الصدادمة العرب وبداية عصر الشعوب نبيل شرف الدين خرجت اليوم معظم الصحف العربية تحمل عناوين " فاقعة"، تتمحور حول شجب محاكمة المخلوع صدام التكريتي، بل وذهبت إحدى الصحف المصرية إلى وصف أعضاء الحكومة العراقية بالعملاء، ومحاكمة صدام بالمهزلة، ولم يكن ينقص هذا المشهد الصحفي المتشنج سوى نشر شعارات البعث وأيقوناته، لتزين مقالات الفقيه أيمن الظواهري، الذي بدا أنه يتقارب مع المشهد السائد، ولم يعد خطابه يختلف كثيراً عما باتت تعج به صحف الأنظمة العربية الآيلة للسقوط، التي تابع عرابوها وخدمها الفصل الأول من مصير ينتظرهم جميعاً، إن شاء الله، إيذاناً بنهاية عهد القادة الملهمين، وطوال العمر، والعسكريتاريا العربية، والأغوات، ليبدأ عصر الشعوب، التي ستحاكم جلاديها إن عاجلاً أو آجلاً، وستجعل "إللي ما يشتري يتفرج"، بعد قرون من الاستبداد المتمرس خلف الدين تارة والوطن تارات أخرى. وبينما تعج صحف وإذاعات وفضائيات العرب من الدوحة إلى القاهرة مروراً بالرياض وعمّان ورام الله والخرطوم وطرابلس الشرق والغرب وغيرها، بكل صنوف الاتهامات المعروفة للحكومة العراقية الانتقالية، تصفها تارة بحكومة العملاء، وأخرى بصنيعة أميركا، وتحرض العراقيين عليها، بينما لا تجرؤ أي صحيفة ولا فضائية بالاقتراب من نظام الحكم الذي تعيش في ظله، مكتفية بالتجاهل كما تفعل "الجزيرة" أو "العربية"، أو متبجحة بمقولات صفيقة، خلع قائلوها "برقع الحياء" من طراز "أزهى عصور الديمقراطية"، أو تعايشت مع العبث والفوضى شأن ما يحدث في ليبيا ولبنان والسودان، بينما يتسابق الجميع في جلد العراق والعراقيين، والاستئساد على نظام ومجتمع أبشركم أنه سيكون منصة إطلاق للحريات والحداثة ما زال يتعافى في طور النقاهة من داء الاستبداد، وسعير الحروب المتصلة، وثقافة "المقابر الجماعية"، وسياسات "الرشى الجماعية"، وامتطاء الشعوب. والحاصل ببساطة لا تتطلب أية أدلة، أن صحافياً ولا إعلامياً عربياً يجرؤ على انتقاد أي حاكم في العالم سوى ثلاثة، بوش وشارون والحكومة العراقية الجديدة، ولا يقتصر الأمر على ابتلاع مهانات "المستبد المحلي"، بل يتجاوزه إلى تسويغه وتبريره، بشعارات من نوع "الحق الذي يراد به الباطل"، مثل "الإصلاح لا ينبع إلا من الداخل"، "احترام الخصوصية الثقافية والحضارية للشعوب"، وغيرها من الذرائع التي طالما استخدمها كهنة الطغيان وقد امتطوا صهوة الحكمة، وبدا عليهم سمت أصحاب الرسالات، وراحوا يوزعون النصائح المجانية شرقاً وغرباً، فكل ما يتطلبه الأمر "شوية هدوء أعصاب"، غير أنه للأسف فهذا الصنف من البضاعة (أقصد الهدوء الجميل) صار أغلى كثيراً من قدراتنا على التعاطي معه.. فضلاً عن التعود عليه، والتغني بمآثره. ولا أظنه عسيراً أن يعتلي المرء تل الفلاسفة (يذكرني بطريق الفلاسفة في بلدة هايدلبرغ الألمانية) ليمسح بكفيه على الكون، فإذا هو سلام وأمن وخير، لكن للأسف خِبرنا الدنيا ووجدنا فيها الشر والخير، وفيها المعارك التي تجري في "حفر الباطن"، وتلك التي تشتعل في الغرف الوردية، واكتشفنا أن تغييراً من أي نوع لم ينبع من الداخل طيلة التاريخ، وعلى امتداد الجغرافيا، ولا أفهم لماذا يمسك حكماء الطغيان، وكهنة الاستبداد عما خلفته "الحملة الفرنسية" من آثار ونتائج على مصر والشرق برمته؟. ..... ولا أدري إن كان "حكماء الداخل" يجهلون أو يعرفون أن هذه الحملة شئنا أو أبينا كانت أول حراك حضاري حقيقي زلزل مصر، وبالتبعية المنطقة برمتها، حين جلبت معها أول مطبعة، وأصدرت أول صحيفة، وفكت رموز حجر رشيد، وأنكب علماؤها على إعداد أول مشروع بحثي ضخم مازالت له قيمته العلمية الرفيعة، وهو موسوعة "وصف مصر"، ناهيك عن التصدي للخرافات والخزعبلات وروح الاتكالية التي أشاعها "العثمانلية" وجعلوها تستشري في البلاد وبين العباد، حتى جاء "الفرنساوية" فأسسوا المستشفيات، وأوفدوا الإرساليات ونشروا الحداثة و.. و.. الخ. سافر رفاعة الطهطاوي مع البعثة إماماً ليصلي بهم في باريس، فعاد ليصبح رائد النهضة وإمام التنوير، وهاهم "أبناء رفاعة" الآن يحملون مشاعل التنوير وما تبقى منها حتى يومنا، وهذا يقودنا لسؤال بسيط ومباشر هو : ألم تكن الحملة الفرنسية هذه "غزواً" صريحاً، عاد بعدها "الفرنساوية" إلى بلادهم، وبقي التنوير، وبقيت الحداثة ؟ دعونا من هذه، وتعالوا نحتكم إلى التاريخ الأبعد، ونرى ماذا فعل الرومان بمصر حين ترهلت حضارتها الفرعونية وشاخت، وكيف صنع البطالمة دولة فتية ، أو بتعبير أدق نفخوا في روح الأمة فعاد اليها شبابها، وصارت الاسكندرية حينئذ منارة الدنيا وحاضرة الزمان، وأسست مكتبة الاسكندرية، وهي بالمناسبة لم تكن مكتبة بالمعنى المتعارف عليه الآن، بل كانت جامعة أو أكاديمية تخرج فيها كل أساتذة ذلك العصر من فلاسفة وكيميائيين وفيزيقيين وحتى علماء اللاهوت والكهنة والأدباء. ألم يكن الرومان "غزاة"، ومضوا لتبقى الاسكندرية حتى يومنا منارة ومدينة بألف وجه وألف أسطورة وألف حكاية وآلاف السنوات ؟ ولعل "حكماء الداخل" يجهلون أو يتجاهلون حقيقة بسيطة، مؤداها أن الحضارة بطبيعتها "انجاز إنساني"، وهي ملك لكل البشر، فالديمقراطية ليست حكرا على الغرب، والإسلام ليس دينا لأهل نجد وحدهم، وأميركا الراهنة هي نفسها روما هذا الزمان، والأميركان الآن هم "موجز العالم"، من قوقاز وجرمان وزنوج وملونين وهنود وصينيين وغيرهم، وحدث انهم أصبحوا القوة الأعظم، انطلاقاً من تراث الغرب، وتراجعت قوى أوروبا وسوف تتراجع أكثر لتصبح مجرد محميات أميركية، إن لم تكن هكذا بالفعل في الوقت الراهن، لا تملك سوى بعض المشاغبات أو المناكفات على الطريقة الفرنسية. ...... وتعالوا نحسبها، في محاولة لرسم ملامح المستقبل القريب، الذي ترتعد له فرائض الأنظمة وعرابيها والمستفيدين من استمرارها، لنكتشف التالي: * أميركا ضربت نظام "التكارتة"، وألقت القبض على "النشامى" و"الأزلام" وسلمتهم في الأغلال إلى الشعب العراقي ليحاكمهم. * سيتبلور إن عاجلاً أو آجلاً في العراق نظام ليبرالي على الطراز الغربي، ولن تفلح محاولات إشاعة الفوضى من خلال دعم البعض للإرهابيين في تعويق المسيرة طويلاً. * بدأ "هذا البعض" في دفع جوقة "حكماء الداخل" لاتهام النظام العراقي الجديد بالعمالة لأميركا، وهذه تهمة لن يتوقف حكام العراق الجديد أمامها كثيراً، (تدري ليش ؟) .. لأنه وفقاً لمنطق وحسابات "حاخامات العمالة" السائدة في الذهنية العربية، فإن كل الأنظمة الحالية هي أنظمة عميلة وأحياناً بالمجان، بينما هؤلاء سيكونون عملاء مقابل مستقبل ودولة حقيقية، تمتلك الحسنيين الماء والنفط، فضلاً عن الرجال والنساء والتاريخ والجغرافيا * سيتم إن عفواً أو عمداً تصدير هذا النموذج شرقا وغرباً (توابع الزلزال)، فتطرح على مستوى الشارع العربي برمته أسئلة من نوع ماذا كسب العراقيون وماذا خسروا ؟ * سيتضح ان العراقيين لم يخسروا الكثير، فأي نظام يحل محل نظام صدام لن يكون في استبداده ولصوصيته وعنتريته وغبائه السياسي، وعدد ضحايا الحرب ومحاولات إشاعة الإرهاب باسم المقاومة، لا يتجاوز ضحايا صدام وقصي وعدي وعلي الكيماوي وبقية "شلة الأنس" أو "شلة البعث". * سيربح العراقيون نظام حكم عصرياً متسقاً مع العالم، غير معزول، وغير محاصر، وسيبيعون بترولهم، بدلا من تهريب عصابة صدام له، وتوزيعه في صورة (كوبونات) على أصحابنا إياهم من صنف رغده وسنبل و"عم حزمبل" صاحب شعار "النفط مقابل القومية". * سينهض العراق، وتستنفر طاقات ابنائه، ويستغلون ثرواتهم وقدراتهم، ويستنفرون مخزونهم الحضاري الهائل ليصنعوا مؤسسات مجتمع مدني حقيقية. وفي الآخر ماذا سيجني الأميركان ؟ هل سيأخذون بترول العراق مجاناً ؟ .. هذا غير وارد، بل سيشترونه وفق أسعار السوق، وهو ما تفعله ابو ظبي وقطر والسعودية وام القيوين هل سيسرقون دجلة والفرات معهم ؟! إذن فحسابات الربح والخسارة على المدى القريب والبعيد في صالح الشعب العراقي، لأن تجربة كهذه لن تسمح أميركا بفشلها، وستدعمها أميركا وأوروبا واليابان حتى تقف على أقدامها، لتكون مشروع مارشال شرقي، على النحو الذي حدث بعد الحرب العالمية الثانية. .... ثم تعالى هنا عزيزي القارئ هنا واجبني بصراحة وبساطة، ودون تقعر والتفاف وتنظير وصداع، من كان يستطيع ازاحة حاكم مثل صدام، فضلاً عن نظرائه من ثلة الطواغيت الجاثمين على صدر الأمة منذ قرون ؟ الشعوب ؟، "سلامتها الشعوب" ومع احترامي أو حتى من دونه فهذه الشعوب العربية، كما لا يخفى على أحد، تم تدجينها، حتى صارت لا تصلح إلا للهاث وراء لقمة العيش والنكاح وتعاطي المسكنات والشعارات، ولا أبالغ حين أزعم أن جهازاً أمنياً واحداً في دولة عربية واحدة ولن أقول جيوشاً كفيل بقمع الشعوب وإخراسها إلى الأبد. الأحزاب ؟، "سلامتها أم حسن"، وعذراً للسوقية، فشر البلية ما يدفع إلى ذلك، فهذه الأحزاب ليست أكثر من منتديات رديئة الخدمة، مفككة تعاني كل أمراض السلطة، فضلاً عن تعاستها وخيبتها القوية، ومعظم رجالاتها فاسدون تجاوزتهم كل قطارات السلطة والزمن، ومستعدون لأن يبيعوا "الأضية" مقابل نظرة عطف واحدة من مسؤول حكومي، أو حتى التلويح ب "شبه منصب" أو مجرد "رخصة دكان"، واسألوا أيّاً من منتسبيها، فليس من سمع كمن رأى. ماذا تبقى إذن ؟ لم يبق سوى الجماعات الإرهابية؟، شلة أصحابنا "خسئت يا أبا القعقاع"، وهذه بلية أخرى من طراز أكثر سخفاً، فبعض هذه الجماعات تفرغ لتحريم البوكيمون والزهور وتحريم مشاهدة فضائيتي "الجزيرة" و"الحرة"، وبعضها الآخر لملاحقة الأدباء والفنانين والعشاق الصغار في الحدائق، وبعد أن ينتهوا من هذا "العدو القريب"، سوف يتفرغون إن شاء الله للعدو البعيد، وعموماً ظل هذا هو سلوكهم الأصيل دائماً، وهو تراث موثق في أدبياتهم التي يقولون فيها "إن العدو القريب أولى بالجهاد من العدو البعيد"، وإلا فما معنى أن يترك رجل مثل عبد الله عزام وطنه فلسطين مستباحة ومحتلة، وراح يجاهد في قندهار، ورحم الله جدتي القائلة "اللي يحتاجه البيت يحرم على الجامع". ولماذا تفرغ ابن لادن والذين معه لغزو مانهاتن وكينيا والهند والسند بينما لم يمس شعرة لإسرائيل، ولو شئتم آلاف الإحالات والحالات لزودتكم بها. ....... راهن الكثيرون ومازالوا على صدام و"سخام"، وهتفوا لبقائهم، في لحظة كان يمكن انتهازها بدحرهم، ولو حتى من خلال طائرات رامسفيلد، فمن أزاح مثلاً الأتراك سوى المستعمر الغربي، الذي كانت له سيئاته أيضاً، لكنها كانت تتوارى خجلاً أمام فِعال الترك الذين لم يبنوا سوى التكايا، فلا أقاموا مدارس ولا مصانع، ولا حتى تركوا الناس في حالهم، إذ أشاعوا فيهم روح الخنوع والاتكالية والخرافة، وسرقوا خيرهم وخبراتهم، واقتنصوا العمالة الماهرة ونقلوها إلى بلادهم، بينما بنى الانكليز مدارس ومستشفيات ومشروعات سكك حديدية، وأسسوا البورصة وادخلو نظم إدارية حديثة مازالت حية حتى الآن. يا سادة، نحن اليوم نعيش لحظة تاريخية (أندلسية) لا ننتقي فيها بين السئ والطيب، بل بين السئ والأسوأ، وهؤلاء "الصدادمة العرب" يبيعون للناس الأوهام حين يصورون لهم أن صدام أرحم من غيره، فنظام شائخ مترهل فاسد مستبد، أكل عليه الدهر وشرب، واستنفذ كل أساليب القمع لا يمكن أن يكون أفضل من أي شئ، ولعلني لست بحاجة إلى التأكيد على أن "لانغلي" لا تعاني نقصاً في العملاء العرب سواء من الحكام أو حتى باعة البطيخ، فالمعروض أمامهم أكثر من حاجتهم، وإذا كان هناك من "الصدادمة" من يؤكد أن صدام ذاته كان عميلاً منذ حربه مع إيران، فكيف يعودون لإقناعنا الآن بأنه أصبح بين عشية وضحاها نظاماً "وطنياً"، ينبغي أن ندافع عنه، ونحزن لأجله، وهو المتبلد حتى على الصعيد الإنساني إذ لا أتصور أن رجلاً من عامة الناس، لو كان رأى ابنيه جثتين تعرضان عبر الشاشات في أكبر حملة تشهير، لمات كمداً واستيقظ ضميره، لكن هذا المخلوق السيكوباتي الوضيع، لم يرف له جفن، ولم تسقط من عينيه دمعة، وبالتالي لا يمكن أبداً أن يكون موضع تعاطف، فضلاً عن كونه تسبب في يُتم آلاف الأطفال، وتشريد ملايين الناس، ناهيك عن إزهاق أرواح البشر بالجملة، وما اقترفه زبانيته وولديه المقبورين من فظائع لا أخلاقية، والتي أتوقع أن تظهر كافة تفاصيلها في المستقبل المنظور. وباختصار شديد، أتصور أن العراق سيكون أجمل .. وسيتسع لكل البشر، ومن هنا ستكون خطورته على الأنظمة القمعية والشمولية التي يلهث قادتها الآن لا لشئ إلا لأنهم يدركون مع مستشاريهم إن المد سيطالهم، وستبقى الشعوب، وسيحاكمون وابناؤهم من بعدهم. سيصف كهنة "التغيير من الداخل" حاكم العراق الجديد بأنه (كرزاي العراق)، ومالو، ومن هو الحاكم الشرق أوسطي الذي ليس كرزاي ؟ ألم تصبح أفغانستان الآن أفضل من عهد البائدة "طالبان" ؟ ألم تستقر وتندمج في المجتمع الدولي؟، ولا عليك عزيزي القارئ من تفجير قنبلة هنا، أو قتل جندي هناك، فهذه ليست أكثر من "حلاوة الروح" لقتيل يحتضر اسمه الطالبانية التي تحولت من نظام حان حاكما إلى عصابة تضرب بلا وعي، ولا هدف، ولا مستقبل، ولن تعود طالبان مرة أخرى للحكم ، الا إذا عاد "الفوهرر" من قبره المجهول إلى ألمانيا وانتخبه الألمان ، وهذا هو المستحيل بعينه. ...... وأخيراً أدرك أنه لن تفيد أية تأكيدات بأنني رغم كل ما سقته يأساً من أي إصلاح محتمل، على أيدي هذه الأنظمة سواء كان من الداخل أو الخارج أو حتى من المريخ، لكن ربما يفيد التنبيه إلى أننا لاندعو إلى أكثر من التعامل مع الظرف الدولي والإقليمي الراهن ببراغماتية، أصبحت تقتضيها الآن مصالح الشعوب، وتفرضها لغة السياسي، لا أحلام الفنان، ولا مثالية الثوري، ولا طوباوية رجل الدين، وشعار هذه البراغماتية باختصار، أنني "لا أروج لأميركا، لكنني أمتطيها وأستخدمها"، وسبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين. والعاقبة عندكم في المسرات