسباته ومواقفه وتحولاته، يُحمد له ما يُحمد، ويؤخذ عليه ما يؤخذ. لكن سياق المناسبة اليوم يقتضي حديثاً من قبيل ذكر المناقب وتخليد المآثر. مما يُحمد للإصلاح، ويوثق ك سِمَة ملازمة لنهجه السياسي في مختلف مراحله، هو حفاظه على الحياة السياسية وحرصه الدائم على خلق بيئة صحيّة للعمل السياسي بعيداً عن تجارب العنف، التي شهدها صراع المكونات شمالاً وجنوباً قبل ذلك، ويمكن التدليل عليها بثلاث محطات فارقة: الأولى: تجربة اللقاء المشترك، وهي الصيغة السياسية التي أنتجها التجمع اليمني للإصلاح مع الحزب الاشتراكي اليمني وانضوت تحت مظلتها أبرز الأحزاب والتيارات اليسارية والقومية في اليمن، وهي صيغة توافقية للمعارضة اليمنية جمعت المتناقضات الفكرية والأيديولوجية في إطار من البرجماتية السياسية. وقد أثارت هذه الصيغة الفريدة في العمل السياسي، الكثير من المخاوف والتوجّس لدى النظام الحاكم حينها، والكثير من الارتياب والشكوك أو التفاؤل والإعجاب لدى المهتمين والمتابعين وعامة اليمنيين بما فيهم قواعد أحزاب اللقاء المشترك، لكنها بالمقابل أنتجت ديناميكية غير مسبوقة في الحياة السياسية، وأثْرَت الساحة السياسية بالرؤى والبرامج والتصورات، وأنعشت الصحافة المعارضة والأهلية وخلقت هامشاً للأصوات المطالبة بقيم الحرية والعدالة الاجتماعية أفضت بعدها لثورة يناير 2011. ولعل أبرز تمثيل صريح للحياة السياسية النشطة التي أنتجها اللقاء المشترك هو مشروع "النضال السلمي لنيل الحقوق والحريات" وهو نهج نضالي عمل لعدة سنوات، في إطار سلمي منضبط بمقتضى الدستور والقانون، لمجابهة مسار التوريث الذي انتهجه نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح منذ انفراده بالسلطة أواخر التسعينيات. بلغ مشروع النضال السلمي ذروته في الانتخابات الرئاسية 2006، حين قدم اللقاء المشترك مرشحاً توافقياً لرئاسة الجمهورية أمام الرئيس صالح. الثانية: بعد أن اجتاحت ميليشيا الحوثي العاصمة صنعاء وفرضت الانقلاب والسيطرة على مؤسسات الدولة، حرص الإصلاح على مسار الحوار والتوافق السياسي للتخفيف من تداعيات الانقلاب واحتواء آثاره مع بقية القوى الوطنية والسياسية، فقبِلَ باتفاق السلم والشراكة الذي وُقّع برعاية الرئيس هادي ومبعوث الأمين العام للأمم المتحدة جمال بن عمر، ثم شارك الإصلاح في جلسات الحوار التي أدارها ابن عمر في موفنبيك مع جماعة الحوثي، عبر رئيس الحزب الأستاذ محمد اليدومي، أو عضو هيئته العليا محمد قحطان. كان قحطان يحضر إلى قاعات الحوار لا يحمل إلا "الرديف" أو الشال على كتفه دون لبس الجنبية حتى، مع أن ممثلي الجماعة كانوا يحضرون بالبنادق والمسدسات، أحدهم كان يضع مسدسه على الطاولة مع بداية كل جلسة حوار. رافق هذه المرحلة، تحديداً، الكثير من البوربجاندا والضخ الدعائي الهائل الموجّه ضدّ الإصلاح كهدف للميليشيا التي كان يطلق عليها رفقاء النضال القديم اسم (القوة الفتية) معتبرين الإصلاح عائق المدنية، إذ ستعمل (القوة الفتية) على إزالته من طريق الدولة الحديثة. تلقى الإصلاح وابلاً من التهم والشيطنة والتخوين بعد انسحابه ميدانياً من مساندة الجيش حين تقاعس الأخير عن منع الميليشيا من إكمال الانقلاب، واكتفى الإصلاح بدوره السياسي كحزب مدني يقدم الدعم والمساندة لخيارات الدولة في إطار دستوري وقانوني واضح، لا يحل محل الدولة ولا يقرر بالنيابة عنها. ورغم الشيطنة والتخوين، حرص الإصلاح على بقاء هامش العمل السياسي ومحاولة تشكيل مسارات سلمية لحل الأزمة المترتبة على الانقلاب واحتواء تداعياتها، لكن الأقدار كانت ترسم مسارات أخرى. أما التجربة الثالثة، فيعمل الإصلاح من خلالها للحفاظ على ما تبقى من القوى الوطنية الفاعلة في البلاد بعد سنين الحرب التي طحنت الحياة السياسية، وفككت أحزاباً وغيبت أخرى وأنتجت كيانات تشكلت من رحم الحرب وهبطت على ظهور المدافع والمدرعات لا يربطها بالحياة السياسية وقيم العمل المدني أي تاريخ أو تجربة، وتغيرت الكثير من التوازنات وقواعد اللعب بناء على القوة العسكرية وليس الفعل السياسي. في هذا المشهد المشوّه للحياة السياسية. يعمل الإصلاح ابتداءً على الحفاظ على كيانه التنظيمي والسياسي، ومع انقسام المواقف والقرارات والقيادة لأحزاب أخرى بين الشرعية والانقلاب، بقي الإصلاح محتفظاً بموقف واحد (دعم ومساندة الشرعية) وقرار واحد (مواجهة الانقلاب واستعادة الدولة) وقيادة واحدة وكيان واحد وتواجد صريح لا يحتمل تأويلاً ولا يحمل وجهاً آخر. ثم عمل تالياً من خلال المساعي الدبلوماسية على توحيد التشكيلات والكيانات السياسية الداعمة للشرعية تحت رؤية وطنية واحدة ولافتة واحدة (أحزاب التحالف الوطني لدعم الشرعية) بالإضافة إلى مساعيه الأخرى في لملمة شتات المؤتمر الشعبي العام، الحزب الجماهيري الكبير ذي التاريخ السياسي والشعبي الممتد حتى ثمانينات القرن الماضي، ودعم فعالياته ومشاركته ميادين المسؤولية والمقاومة ومدّ جسور التواصل مع قياداته في الداخل والخارج بهدف بناء حياة سياسية فاعلة وسط أجواء الحرب ومسارات العنف. بهذه الروح المسؤولة تجاه الأحزاب والمكونات، يعي الإصلاح أهمية الحياة السياسية واستمرار تدفقها في شرايين الوطن، وأن استمرار حيويتها لن يتحقق إلا بأحزاب وكيانات سياسية وازنة بتاريخها وقواعدها ونهجها السلمي. وأعتقدُ أن هذا ما كان يريده الإصلاح من الأحزاب السياسية في اللحظات الفارقة، حين وقف الإصلاح وحيداً. لم يكن يريد أكثر من أن يبقى بصورته كحزب سياسي في وعي الناس وخطاب الرفقاء والمنافسين، بعيداً عن خطاب الشيطنة والاتهام بالملشنة ومحاولة جره إلى مربعات العنف وإلصاقه بالجماعات المسلحة وما أنتجته وتنتجه من دمار للبلاد ومؤسساتها قبل أن تكون دماراً على الإصلاح ذاته.