مازالت الأجواء الحزبية تفرض نفسها على الساحة اليمنية، وتترسّخ بفعل الفكر الحزبي ، ما جعل للقضية عمقاً ثقافياً وفكرياً يتوارث اليمنيون أفكاره كما يتوارثون مشاعره وأحاسيسه، في أجواء متنوعة قد تفرض عليهم اللقاء والتعاون، ولكنَّه يبقى في حدود المجاملة والمداراة الحزبية التي لا تنفتح فيها النفوس على الحقيقة بتجرّد وموضوعية وحيادية، وبهذا، أصبح للاحزاب التي تمثل هذا الفريق أو ذاك مصالح مستقلّة، تختلف عن مصالح الفريق الآخر، تماماً كما هي الدول المستقلّة، وربَّما ينتج الموقف لكلّ منهما تحالفات مع أعداءالوطن للاستعانة بهم على الجانب الآخر, بل يظل للحقيقة المزعومة في نفوس أصحابها، المعنى الجامد الذي لا يمكن أن يتحوّل إلى أيِّ شيء يثير الحركة في اتجاه اللقاء لأجل مصلحة الوطن، لأنَّ القضية المفروضة من خلال ذلك كلّه، هي أنَّ الصفة الطارئة تحوّلت إلى ما يشبه الصفات الذاتية التي لا تنفصل عن الشخص مهما اختلفت الظروف والأفكارمع هذا ما زالت الأحزاب تسير الحياة في اليمن شوطاً بعيداً وساعدت على خلق الحواجز وتعميق الفواصل بين اليمنين، بالمستوى الذي تبتعد بهم عن الشعور بالوحدة الفكرية والعملية في المجالات العامة. وتطوّر الأمر إلى أبعد من ذلك، فتحولت الى احزب دينية،فكانت فتاوى التكفير التي يكفّرون بها بعضهم بعضاً بمختلف التحليلات والتأويلات القريبة والبعيدة، حيث يتحوّل المسلم إلى كافر نتيجة فكرة فرعية، أو فكرة خلافية لا تمسّ الجذور في العمق. ومن هنا، كان من الطبيعي أن تتوتّر المشاعر الدينية في مثل هذا الجوّ المشحون، في الاتجاه المضادّ للعلاقات الطبيعية التي يجب أن تشمل اليمنين في واقعهم الاجتماعي والسياسي والنفسي إنَّني أحاول هنا الإشارة إلى بعض العوامل والمؤثرات الطبيعية التي أسهمت في تمزّق اليمن، وخلقت في داخلهم الحواجز النفسية والفكرية التي تعمّق الفواصل بينهم، وبالنسبة لجوانب الحكم والسياسة العامة. وقد كان لهذه الخلافات دور كبير في إثارة الحقد والبغضاء والعداوة، وفي تفجير الحروب، وفي إزهاق الدماء البريئة الطاهرة. وربَّما كان البعض من هؤلاء الذين يعيشون هذه الخلافات، ممّن يدفعه الإخلاص للفكرة الخطأ إلى القتال باسم القداسة والتديُّن، لغفلته عن طبيعة الخطأ في فكرته، وربَّما كان البعض منهم يقاتل باسم المنافع والمغانم، بعيداً عن أيِّ ارتباط بالحقّ أو بالدين، ولكنَّه يستلّهما من أجل مآربه، وفي كلتا الحالتين، كانت الخلافات تتّجه إلى العنف الجسدي والفكري والكلامي، انطلاقاً من المواقف المخلصة للخطأ ظناً أنَّه الحقّ، أو من المواقف المشدودة للأطماع والنزوات الشخصية السائرة في اتجاه الباطل وقد أدى الفهم الخاطئ للأحديث دوره الكبير عندما تمّ توظيفه في إضفاء صيغة القداسة على ما يختلفون فيه، فقد شعر الحاكمون وأتباعهم والنافذون من الشخصيات الذين يرعون هذه الاحزاب، بأنَّ قدسية الخلاف تفرض وجود شرعية دينية لما يختلفون حوله من أشخاص، وما يفيضون فيه من قضايا، مما يجعل الاندفاع في هذا السبيل- الذي يسّروا طريقه - شأناً دينياً مقدَّساً، ويجعل من التضحية في هذا الاتجاه هدفاً شرعياً عظيماً، ولا بُدَّ لهذا كلّه من أن يثير الحماس في نفوس هؤلاء وأولئك، حتى يدفعهم إلى السير في الخطوات والمواقف الحادّة التي تغري بالقتل والقتال وفي ظلّ هذا الواقع المتمزق المهلهل للحياة التي يعيشها اليمنين اليوم، نلاحظ في الساحة تنامي الشعارات التي تتناول توجه الحزب كمجموعة تحمل وجهاً واحداً دينياً, و عندما نبحث عن خلفيات ذلك كلّه، سنجد أمامنا الكثير من مصالح الوطن التي تتعدى الحزب الواحد ساعية لكي تجعل منه أداة من أدوات الصراع التي يُحارب بها ابناء الوطن الواحد بعضهم بعضاً. ولذا، فإنَّ الاحزاب لا تحاول أن تعطي أيّ مضمون جدّيّ وأيّة روح حركية، بل تجعلها خالية من كلّ مضمون، فارغة من كلّ روح، لأنَّ مهمتها هي مهمة الطبل الذي يرنّ دون أن يحمل في داخله سوى عنصر الإثارة والضجيج, ولعلّ السرّ في ذلك كلّه، هو أنَّ الذين يوكل إليهم أمر تحضير الشعارات في اللجان التحضيرية والتنفيذية، هم أوّل من يخاف منها على ما يملكون من امتيازات داخلية وخارجية.. ولذا، فإنَّهم مؤتمنون على الاحتفاظ بسرّ المهنة، وعلى توفير الشروط الضرورية للعبة السياسية التي يُراد لها أن تمرّ بسلام ففي كثير من الحالات نلاحظ، وجود كثير من العوامل الجزئية المتمثّلة ببعض الأوضاع الشخصية، التي تتجسّد في طموح سياسيّ شخصيّ أو عائليّ يطرح نفسه في الساحة كأداة من أدوات اللعبة لتفجيرالوضع في اليمن وتقسيمه، وإجهاض طموحاته الكبيرة في التكامل والنموّ والتقدّم بمختلف الصراعات الحزبية والشخصية والطائفية والمذهبية، من أجل استنزاف الطاقات وتحويلها إلى طاقات تتفجّر ضدّ نفسها. وبذلك، تصبح طاقات خائرة متعبة لا تملك لأنفسها نفعاً ولا ضرّاً، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، نواجه الهجمة الكبرى على الثروات الموجودة في بلادنا التي تتصارع الدول في سبيل السيطرة عليها، وهي تعمل على أن يعيش اليمنيون أجواء اللعبة، فينقسمون بين فئة تؤيّد هذا المعسكر، لتنفّذ مخطّطاته في آفاق الحرب والسلم، وفئة تؤيّد المعسكر الآخر في الآفاق التي يتحرّك فيها.. وهكذا اندفع اليمنيون إلى مجالات جديدة من مجالات التمزّق السياسي وقد نجد أمامنا التمزق الاجتماعي الذي يحصل من تغليب فئة اجتماعية على فئة أخرى من ناحية الحقوق والواجبات، أو بمنح امتيازات لبعض الطبقات أو الطوائف على حساب أخرى، من أجل إيجاد حالة صراع دائمة تفجّر الحقد في حياة المجتمع, أنَ الحل الوحيد يكون بالعمل على إعادة الاحزاب إلى وعي ديني وفكري وعاطفي وسلوكي، وإعادة الاحزاب إلى الاحتكام لمصلحة الوطن, وإنَّنا إذ نتوقّف عند هذا الخطّ في عرض المشكلة ومعالجتها، قد نوافق على طبيعة الفكرة، ولكنَّنا لا ننسجم مع الطريقة السهلة المبسّطة لأسلوب الطرح والعلاج، إذ إنَّ مواجهة المشاكل بهذه الطريقة، تبعدنا عن الدراسة الواعية للجذور العميقة التي ترتبط بها المشاكل، وتبعدنا - في الوقت نفسه - عن فهم الواقع الموضوعي في نطاق الظروف الطبيعية المحيطة,ولعلّ الكثيرين منّا لا يزالون يعالجون القضايا المعقّدة بهذا اللون من التبسيط والسهولة، حتى يخيّل للآخرين أنَّ البعد عن الشعور العميق بوحدة الوطن، لا يمثّل مشكلة في حساب الواقع، وإنَّما يمثّل شبح مشكلة، ما يبعدنا عن الشعور بالخطر، وبالتالي عن التعامل مع الواقع من موقع وعي الخطورة التي قد تحرق الاخضر واليابس. * محامية ومستشارة قانونية [email protected]